الحاجة إلى سياسات تهتم بالأولويَّات

عبدالله العليان

حَضرتُ الأسبوع المنصرم -مَع جَمْع من الباحثين والأكاديميين- مؤتمر دراسات الخليج والجزيرة العربية بالدوحة، والذي نظَّمه المركزُ العربيُّ للأبحاث ودراسة السياسات بدولة قطر. وقد طرح المنتدى محوريْن أساسيين في هذا المؤتمر؛ هما: قضايا التعليم وتحدياته بدول مجلس التعاون، وتحديات البيئة الإقليمية والدولية بدول المنطقة. ولا شك أنَّ الظروفَ السياسية الراهنة، وعلاقة دول المنطقة بهذه المشكلات والتحديات، أخذتْ حيِّزا كبيرا من الاهتمام والمناقشات، على اعتبار أن السياسات الإقليمية والدولية تعاني الكثير من المشكلات الراهنة؛ لذلك اهتمَّ لها الكثيرُ من الباحثين لكونها منغلقة على أزمات المنطقة والتحديات القائمة في العراق وسوريا واليمن، وعلاقة الدول الكبرى بهذه الصراعات. ولاشكَّ أنَّ مشكلة التعليم وتحدياته لا تقل أهمية عن الأزمات السياسية الراهنة؛ لأنَّ التعليم الجيد يُؤسِّس لبيئة إيجابية طاردة للصراعات والتوترات كالهند وكوريا وسنغافورا...وغيرها؛ فالكثيرُ من المشكلات سببها غياب المعرفة الصحيحة للواقع القائم بظروفه ومشكلاته، والتعليم الجيد يلعب دوراً محوريًّا في إبعاد الاحتقان والمشكلات السياسية التي أسبابها غياب فرص العمل الذي يتغذَّى منه التطرف والغلو والعنف، ويقتات عليه، وتستفيدُ منه بعض الدول لأهداف ومرامي سياسية وفكرية، لكن هذا لا يتحقَّق عندما تقوم الخطط والأفكار النيرة بتأسيس رؤى إيجابية للتقدم والنجاح؛ من خلال المعرفة العلمية والمنهجية المخططة على أسس سليمة، وهذا تحقَّق في دول عديدة، حققت نجاحاً كبيرا في جودة التعليم، وصعدت بأبنائها إلى مستويات كبيرة من الرُّقي العلمي والصناعي والمهني، وأسَّست تنمية مستدامة، تقترب من الدول التي سبقتها بعقود طويلة؛ لذلك فإننا بحاجة إلى سياسات تهتم بالأولويات، ونضع نصب أعيننا أنه لا يمكننا أن نخرج من هذا المربع الراهن إلا بخطوات جديدة، نضع في حسباننا قضية التعليم على سلَّم الأولويات، وهذا هو الذي سيحقق لنا التنمية المستدامة، والاستقرار المجتمعي، وتنتهي معه التوترات والمشكلات التي تعتبر ذيولًا للاخفاقات، والإشكالية القائمة في بعض دول المنطقة أنَّ التعليم يعاني ارتباكات وأخطاء في المنهج والسياسات العامة لكيفية وضع أسس جيدة لتعليم ينقلنا إلى تنمية مستدامة، وهذا ما تحدث عنه العديد من المحاضرين في المؤتمر، القضية ليست أننا نريد أن نكون مثل دول بعينها، ونطبق مناهجها بحذافيرها، ونتخلى عن الهوية والحاضنة الفكرية لمجتمعاتنا، فهذا لن يحقق نجاحاً ولن نحصل على الهدف الذي نسعى؛ فأي تعليم في الأمم والحضارات يحتاج إلى حاضنة فكرية، ولا يُمكن أن نلغي الهوية واللغة والميراث الثقافي، ونعتقد أننا سنصل إلى أهدافنا في التعليم المنشود؛ فكل دول العالم التي صعدت متأخرة في العصر الحديث، لم تلغ ثقافتها، ولا لغتها، بل استفادت من التكنولوجيا المتقدمة من الدول المتقدمة مع الحفاظ على هويتها وثقافتها، وهذا تحقَّق مع اليابان وكوريا والهند ودول كثيرة.. يقول د.عبدالله البريدي في ورقته "المأزق الهوياتي في مؤسسات التعليم الجامعي الخليجي"، إنَّ ثمة شواهد وممارسات مستفيضة ودالة على حقيقة وجود "هجرة نحو اللغة الإنجليزية في السياقات البحثية والتدريسية في العلوم الإدارية والاقتصادية في مؤسسات التعليم العالي الخليجي -مشيرا إلى- وجود عدد كبير من كليات الإدارة والأعمال والاقتصاد تتبنى الإنجليزية لغة للتدريس ومجالاً للبحث العلمي، ولم يكن ذلك مقتصراً على الكليات الخاصة -كما يقول- بل يشمل تخصصات أخرى مندرجة ضمن العلوم الاجتماعية والإنسانية، فقد حولت -على سبيل المثال- بعض الجامعات الخليجية التدريس نحو الإنجليزية في تخصصات كالإعلام والاتصال الجماهيري. موضحا "نحن لسنا ضد تعلم الإنجليزية أو أي لغة أجنبية أخرى، بل إننا معه لتحصيل المنافع الكبيرة المترتبة على هذا التعلم، غير أننا نشدد على أن يكون ذلك وفق أطر مدروسة، مع اشتراط تحقيق النفع الخاص والعام، في وقت لا نخل فيه بالسيادة اللغوية للضاد في سائر أراضيها وسياقاتها الوطنية والقومية والدينية والحضارية. إذن، أين المشكل؟ الإشكال يكمُن في المبالغة في تحصيل اللغات الأجنبية، أو في التحدث بها واستخدامها في سياقات لا تستدعيها أو لا تحقق نفعاً عاماً حقيقيًّا". وحذر البريدي من اكتساح الإنجليزية كلغة للتعليم بدول الخليج، قائلاً: "تنبع الإشكالية البحثية من حقيقة تنامي استخدام اللغة الإنجليزية في مؤسسات التعليم العالي الخليجي، ليس في الطب والهندسة والعلوم البحتة فحسب، بل في تخصصات العلوم الاجتماعية والإنسانية وهو الأخطر، وهو ما يعنينا أكثر في هذه الورقة، مما يخلق "مأزقاً هوياتيًّا"، له آثاره الفكرية والتنموية السلبية على المستويات المرحلية والإستراتيجية". كما أشار العديد من الباحثين إلى الإشكالية ذاتها من تعليم اللغة الانجليزية في التعليم الجامعي، واستهداف الهوية العربية، وهذا ما قالته أيضا دكتورة نورة المزروعي -من جامعة الشيخ زايد بدولة الإمارات العربية المتحدة- أنَّ "إهمال اللغة العربية في المؤسسات التعليمية، انعكس سلباً على علاقة الفرد بهويته الوطنية، وأصبح موضوعا خطيراً يجب البحث فيه وتقديم حلول وتوصيات بشأنه للقيادات السياسية؛ فتعميم التدريس بالإنجليزية في جميع التخصصات باستثناء بعض مواد التاريخ والشريعة والقانون، أدى إلى جعل اللغة العربية في حالة ضعف على مستوى التعليم؛ فيحدث للثقافة الأدنى ما يسمى بـ"التمثيل الثقافي"، وتذوب أنماطها الرئيسية في أنماط الثقافة الأقوى، وتبدأ في فقدان هويتها، إضافة إلى الضغط الشديد الذي تمارسه اللغة المسيطرة على أفراد المجتمع، وإجبارهم على التحدث بلغة الأقوياء".

وأتذكر أنه منذ عدة سنوات حضرتُ مؤتمرا في إحدى دول مجلس التعاون، كان يناقش مسألة الهوية العربية، وكان أحد المتحدثين السياسي الفلسطيني د.عزمي بشارة، وأنه بحكم أنه من سكان أرض 48، قال "زرت كلَّ مناطق عاصمة الكيان الإسرائيلي (تل أبيب)، ولم أجد مدرسة خاصة تدرس باللغة الإنجليزية، أو أي لغة أجنبية، كل المدارس باللغة العبرية؛ فالعبرية لغة اندثرت منذ قرون، تم إحياؤها من جديد، مع أنها كانت لغة ميتة، وكان اليهود في العصور الوسطى وما بعدها وفي فترة الحضارة الإسلامية، كانوا يكتبون بالغة العربية، لا باللغة العبرية. الآن أصبحتْ اللغة العبرية في إسرائيل لغة العلم والأدب والتاريخ، ونحن للأسف نُهمل لغتنا العربية، ونجعلها حتى تنافسنا في الوظائف الوطنية! وهذا للأسف مجازفة كبيرة.. إنَّ اللغة الإنجليزية ليست ضرورية في كل المهام في الوظائف، حتى نجعل منها اللغة الأساسية في مدارسنا وكلياتنا الجامعية. نحن بحاجة في منطقة الخليج والجزيرة العربية إلى مراجعة جدية في مسألة التعليم، ولا ضَيْر في الاقتباس من علوم ومناهج الدول التي سبقتنا في العلم والتكنولوجيا، نعم يجب الاستفادة من الآخرين، لكن علينا الفرز والانتقاء: ماذا نأخذ وماذا ندع!... وللحديث بقية.

تعليق عبر الفيس بوك