مطلوب مجلس تعاون شعبي

زاهر المحروقي

لقد نظر الكثيرون إلى فكرة إنشاء مجلس التعاون الخليجي بإيجابية، وزاد هذا الإعجاب لأنّ المجلس استمر حتى الآن، رغم العواصف التي عصفت بدوله، في ظلِّ غياب مجلس التعاون المغاربي ومجلس التعاون العربي، ولكن ليس مُهمّاً أن نناقش إنجازات المجلس حتى الآن، فهذا يملأ صفحات كلِّ الصحف والمجلات، وتكاد أدبيات هذه الإنجازات تتكرر مع كلِّ قمة تُعقد من قمم مجلس التعاون.
جاءت فكرة تأسيس مجلس التعاون الخليجي بهدف تحقيق الأمن للدول الأعضاء نتيجة للأخطار المحدقة بها، خاصة بعد انتصار الثورة في إيران وصدور بعض التصريحات التي تحدثت عن أهمية تصدير الثورة إلى دول المنطقة، لذا فإنّ الحكم على نجاح أو فشل تجربة المجلس يجب أن يركز على تقييم عامل النجاح في الجانب الأمني، وإن كنتُ أرى أنّ التركيز على الجانب الأمني من قبل دول المجلس كان تركيزاً مبالغاً فيه؛ فإذا كان الخطر الإيراني هو المقصود من إنشاء المجلس، فإنّ إيران تسجل نجاحات كبيرة حتى في المجالات العسكرية فيما تسجل دول المجلس تراجعاً في هذا الجانب، ودخلت بعض الدول الأعضاء في حروب عبثية، ضررُها كبير، سواء على المدى القريب أو البعيد، وليس الخطأ في الحرب على اليمن فقط؛ بل إنّ بعض دول الخليج أدخلت نفسها في قضايا داخلية لدول لا ناقة لها فيها ولا جمل، وكأنّ زعامة الأمة العربية يمكن أن تتحقق بالمال؛ وقضيةُ زعامة الأمة أرّقت الكثيرين بعد غياب الزعيم جمال عبد الناصر، وبعد غياب الدور المصري.
لقد خطت دول مجلس التعاون خطوة أخرى باتجاه تكريس الجانب الأمني عندما وقّعت على الاتفاقية الأمنية المعدلة؛ وهي الاتفاقية التي أثارت الكثير من الزوبعة، ورفضها مجلس الأمة الكويتي قبل أن تنضم إليها الكويت بعد دراسات ونقاشات مستفيضة، إذ رأى بعض النواب أنها تنتقص من السيادة الوطنية، وأنها تنتهك حرية التعبير، وهو الخوف الذي أعربت عنه منظمة "هيومن رايتس ووتش" في بيان رسمي نشر على موقعها، إذ رأت أنّ الأحكام القانونية الغامضة الواردة في الاتفاقية الأمنية تثير القلق، "فيمكن للدول الأعضاء أن تستخدم هذه الاتفاقية لقمع حرية التعبير وتقويض حقوق المواطنين والمقيمين في الخصوصية". وهو ما رآه جو ستورك، نائب المدير التنفيذي لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في هيومن رايتس ووتش، الذي قال أنّ الإتفاقية تعطي لحكومات الخليج ذريعة قانونية للقضاء على أيّ صوت معارض، وإنّ بعض الأحكام تسمح للسلطات بانتهاك حرية التعبير، فمن ضمن عشرين حُكماً قانونياً تنص عليهم الاتفاقية، توجد مادة غامضة تنصّ على مواجهة "التدخل في الشؤون الداخلية" لدول مجلس التعاون الأخرى.
إنّ مادة فضفاضة كهذه يمكن أن تُستخدم لتجريم انتقاد دول الخليج، وفي الواقع هذا ما يحصل الآن تماماً، والأمثلة شاهدة على ذلك، كما أنّ هناك مادة أخرى تنص على تبادل المعلومات الشخصية للمواطنين والمقيمين بقرار من مسؤولي وزارة الداخلية؛ وفي الواقع فإنّ هذه المادة قد تكون جيدة عندما يتعلق الأمر بالمجرمين أو الفاسدين، ولكن عندما يتعلق الأمر بحرية التعبير، فهذه هي الديكتاتورية بعينها، وتنص المادة 3 على أن "تعمل كلّ دولة عضو على اتخاذ الإجراءات القانونية فيما يُعدّ جريمة، وفقًا للتشريعات النافذة لديها، عند تدخل مواطنيها أو المقيمين بها في الشؤون الداخلية لأيّ من الدول الأخرى"، ممّا يعني أنّ كلَّ دولة من الدول الأعضاء لها حرية اعتقال أي مواطن من مواطني دول المجلس حسب قانونها هي، وهذا يدل على رخص قيمة المواطن الخليجي، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بالتعبير عن الرأي، فلا مجال لمصادرة الفكر مع هذا الانفتاح العالمي في مجال حرية التعبير؛ وحسب بيان منظمة هيومن رايتس ووتش، فإنّ الإتفاقية الأمنية الخليجية لا تقدم تعريفاً للسلوك الذي يُمكن اعتباره "تدخلا في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء"؛ لذا فمنذ عام 2011، قامت دول الخليج بالتحقيق مع مواطنيها ومحاكمتهم، بسبب توجيه انتقادات إلى دول مجلس التعاون الأخرى أو حكامها. (ولا بد أن أشير هنا أني ضد سب وقذف الحكام أو غيرهم من المسؤولين، ولكن ليس معنى هذا أن يتم منع أي نقد، فالمسؤولون بشر يصيبون ويخطئون، لذا فأعمالهم هي ملكٌ للعامة).
لقد كان عبد اللطيف الزياني أمين عام مجلس التعاون الخليجي صريحاً عندما أكد عند اعتماد الاتفاقية الأمنية في قمة المنامة في ديسمبر عام 2012، أنّ الاتفاقية ترمي إلى مواجهة المعارضة الداخلية، وقال: "ستُمكن الاتفاقية كلّ دولة من دول مجلس التعاون الخليجي من اتخاذ إجراءات قانونية، اعتماداً على تشريعاتها الخاصة، ضدّ المواطنين أو المقيمين أو المجموعات المنظمة التي لها ارتباط بالجريمة، والإرهاب، والفتنة...". لذا لم يكن مستغرباً أن تشكِّل الاتفاقية الأمنية الخليجية هاجساً مقلقاً للمنظمات الحقوقية وللنشطاء السياسيين في دول مجلس التعاون، في ظلِّ التخوفات من أن تتحول الاتفاقية إلى قيد جديد يحد من الحريات العامة "في إقليم لا تتمتع دوله كافة بالحد الأدنى من الديمقراطية" - كما أشار إلى ذلك الحقوقيون - وأنّ هذه الاتفاقية ومهما حاول البعض إظهارها بغير حقيقتها ستضيِّق إلى حد كبير من الحريات العامة، خصوصاً فيما يتعلق بالتصدي لانتهاكات حقوق الإنسان.
التركيز على قضية الأمن فقط هو تركيز مبالغ فيه - كما سبق وأن أشرت- فطالما هناك قطرة نفط واحدة تقطر فإنّ مسألة أمن المنطقة هي مسؤولية أمريكية، وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها؛ أمّا التركيز على الأمن الداخلي بشكل مبالغ فيه، فهذا يعني أنّ هناك أخطاء كبيرة ارتُكبت، وأنّ هناك خوفاً من اعتراض الناس على هذه الأخطاء، فبعضُ دول الخليج أدخلت نفسها في متاهات كثيرة في سوريا وليبيا ومصر واليمن، وإن كانت الشعوب تلجأ الآن إلى وسائل الإعلام البديلة لتعبِّر عن رأيها ومعارضتها؛ فإنّ المسألة لن تطول أكثر، خاصة إذا أصبح الوضع الاقتصادي للشعوب صعباً مع انخفاض قيمة البترول؛ وهي الشعوب التي تعودت على الأخذ فقط دون العطاء، إذ أنّ فترة النفط قتلت فيها كلَّ إبداع وكلَّ رغبة في العمل والانتاج.
عندما انطلق مجلس التعاون الخليجي، كانت هناك نقاط إيجابية، حيث تم التركيز على الإنسان الخليجي، وتم إنشاء العديد من المنظمات التي كانت تهتم بالإنسان، وأقيمت معسكرات شبابية، ومعسكرات عمل، ومسابقات ثقافية للأندية، والمسرحيات، ومهرجانات الأغنية، وكانت تقام البطولات الرياضية ويهتم بها الشباب، ولكن مع "التفكك الحقيقي" للمجلس بدأت كلّ الأنشطة تتباعد إلى أن اختفى بعضها تماماً، وأصبح الناس يحاربون بعضهم بعضاً عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، ممّا أظهر أنّ مجلس التعاون مجرد ديكور للرسميين وللحكومات فقط، وأنّ دوره الحقيقي هو الدور الأمني فقط، هذا بدوره أوسع الفجوة بين الناس - رغم ما يتصفون به من حب ومودة-، إلا أنّ الأوضاع السياسية كان لها التأثير البالغ في توجهات الناس، والمطلوبُ الآن، هو تفعيل الدور الشعبي بين مواطني دول مجلس التعاون، بأن يتم من جديد الاهتمام بجوانب إنسانية - وهي كثيرة-، مثل الجوانب الشبابية والثقافية والرياضية والإنسانية والعلمية، والتركيز على كلِّ ما يقرِّب بين الشعوب الخليجية ويجعل منها شعباً واحداً لا يتأثر بالمتغيرات السياسية؛ فما يحصل الآن من تراشق عبر وسائل التواصل الاجتماعي يُنذر بسوء، ويمكن لعلماء علم الاجتماع أن يروا ببساطة، كم هي كبيرةٌ الفجوة بين الشعوب الخليجية، وكيف اتسعت هذه الفجوة خلال السنوات القليلة الماضية.. لذا فإننا بحاجة إلى مجلس تعاون شعبي يعمل على إحياء الحب بين أبناء الخليج ويجعلها تؤمن بالمصير الواحد.

تعليق عبر الفيس بوك