أمَّا قبل...!

د. هلال الحجري

مِنَ القيم الإنسانية الجليلة التي تشتركُ فيها الأديان والثقافات: قيمة الوفاء. والوفاء معناه واسع؛ وهو أنْ يُؤدِّي الإنسانُ ما التزم به تجاه ربه، ونفسه، ووطنه، وأهله، وأسرته، والناس أجمعين. وقد حرص الإسلام في نصوص كثيرة على غرس هذه القيمة في نفوس البشر. وتأكيدا على أهمية الوفاء بالوعد، امتدح الخالق نفسه بهذه الصفة في جميع الكتب المقدسة الثلاثة: "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ". وكذلك أثْنَى الله على أنبيائه بصفة الوفاء بالوعد، كإبراهيم عليه السلام: "وَإبْرَاهِيْمَ الَّذِيْ وَفَّى". والحقيقة أن القرآن تتعدَّد فيه الآيات التي تحثُّ على هذه القيمة الكريمة، ولعلَّ من أهم الآيات التي تصرِّح بوجوب الوفاء بالعهد قوله تعالى: "وَأوْفُوْا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُوْلاً". أما الأحاديث النبوية التي شدَّدت على قيمة الوفاء فهي كثيرة، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَامَلَ النَّاسَ فَلَمْ يَظْلِمْهُمْ، وَحَدَّثَهُمْ فَلَمْ يَكْذِبْهُمْ، وَوَعَدَهُمْ فَلَمْ يُخْلِفْهُمْ، فَهُوَ مَنْ كَمُلَتْ مُرُوءَتُهُ، وَظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ، وَوَجَبَتْ أُخُوَّتُهُ، وَحُرِّمَتْ غَيْبَتُهُ".

وفي الكتاب المقدس تأكيدٌ واضحٌ على أهمية الوفاء، ونقرأ في سفر الخروج: "الربُّ كَثِيرُ الإِحْسَانِ وَالْوَفَاءِ". وفي سفر الأمثال وعيد شديد لأولئك الذين ينقضون عهودهم: "بِرُّ الْمُسْتَقِيمِينَ يُنَجِّيهِمْ، أَمَّا الْغَادِرُونَ فَيُؤْخَذُونَ بِفَسَادِهِمْ".

هذا في القرآن والكُتب المقدسة، ولكن فضيلة الوفاء في الثقافة العربية قديمة قدم الجاهلية؛ فقد كان العهد عند العرب دينًا يستمسكون به، ويهون عليهم في تحقيقه قتلُ أولادهم، وقصة السموأل بن عاديا دليل على ذلك؛ فقد ضربت العرب المثل بوفائه فقالت: "أوفى من السموأل". وقصته أن الشاعر امرؤ القيس أعطى السموألَ دروعَ أجداده الشهيرة ومعها بعض الكنوز حين أراد الذهاب لقيصر الروم، وكان ذلك لإيمانه بعدم عودته، وهو ما حدث فعلا فقد مات امرؤ القيس، حينها طلب ملك كندة تلك الدروع والكنوز من السموأل، فأبى السموأل أنْ لَا يدفعها إلا لمستحقها، فتوعده الملك بالترغيب والترهيب، لكن دون جدوى، فسار إليه من نجد إلى حصنه الأبلق بالقرب من تبوك بجيش جرار، فلما علم السموأل بقدوم الجيش اعتصم بالحصن وكان ولده حينها في رحلة صيد؛ فظفر الملك الكندي بولد السموأل، وهدَّده بالقتل إنْ لم يسلمه الدروع والكنوز، ولكن السموأل تشبث بوفائه مما تسبَّب في ذبح ابنه أمامه؛ فأنشد:

وفيتُ بأدرع الكندي إني ** إذا ما خان أقوامٌ وفيتُ

واستمرَّ الملكُ الكندي في حصاره حتى يَئِس منه فَعَاد خائباً، وبعد عام جاء ورثة امرؤ القيس إليه فأعطاهم الدروع والأمانة.

هذه من قصص العرب الأوفياء، ولو أنَّ شعوبَ العالم اليوم تستنير بخلق الوفاء بالعهد، لما رأينا هذا الانحطاط الأخلاقي الذي لا يحفظ لإنسان عهدا ولا ذِمَّة.

تعليق عبر الفيس بوك