لأنك أنت "صالح"

هلال الزَّيدي

الحياةُ مَدْرسة تكثُر فيها العِبَر والمواقف، والحياة مدينة مُتَّسعة تُضيء أنوارها كلما توسَّعت الأفكارُ وارتقتْ الأفعال، والبشرُ فيها مُؤثِّرون ومتأثرون بمِنْ مَعَهم وما يُحيط بهم.. إذاً: "الحياة حلوة بس نفهمها.. الحياة غِنْوة ما أحلى أنغامها" تلك الكلمات التي كتبها الشاعر أحمد بدر خان وتغنَّى بها الصوتُ الدافئ فريد الأطرش في عام تسعة وأربعين وتسعمائة وألف، شكَّلتْ لي مُنعطفا لأستذكر الأمس، والكلمات ببساطتها التعبيرية وعمقها المعنوي لا تزال تشعل في النفوس معاني الحياة وتضع الأسئلة في مسار الحياة بمرها وحلوها؛ فنعيش الواقع ليصبح في غَدِه ذكريات جميلة تحتفي بها النفوس؛ فيمرُّ عليك "الصالحون" الذين زادوا من وهج الحياة لأنهم يمتلكون فكر "صالح" وقلبًا في حبه مُكافحًا، وأياديَ للحب تصافح؛ فتبتعد عن كل طالح، من أجل أن تضع بصمة عطائها في أراضي البور فتنبت مبادئ الكفاح فتصبح منهاجا يسيرُ عليه من يقدر مسارها، ليتقوقع الآخرون في أفكارهم التي تنهش فيها الأنا..لأن صاحبنا أكبر مما يفكرون، ويعتقدون، لأنه "صالح" أينما يكون.

الصَّوتُ يكبر مع انغماس الكلمة في اللحن الشجي فتتبدد البرودة مع رائحة البن الذي أثاره وهج النار ليتناثر بخارها راقصا في تلك الأجواء: "ارقصو وغنوا وانسوا همومها، دي الحياة حلوة، الحياة وردة للي يرعاها، والحياة مرة وحدة نحياها، فوزوا بمتاعها وانسوا أوجاعها، ليه نضيعها، دي الحياة حلوة".. هنا ينتشي في الأفق كيان ذلك الرجل الذي أعطى واتقى فأسَّس مملكةً من الحب تقوم على حقوق الأجيال الذين سيذكروه، نعم سيذكروه كما قال أبو فراس الحمداني: "سيذكرني قومي إذا جد جدهم.. وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر"؛ فالذكرى هنا تقفُ على عتبات ما أضافوه للحياة من معنى؛ فهم أوقدوا فتيل العطاء ودا وعلما ووجدا، وهم أو بالأحرى هو يؤثر في الاتجاهات الإيجابية من حيث تحفيز الخلايا النائمة لمن هم يعملون ضمن تلك المنظومة التي تستهدف المجتمع. ما أجمل أن نعترف بأفعال الرجال الذين غيَّروا روزنامة الحياة، فلم تجرهم الأنا ولم تشدهم المصلحة الذاتية، لأنهم يجسدون القناعة.

الكلمة يجرها الشوق ليضعها سامعها في قالب احتفائي بذلك الرجل، فتأتي مسترسلة في النزع الأخير من الليل؛ حيث أرْخَى سدوله وأوى البشر إلى مضاجعهم إلا هو؛ فكان يُدير موجات فكره عبر أثير الحياة، وما يرى فيها من مواقف جمعته بذلك "الصالح".. مهلا.. مهلا أنا هنا لا أكتب وداعية لك، ولكن أحتفل معك وأضع شهادتي من واقع ما رأيته بأم عيني، نعم فإنَّ لك صبرا أبطأ من عجلة الحكم السريع لشاب أراد اختراق الواقع؛ فالتسرُّع مهلكة في ردة الفعل حتى وإن كان الرامي يبدد ملح الحياة؛ لأنِّي: "أراك عصيَّ الدمع شيمتك الصبر، أما للهوى نهي عليك ولا أمر؟" فمهما واجهت من آراء تطلق سهاما كالسم الزعاف، إلا أنك تتحلى بحكمة وقوة بصيرة حتى تجعلها تستوي، لتهوي على أصحابها ويضعون أحكاما لأنفسهم بأيديهم؛ فيتعلمون كيف تُبنى الأفكار؟ وكيف تُدار المؤسسات ليكون صداها في المجتمع واقعا لا كلاما فضفاضا.

لا زال البرد يغرز مخلبة في أجواء الحياة، ولا يزال دعمك للنجاح يعزز العطاء والحياة، ومهما حاولنا مجاملة أنفسنا بعدم ترك لمشاعرنا البوح بتاريخ تلك المرحلة التي تشارف على التوقف، إلا أنَّ الشعورَ ينهال علينا كلما رأينا المتزلفين يسقطون واحدا تلو الآخر لأنك تعي أنَّ من يُقدِّس الأشخاصَ لمجرد وجودهم سسينتهي مع قناعتك في ترك مكانك لمن يكمل المسيرة من بعدك، كما أنَّك تعرف باليقين التام أنَّ هناك أشخاصًا سيرثون ما أسَّسته ليجابهوا به الحياة لأنهم يمتلكون قلوبا أخذت حنانها من قلبك، فلا تتحسر على هذه النتيجة لأنك تغادر مرفوع الرأس، وتأكد أنَّ هناك موقعًا وموضعًا آخر يحتاج إلى خبراتك التي تشكل قوة شخصيتك، لا عليك أيها الاسم الذي يُوافق المسمَّى لأنك "صالح" في زرع بذرة معنى العمل في حب الوطن وتجسيد الوطنية بالعمل لا بالشعارات والتنظير الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وعليك أن تزرع البسمة كعادتك؛ لأنَّك ستكون أنت كما قدَّرك المقدرون في أي مكان تحل به.

لا يزال فريد الأطرش يبث عبر حنجرته تلك الكلمات، فها أنا ذا أسند ظهري وأترك لسمعي العنان لأستمع: "الحياة تبتسم للي يتبسم واللي بيكشر دي للي يتألم.. دي الحياة جنة عشها وتهنى واوعى تستنى.. دي الحياة حلوة.. الطيور غنت غني ديارها ع الغصون حنت للأليف جاها.. هني أحبابك ود أصحابك وارضى بما نابك.. الحياة حلوة"؛ لا أدري لماذا أتحسس هذه الأغنية بأنها تحتفي بك، فتبث في نفسي هوى الكتابة لأجده يتدفق فأكتب في تاريخك الذي لم أحظ إلا بسنتين منه فقط، لكنها كانت بمقدار أعوام طويلة لأن ما جنيته وتعلمته من نهجك يحتاج إلى سنوات طويلة من الدراسة النظامية؛ لذلك أشكرك لأنك اختصرت عليَّ الكثير، ولأنك تزرع ثقتك في نفوس تستحق الثقة، وتعرف هي كيف تستمدها منك دون أن تعلن أنت عن منحها لها.. ما أرقى العقول عندما تؤمن بالقدرات!

التعبيرُ ملكة تخوننا كثيراً، لكن إذا وجدت من يستفزها تفيض إلى الوجود لتعبر عن مشاعرها، وتعبر إلى ضفاف الحياة فنضع الشكر في أيقونة لحنية لمن يستحقها، ولأنك تستحقها وجب عليَّ أن أصوغها بالطريقة التي تصلح لبصماتك التي زرعتها، فتأكد سيدي الكريم "وهنا إشارة ستعرفها عندما تقرأها بأنك أنت المقصود" بأننا لا ننسى من قاد السفينة إلى مرسى الأمان، فرفع الشراع مرة أخرى من أجل ذلك الربان الذي سيتابع توجيه دفتها وسط أمواج عاتية من الأفكار التي لا تفقه شيئا ولا يتجاوز تفكيرها عتبة أنفها المزكم برائحة النرجسية التي جاءت لتنفيذ أجندة شخصية، لكن تأكد "سيدي" بأنها فقاعة ستختفي مع هبوب رياح الخماسين، "فأمَّا الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض".

----------------------------

همسة:

مع بلوغ البرودة إلى نخاع العظم، تبرد القهوة فيختفي بخارها، لكنها تبقى بمذاقها لأن الهيل حفظ مكانتها، نعم إنَّه الهيل الذي زاد من لذتها وأبقى من ذكراها مع آخر رشفة.. عفواً سيدتي: همستي اليوم لا تجدين فيها ذاتك، لكن ربما ستتقاسمين معي ما أرمي إليه من معنى، لأنك تفهمين التلميح قبل التصريح، ولأنني هنا أتحدث عن رجل يدعى "صالح"؛ فلا تصرِّي عليَّ لتعرفي أي الصالحين أقصد؛ لأن العارف لا يعرف، وإن كانوا الصالحين كثر، إلا أنَّ صالحنا لا يحتاج إلى أن نعرف الآخرين به؛ فالقصد دائما للمقصود، والمقصود هو "أنت".

* كاتب وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك