معايير الاختلافات الفكرية!

عبدالله العليان

في أحد الحوارات الصحفية، وَصَف الأكاديمي السعودي الدكتور تركي الحمد، الدكتور محمد عابد الجابري بـ"الرمز الذي هوى"!، بسبب -كما قال الحمد- "أنَّ ما قرأته في كتب الجابري كان يتناقض مع مقالاته تلك"! ولم يُورد الدكتور الحمد ما هي هذه المقالات الجديدة أو الصحفية، لكنني من خلال متابعتي الدائمة لكتابات د.الجابري والتي نُشرت في السنوات الماضية في مقالات بالعديد من الصحف العربية، وجمعت بعد ذلك في كتب تباعا مثل "نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر"، و"المسألة الثقافية"، و"مسألة الهوية..العروبة والإسلام والغرب"، وكلها صدرت عن مركز دراسات الوحدة العربية -أقول- في هذه الكتب تجد الصورة الواضحة لفكر محمد عابد الجابري وهي ليست متناقضة، كما يصورها الدكتور الحمد، بل تعد بلا شك النظرة الثاقبة الواعية التي استطاعت بعد طول عناء وبحث وانكباب على المعارف والعلوم أن تعود إلى الذات، هذه الذات هي الرصيد الذي ينبغي على المفكر أن ينطلق منها في نقد وعينا المتأزم وتراجعنا السلبي وأزمتنا الحضارية.

والحقُّ أنَّ الجابري حتى في كتبه السابقة كان مُخلصا في آرائه حتى وإن اعتمدت في بعضها على منهجية الغرب المعرفية والفلسفية تجاه نقد العقل العربي وهو مشروع نقدي طرحه الجابري منذ السنوات وقابل للنقد والحوار من أهل الاختصاص وليس من المسلمات التي لا تراجع عن مضامينها.

لكن ما الذي جعل الدكتور تركي الحمد ينقلب فجأة على الجابري ويهاجم مقالاته "الصحفية" الأخيرة، ويتحول الجابري عنده من "الملهم المحتذى" إلى "الرمز الذي هوى".

القصة وما فيها أنَّ الدكتور محمد عابد الجابري بدأ في السنوات الماضية -قبل رحيله رحمه الله- في نقد الحداثة الأوروبية وليبراليتها بصورة دقيقة وتحليل عقلاني عميق متتبعا نظرة الغرب الاستعلائية ونزعته العنصرية القائمة، فيقول: "الواقع أنه لا يُمكن فهم العلاقة بين الحداثة الأوروبية وظاهرة الاستعمار إلا باستحضار النظام الفكري الذي طغى في أوروبا خلال القرن التاسع عشر باسم الحداثة وفي إطارها؛ فباسم العقل والعلم والتقدُّم وهي الأسس التي قامت عليها الحداثة الأوروبية وفي القرن الثامن عشر برزت في القرن الذي يليه نزعات فكرية تصب كلها في مجرى واحد وهو تكريس فكرة تقدم الإنسان الأوروبي وجدارة أوروبا بالهيمنة على العالم".

لم يتوقف الجابري في نقده الإستراتيجية الغربية الليبرالية في هذا المضمار، بل إنَّه يوجه اتهاما آخر: "إنَّ الاختراق الثقافي الذي يمارس على الصعيد الدولي من طرف الغرب بقيادة أمريكا قد أصبح إستراتيجية ترمي إلى شن حرب باردة حضارية على الإسلام" على حد تعبير المحللين الأمريكان أنفسهم، ومع أنَّ جميع المعطيات التي حللناها تؤكد وجود هذه الظاهرة ليس فقط بوصفها أحد معطيات التطور الحضاري العام، بل أيضا بوصفها إستراتيجية وتخطيطا من قوى تريد الهيمنة وتعمل على فرضها مع ذلك كله، فنحن نعي جيدا أنَّ هناك من المثقفين العرب من يفضل السكوت على الجوانب التي أبرزناها لينظر إلى الظاهرة التي نحن بصددها لا بوصفها "اختراقا أو غزوا"، بل من خلال كونها مظهرا من مظاهر "الثقافة"، وأنها فضلا عن ذلك الوسيلة الضرورية ولربما الوحيدة لتحقيق التمدن والحداثة "والدخول في العصر" و"المساهمة في إنجازاته الحضارية". ويتطرق الجابري في مقال آخر إلى أزمة الثقافة العربية الراهنة التي وصفها الدكتور الحمد بأنها "سلطوية والفرد العربي مهما تغير يحتفظ في ذهنه بالفكرة السلطوية"، مبرزا أساس السلبية القائمة؛ فيقول: "ليس ثمة شك في أن الوضعية التي تعانيها الثقافة العربية اليوم ليست طبيعية فيها ولا خاصة بها وحدها؛ فجميع الثقافات وبالخصوص ثقافات البلدان التي كانت مستعمرة تعانيها بصورة وبأخرى، لقد غرس الاستعمار الأوروبي في البلدان التي حكمها بني "الحداثة " الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بل فرضها من فوق بطريقة وحشية خشنة سلطوية وركزها في المناطق في المناطق الحضرية خالقا ثنائية حادة بين البادية والمدينة" كتاب "المسألة الثقافية" مركز الدراسات العربية بيروت.

وهناك الكثير من الآراء الناقدة للفكر الغربي طرحها الجابري في كتاباته التي أثارت حفيظة الدكتور تركي الحمد وغيره من الكتاب، خاصة جورج طرابيشي الذي أصبح مرابطا لمهاجمة الجابري بسبب آرائه الجديدة!

والغريب أنَّ الدكتور الحمد لم يجد ولا حسنة واحدة لا في الثقافة العربية ولا في العقل العربي في حواره بمجلة المجلة، بل وحتى في كتاباته وأبحاثه المنشورة، ولم يجد في صفات الثقافة العربية أو المثقف العربي سوى السلطوية التبريرية الرغبوية..وغيرها من النعوت، وعندما يتحدَّث عن التحديث والتغريب كأفكار ومنطلقات غربية، فإنه يعتبرها النموذج الذي لا تقدم بدونه. فيقول الدكتور الحمد "فإن القيم والحلول التي يقدمها النموذج للإنسانية جمعاء لا يجوز أن توصم بالاستغراق؛ فالاستغراق يعني بادئ ذي بدء الحكم على الآخرين بناء على معيار ذاتي وليس حالة القيم النابعة من الحضارة الغربية (سواء كنا نتكلم عن الاشتراكية أو الرأسمالية الفردية والجماعية أو أي تأويل وتفسير آخر لقيم الحضارة)؛ فسواء أحببنا ذلك أم كرهنا فإنَّ القيم الغربية أصبحت ممثلة العصر".

وفي فقرة أخرى، يقول الحمد "فإن قيم الغرب ونظرته إلى الوجود ومناهجه في تحقيق الأهداف قد أصبحت معايير عامة ونموذجا يحتذى بالنسبة لتلك المجتمعات التي تريد أن تتحدث"‍‍ (تركي الحمد-دراسات أيدلوجية في الحالة العربية-دار الطليعة بيروت).

ولتأكيد نظرته إلى النموذج الغربي وتعزيزه، فإنَّ الدكتور الحمد استشهد في نفس الكتاب بأقوال "الصنم الذي انطوى" كما أتاتورك في قوله "إن المقاومة عقيمة أمام سيل الحضارة الجارف التي لا ترحم الغافل والعنيد، وفي وجه سيطرة الحضارة وجبروتها التي تخترق الجبال وتحلق في الفضاء ترى كل شيء من الذرات الخفية في النجوم إلى النجوم التي تبحث وتنقب، فإنَّ الأمم التي تكافح في سبيل التقدم بسلاح قائم على عقلية قروسطية وخرافات بدائية محكوم عليها بالفناء أو العبودية والازدراء على أحسن الأحوال".

وعلى أي حال تظل مسألة الحوار قضية أساسية وجدلية مهمة لتصحيح نظرتنا تجاه ما نراه عائقاً وسلبياً وخاطئاً.

تعليق عبر الفيس بوك