الدول العظمى: الرسالة السامية والمصالح الفاسدة

فاطمة ناصر

يُقارب الكاتبُ ألكسندر فلورس عبارة هيجل "روح العالم على جواد"، والتي أطلقها حين رأى نابليون بونابرت عائدا على صَهْوة جواده مُنتصرا عام 1806، وتلك الصُّورة لبوش الابن وهو يُعلن انتصار أمريكا وتحرير العراق من على متن حاملة طائرات. أيتشابه المشهدان مع اختلاف الأزمنة، أم أنَّ بونابرت وطموحات فرنسا العظمى، يختلفان عن بوش الابن وطموحات أمريكا؟

يستهلُّ الكاتب تحليله بالبدء في تحديد الذرائع لشن الحرب على العراق، ويستعرض كيف تغيَّرت مُسبِّبات الحرب، وكيف وُجِّهت في البداية للقضاء على أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها صدام حسين، وصلته بالإرهابين، حتى وصلنا إلى رغبة أمريكا في نشر الديمقراطية. يبدو أنَّ السياسة الأمريكية في التعامل مع الشرق الأوسط قد تغيَّرت بعد ذلك؛ فقد كانت أمريكا لوقت طويل تفضِّل التدخُّل العسكري المباشر، إن حادت أيٌّ من الدول العربية عن الدرب، وبادرت بفرض قوتها. تماماً، كالذي حدث حين غزت العراق الكويت، قامت أمريكا باستخدام التدخُّل العسكري المباشر فقط، لتعيد العراق إلى الحظيرة. وأنا قصدت نعتها "بالحظيرة"؛ حيث استطاعت أمريكا بفضل هذه السياسة المسالمة التي كانت تغض الطرف عن كافة التجاوزات الإنسانية وغيرها في هذه الأنظمة، ولكنها تضربُ بيدٍ من حديد إنْ بادرت إحدى هذه الدول بفرض عضلاتها، من أن تستفيد من الثروة النفطية بهذه الدول، وإن توفَّر جوٌّ من الحماية لإسرائيل في الوقت نفسه. وهذا كان الأهم في حينها. إلا أنَّ هذه السياسة تغيَّرتْ باستحداث خطة جديدة للشرق الأوسط. خطة أساسها تحويل الأنظمة الدكتاتورية إلى أنظمة ديمقراطية. وهذا التغيير يشمل ملفات كثيرة، وكلها عليلة للأسف في الشرق الأوسط. فحقوقُ الإنسان بكافة أشكالها تُنتهك دون رقيب أو حسيب. فالانتهاكات الإنسانية موجودة في كافة دول الشرق الأوسط، مع اختلاف النسبة فقط.

يتكلَّم الكاتبُ عن رَغْبة أمريكا في نشر الديمقراطية في العالم العربي، وهي الخطة الجديدة لشرق أوسط جديد، إلا أنَّ الكاتبَ لم يتعرَّض لجذور هذه الرغبة. وأثناء ما كنت أبحث حول هذا الأمر، صادفت أقوالًا لبوش الابن وقياداته عقب أحداث 11 سبتمبر؛ حيث قال إنَّ دعم أمريكا وغضها الطرف عن الأنظمة غير الديمقراطية، قد ساعد على ظهور الإرهاب. ومقولة خر اخرى اأخرى لمستشارة الأمن القومي كونداليزا رايس، تقول فيها: "إنَّ قِيَمنا تعني لنا الكثير في الخارج، ونحن لن نتوقف عن الحديث عن الأمور التي تهمنا: كحقوق الإنسان، والحرية الدينية...وغيرها من القيم، التي سوف نَسْعى إلى تطبيقها"، ونجد قولا مشابها لوزير الخارجية السابق كولن باول يقول فيه: "إننا نملك رؤية للمنطقة، حيث تُعلى فيها قيمة الفرد، وتحترم فيها سيادة القانون، وتزيد فيها المشاركة السياسة يوما بعد يوم"؛ إذن أيكون الإرهاب هو الباعث لتغيير السياسة الأمريكية نحو الشرق الأوسط؟ وهل صحيح أنَّه بسبب سياسة أمريكا السابقة في غضِّ الطرف عن القمع والممارسات اللاديمقراطية في الشرق الأوسط، استطاع الإرهاب أن ينمو ويتمدَّد؟ لا يجيب الكاتب عن هذا السؤال، فهو يتكلم عن رغبة أمريكا بنشر الديمقراطية فقط، دون البحث عن سبب رغبة أمريكا بنشرها. يعرض الكاتب العراق كنموذج لكيفية تطبيق أمريكا الديمقراطية في الشرق الأوسط، وقد كانت أمريكا اختارت العراق كأول بلد تُطبِّق عليه سياساتها الجديدة. ويلخِّص الكاتب أحداث هذا التغيير بنقطتين أساسيتين؛ أولاهما: تداخل المصالح الأمريكية الاقتصادية...وغيرها، برغبتها الصادقة بنشر الديمقراطية. وهنا أتساءل كيف يفترض الكاتب حُسن نية الإدارة الأمريكية بنشر الديمقراطية في العراق، دون أن يعرض علينا ولو ملمحًا بسيطًا لهذه النية الصادقة. عمل كهذا لا يُقاس بالنيات وصدقها، وإنما بالدلائل والقرائن، التي تُثبت صِدْق هذه النية من عدمه. ثانيا: التطوُّرات المعقَّدة التي ظهرتْ أثناء تطبيق هذه السياسات؛ وأهمها: عدم الاستقرار، واشتعال فتيل النزاعات الطائفية في كافة مناطق العراق، والمقاومة الشرسة التي أظهرتها هذه الفصائل تجاه الطرف الأمريكي، ومطامع أمريكا في ثروات العراق التي لم تتوقَّف حتى أثناء نشرها للديمقراطية!

وبهذا.. نَرَى أنَّ تطبيق السياسة الأمريكية في المنطقة، ليس بالأمر الهين، وأمريكا أدركت هذا الأمر. كما أنها تدرك أن المواجهة المباشرة مع دول أخرى كمصر والسعودية ليست مجدية أبدا. وحاولت التدخل في دول أخرى، حيث دعمت إخراج سوريا من لبنان بعد مقتل الحريري، ولقد حصلت في البدء على تجاوب كبير من الشعب اللبناني وقياداته؛ الأمر الذي لم يستمر طويلا؛ حيث عادتْ صورة أمريكا الداعمة لإسرائيل وبدأت التحالفات بالتفكك عنها. ولكن نشأت فرقتان: واحدة تؤيد عودة النفوذ السوري في لبنان، وأخرى اصطفَّت خلف أمريكا. أمَّا مصر، فتدخُّل أمريكا فيها كان ناعما، فالحركات السياسة مثل: "كفاية"، لم تكن ليعلو صوتها، لولا الدعم الأمريكي لها.

ونأتي إلى القسم الأخير، والذي يتناول فكرة ضرورة تطبيق الديمقراطية في العالم العربي، والبحث في كيفية تحقيق هذا الأمر. يقول الكاتب إنَّ الدعوات للتغيير وتطبيق الديمقراطية ومبادئ العلمانية في الشرق الأوسط بدأت منذ 100 عام، وناقشها الكثير من المفكرين العرب، إلا أننا -وكما نعلم- لم يكن للمفكرين العرب الليبراليين أية سلطة أو جماهيرية في أي وقت من الأوقات. ومن أبرزهم: الكاتب العفيف الأخضر، الذي كتب مقالات قيِّمة حول التغيير، ولكن لذاعة بعض آرائه -خصوصا تلك التي تتكلم عن تدخل الإسلام بالسياسية- تجعل منه وجها آخر لأمريكا، فهو يتعرَّض لضغوطات وتهديدات كثيرة بسببها. وأتفق مع الكاتب أن بَيْن ضرورة التغيير في العالم العربي، والانقسامات -الراديكالية الدينية والراديكالية العلمانية- تغيب المصلحة العامة، الداعية إلى نهوض هذا الجزء من العالم، المتأخر كثيرا عن ركب الأمم، والذي لم يستفد من ثرواته في الإنتاج المعرفي، ولم يستطع أن يُحارب تحديات كثيرة كالبطالة والفقر...وغيرهما. كما أنَّه من غَيْر الحكمة محاربة المساعي الأمريكية والمساعي العربية الداعية للتغيير بهذه الشراسة، فهم -كما يقول الكاتب- باقون في المنطقة لزمن طويل، ولن تجدي مقاومتهم شيئاً. ويختتم المقال، بجُملة وردتْ في التقرير الثالث للتنمية الإنسانية العربية، والتي تشدِّد على أنَّ درب التغيير الوحيد المتاح للعرب ينبغي أن ينبع منهم، بالعمل الجاد وقوة المعرفة، التي ستمكنهم من استشعار نقاط الضعف ومطامع الآخرين.

تعليق عبر الفيس بوك