في بلاد الأتراك (2)

د. محمد العريمي

كان ميدان (تقسيم) أو تكسيم هو بداية انطلاقة رحلة الأسبوع التي سأقضيها في تركيا، وكان الحمام هو أول مستقبليّ في هذا الميدان، وكانت الصورة التي التقطتها لسرب حمام يلتقط بعض الحبوب بالقرب من محلات بيع الورود الطبيعيّة هي أوّل صورة ألتقطها في هذا البلد. ما أجمل أن يتعانق رمزيّ السلام والحبّ في لوحة واحدة، فكم يحتاج العالم إلى الإثنين معاً!!

كان الميدان الذي يعدّ بمثابة القلب بالنسبة للجانب الأوروبّي للمدينة، وغالباً ما يبدأ السائح رحلته من هناك، والذي كان في يوم ما نقطة تجمّع خطوط المياه الرئيسية وتفرعها إلى بقيّة أحياء إسطنبول زمن العثمانيين، والذي يعتبر المكان المفضّل للأتراك لإقامة مناسباتهم العامّة كالمسيرات، والمظاهرات، والاحتفالات المختلفة، خالياً على غير العادة سوى من بعض المارّة المتّجهين إلى محطّة المترو أو الشوارع المتفرّعة من الميدان، أو بعض السيّاح الذين كانوا يلتقطون صوراً تذكاريّة بالقرب من النصب التذكاريّ الذي يتوسّط المكان، والذي قام الفنان الإيطالي (بيترو) بنحته عام 1928 لتخليد ذكرى أتاتورك والانتصار في حرب الاستقلال، ويحتوي على العديد من الشخصيات البارزة زمن أتاتورك، ولا غرابة في ذلك فقد كنّا في حوالي الخامسة صباحاً، وهو وقت مبكّر لمدينة تسهر حتّى الرّمق الأخير من الليل!

ومن منطلق "ربّ ضارّة نافعة" فقد ساعدني عدم وصول حقيبتي على أخذ جولة استكشافيّة في المكان أتعرّف فيها على ملامحه، وأقارن بين الفنادق المختلفة خاصّة وأنّني لم أقم بحجز مكان الإقامة مسبقاً كما أفعل في رحلاتي العائليّة، بل تركت كلّ شيء للظروف لأنّي أردتها رحلة استثنائيّة أعيش فيها متعة المغامرة في كلّ لحظاتها، وكان محلّ حلويّات (حافظ مصطفى) هو أوّل من يستقبلني في الاتّجاه الذي ذهبت إليه، وهو محلّ حلويّات شهير تأسّس عام 1864، ويعدّ من معالم المدينة المعروفة لجودة حلويّاته وشهرتها، وقد حفظت اسمه مسبقاً لكثرة ما كان يردّده عنه بعض الأصدقاء. يا الله! ما كلّ هذا الهناء! حمام، وورود، وحلويات! يا لهذا الاستقبال الجميل.

من الناصية القريبة من حلواني حافظ مصطفى أدخل شارعاً فرعيّاً يحتوي على العديد من الفنادق ذات التصنيفات المختلفة، ومن خلال اللوحات التي تزيّن مداخل تلك الفنادق اكتشفت أنّني أكاد أعرف أسماء كثير من تلك الفنادق مسبقاً من خلال (مذاكرتي) الدقيقة لمواقع حجوزات الفنادق على شبكة المعلومات العالميّة والتي تعرّفت من خلالها على عدد من فنادق إسطنبول، ومواقعها، وأهم مرافقها، ومدى جودة خدماتها من خلال آراء المقيمين بها، وكنت قد اتّخذت قراراً بعدم القيام بالحجز المسبق لعدّة أسباب من بينها: وفرة أماكن الإقامة من فنادق وشقق وبنسيونات وبيوت شباب، وبالتالي فهناك مجال للمفاضلة والاختيار خاصّة أن المعروض كثير، ونحن لسنا في الصّيف، كما أنّني لست ملتزماً بمجموعة أو بأسرة قد يعيقان حركة تنقّلاتي، أمّا السبب الآخر فيعود إلى درس تعلّمته من خلال تجاربي السّابقة في السفر وهي عدم الحكم على أماكن الإقامة من خلال الصور المعروضة لها في مواقع الإنترنت، ذلك أنّ كثيرًا منها لا يحاكي الواقع، ولا يعبّر عنه بشكل حقيقيّ، وقد يندم البعض على قيامه بحجز عدّة ليالي في فندق معيّن ثمّ يكتشف أنّه دون المستوى، لذا فقد حمدت الله أنّني لم أقم بالحجز المسبق حيث كانت مرافق بعض تلك الفنادق تختلف عمّا هو موجود في مواقع حجزها الإلكترونيّة، ولا تتناسب مع أسعارها. وبعد وصولي إلى نهاية الشارع عدت راجعاً إلى الميدان كي أبدأ جولة أخرى جديدة.

من الميدان دخلت شارعاً أكثر اتّساعاً وتنظيماً، وتتوزّع المحلات، والمقاهي، والمطاعم على جنباته، ومن الوهلة الأولى خمّنت أنّه شارع (الاستقلال) ذلك أنّ الترام الأحمر الشهير الذي يميّز الشارع كان يمرّ في اللحظة التي دخلته فيها، ومنذ لحظة دخولي للشارع تأكّدت أنّ قضيّة اختيار مكان السّكن قد حسم لصالحه، ذلك أنّني كشخص يزور اسطنبول لأوّل مرّة كنت محتاراً بين ثلاثة أماكن توقّعت مسبقاً من خلال اطّلاعي وسؤالي أنّها الأنسب للسكن لتوافر الخدمات، وقربها من وسائل التنقّل، ولاحتوائها على المعالم السياحيّة المتنوّعة، وهي مناطق تقسيم، وشارع الاستقلال، والسّلطان أحمد، ففي شارع الاستقلال وبينما أنا أقطع الشارع الذي يبلغ طوله حوالي ثلاثة كيلومترات والذي كان يسمى (بالشارع الكبير) زمن العثمانيين وكان مكانا لتجمّع المثقّفين، وغيّر اسمه عند إعلان الجمهورية عام 1923 إحياءً لذكرى حرب الاستقلال التركيّة، ساعدني على ذلك روعة الجوّ الخريفيّ، وهدوء الشارع النسبي في هذا الوقت من الصّباح، يمكن أن يجد السّائح كلّ ما يبحث عنه خلال أيّام إقامته، فكافّة الخدمات من مطاعم، ومقاهٍ، ومصارف، ومسارح، ودور سينما، ومكتبات، ومجمّعات تجاريّة متوافرة، وكثير منها يقع في بنايات أثريّة ذات نمط معماريّ أنيق يضيف الكثير من الأناقة والجمال للشارع، كما أنّه مخصّص للمشاة فقط عدا سيّارات الشرطة أو البلديّة، وبالتالي لا إزعاج، ولا أبواق، ولا حذر في المشي كما في شوارع كثير من الدّول الأخرى، ولست أدري لماذا تقفز مصر عند كلّ عمليّة مقارنة أقوم بها، ربما يكون ذلك بسبب التشابه الكبير بين العديد من الأنماط المعماريّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة بين البلدين، إذ بينما وأنا أتجوّل في الشارع منبهراً بما أرى إذ قفزت صورة شارع طلعت حرب في وسط القاهرة أمام عينيّ، وعلي الرّغم من أنّ "طلعت حرب" يعدّ من أجمل شوارع القاهرة هندسة وتنظيماً، وعلى الرغم كذلك من تشابه نمطه المعماريّ مع شارع الاستقلال إلا أنّه تبقى فروقات كثيرة فيما يتعلّق بالنّظافة، وتنظيم الحركة، وتعامل البشر!

وبينما أتجوّل مبهوراً استوقفتني العديد من المعالم الجميلة التي تميّز هذا الشارع والتي سأتعامل معها خلال الأيّام القادمة حتّى حين مغادرتي المدينة، فأوّل ما صادفني كانت محلات (الشّاورما) التركيّة الشّهيرة التي تتصدّر مدخل الشارع مستقبلة الميدان، وبرغم أن السّاعة لم تتعدّ السّادسة صباحاً إلا أنّ تلك المحلات كانت مفتوحة، ومن أحدها استفتحت المطبخ التركيّ المشهور بوجباته اللّذيذة بشطيرة من شاورما الدّجاج لا يتجاوز سعرها الخمس ليرات أو حوالي 700 بيسة، وهي شطيرة تكفي لسدّ جوعك لساعات طويلة قادمة، وشتّان بينها وبين مثيلاتها في المطاعم المسمّاة ظلماً معنا بالمطاعم التركيّة!

عدا مطاعم الشاورما فهناك العديد من المعالم التي قد تستوقفك طوال رحلة تجوالك في الشّارع أذكر منها مطعم بركات للشاروما، ومحلّ (مادو) المشهور بالآيس كريم، ومحلّ حلويّات (حجّي بكير) الذي ينافس حافظ مصطفى في شهرته، ومطعم) بيلفان) للمأكولات التركيّة، ومحلّ (سوتش) المتخصّص في الحلويّات والفطائر والكباب، بالإضافة إلى محلات بيع التحف والخرز ومنها العين الزرقاء الطاردة للحسد والتي يقبل عليها الأتراك بشكل كبير، وكثير من المحلات التي تعرض لماركات عالميّة شهيرة في مجال الملابس، والساعات، والمجوهرات، والأدوات الكهربائيّة، وفروع لكثير من البنوك، وشركات الصرافة، والاتصالات وغيرها، ولا يمكن أن أنسى عربة النظافة التي تجوب الشارع في مواعيد يوميّة محدّدة تقوم من خلالها بكنس الشارع وغسله! بالمناسبة فقد كانت شوارع القاهرة في الثلاثينيات تغسل كل صباح بالماء والصابون، وتمّ اختيارها في إحدى تلك السنوات كأنظف مدينة عالميّة!

أمّا متى، وأين، وكيف سكنت؟! فهذا ما سأتناوله في المقال القادم وسرد آخر لرحلتي في بلاد الأتراك.

تعليق عبر الفيس بوك