استطراد عن كتاب "أعلام وإعلام"

جمال القيسي

الكتب الرصينة الوازنة بمثابة مدارس كبيرة؛ من صفحاتها القليلة، مهما كثرت، تتعلم وتعلم، ومن نصائحها المزجاة بإمكانك أن تأخذ أو تترك. لكنك، في الحالتين، حتما ستتعلم.

مناسبة الحديث هي بقية حديث، وإتمام لمقالي السابق، عن كتاب "أعلام وإعلام" للكاتب والصحافي المخضرم الأستاذ تاج الدين عبد الحق؛ وهي بقية في عدة ملاحظات، ليس من ضمنها، مؤكدا، تكرار اللفت إلى اللغة الأدبية الإبداعية الرائقة التي بذلها المؤلف بسخاء، ودون تكلف، على أجزاء الكتاب. أبرز هذه الملاحظات، تتمثل في الإغفال (المقصود حسب ظني)، من المؤلف والناشر عن تصنيف الجنس الإبداعي للكتاب، حيث سكتا (المؤلف والناشر) عن وسم الكتاب بـ (مقالات) أو (نصوص) أو (مذكرات) وهي، تختلف، كما هو معروف، عن (السيرة الذاتية)، التي لامسها محتوى الكتاب مرات عديدة. والحقيقة أن الكتاب هو كل ذلك، تقريبا؛ فالقالب العام للكتاب جاء على هيئة مقالات منشورة في مراحل مختلفة، وبمناسبات عامة وخاصة، لكنها مقالات جاءت بلغة إبداعية رفعتها لمستوى النصوص، في أحيان كثيرة، فإذا ما تكاملت المقالات على هذا النحو اللافت، فإن الرحلات والانطباعات الحياتية والشهادات والحوارات التي يفيض بها الكتاب، تصنفه، أيضا، كتاب مذكرات، وبارتباط هذه المذكرات بشخص المؤلف، الذي من الممكن بعد قراءة الكتاب أن يرسم له القارئ صورة واضحة؛ فيستطيع معرفة عمره الزمني والمهني، ومكان إقامته، وعمله، وحالته الاجتماعية، وغير ذلك الكثير، فإن إطلاق وصف سيرة ذاتية، ربما، يكون قريبا، إلى حد ما، بحق الكتاب. إلا أن غياب (المحورية الشخصية) التي يكون فيها المؤلف نقطة الأحداث، ومنطلقها، ومنتهاها، ينزع عن الكتاب صفة السيرة، رغم أن الأدوات التي عالج بها المؤلف موضوعات الكتاب، المتداخل التصنيف، تشي بأن ثمة سيرة ذاتية ثرية في طريقها للمطبعة.

أما أبرز الملاحظات حول الكتاب، فتتجلى في القيمة التوثيقية لمراحل مختلفة من عمر دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث تؤكد العديد من المقالات السياسية في الكتاب على سقف مرتفع لحرية التعبير، وفي مرحلة بدايات تشكل الدولة، وحساسية تجربتها، فقد ورد للمؤلف، عبر مقالات تعود لمنتصف السبيعنيات من القرن الماضي، نقدا لاذعا وواضحا للواقع الإعلامي المحلي، والخليجي عموما. نقد قوي مباشر دون تورية، ولا مواربة، فمقالة (من الذي يحاصر الصحف الإماراتية) وثيقة ناصعة على مرحلة انفتاحية متقدمة في الإعلام الإماراتي، حيث لم يستثن الكاتب، آنذاك، من النقد البنّاء، غير المجامل، وزارة الإعلام نفسها، لا بل طالب الكاتبُ فيها الدولةَ بضرورة بناء صحافة حديثة، لا صحافة تستكمل بها صورة الدولة العصرية (المقالة منشورة العام 1976).

وثمة ملاحظة جديرة بالإشارة إليها وهي هيئة الأسلوب الصحافي في الحوارات التي أجراها المؤلف، إذ كان ينطلق في تلك الحوارات بثقة واقتدار، مدججا بذخيرة حية من الإلمام والمعرفة بشخص من يحاوره، وإحاطة واضحة بالتكوين المعرفي والنفسي الذي عليه الضيف، فكانت أسئلته (التحقيقية) تأتي مداهمة ومثقفة وطريفة، وتنم عن احترافية وإخلاص للمهنة. إضافة لذلك، فإن حوارات الصحافي الأستاذ تاج الدين عبد الحق حريصة على المبدأ المهم في الحوارات الصحافية المحترمة التي يخاطب فيها الصحافي ضيفه بنديّة لا مراء فيها، وبتأدب غير متطامن؛ فلا تجد في أي من الحوارات أي مهادنة أو هدنة مع الطرف الآخر! ولن تعثر على أي ملمح من ملامح (هز الرأس) بالإيجاب علامة الموافقة، أو ما يعني (فاهمك فاهمك). حوار صحفي تحقيقي تنخيلي! وهو المبدأ الحقيقي لكل صحافي يحترم مهنته. ولكن مع الأسف لم يعد يمارس هذا المبدأ الرزين المهني في مجال الحوار الصحافي سوى قلة من الإعلاميين.

تحية للأقلام التي لم تنكسر على صخرة الواقع، واستطاعت أن تنقش التجربة بحبر الصبر والحكمة والإخلاص للمهنة. الصحافة التي كلما أعطيتها من تعبك أترعت روحك بنشوة الفرح المشبع بمعاني انتصار الكلمة.

تعليق عبر الفيس بوك