التعصُّب هو الذي يقود للتطرف!

عبدالله العليان

لا شكَّ أن التعصُّب بدأ يتسرَّب إلى كيان الأمة في السنوات القليلة الماضية، ويكاد يُشتت وحدتها وترابطها وتماسكها، نزوعا إلى الحروب والمشكلات الطائفية الضيقة؛ بسبب الاختلافات المتباينة، والتي هى من القضايا الطبيعية التي لا تختلف حولها الأمم والكيانات؛ باعتبارها من السُّنن الكونية، التي جعلت الناس تختلف في أفكارها ومشاربها، وفي اتجاهاتها في الأمور الحياتية والدينية، والتي تعتبرُ من الفروع والجزئيات، وليس من القطعيات التي تجمع المسلمين في هذا الدين القويم، مع أنَّ المذاهب مدارس فقهية واجتهادات لعلماء، قد تصيب وقد تخطئ في هذا الاجتهاد، وليس دينا منزليا، نتعصَّب ونتصارع ونتقاتل لمجرد الاختلاف في الفرعيات التي جعلها الله في هذا الدين سعة ورحمة للأمة وليس العكس، والأخطر أن هذا النهج للأمة، من أسبابه التعصب والتطرف الفكري ومصادرة الحق لنفسه، وربما يتم تكفيره وخروجه من الملة! وهو الذي يسبق الصراعات والحروب، التي تعيشها الأمة حاليا.

ويقدم ابن منظور تعريفاً وهو "أنَّ التعصب هو أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته، والتألب معهم على مَنْ يُناوئهم ظالمين كانوا أو مظلومين". وهذا ما تعانيه الأمة الآن، بعد الأزمات الراهنة، والتخندق في الأفكار الضيقة، والإشكالية في هذا الأمر القفز من الخلافات السياسية إلى الخلافات المذهبية، مع الخلاقات في المدارس الفقهية -وكما أشرنا آنفا خلافات طبيعية- والتي تمثل الاجتهادات الفكرية للعلماء في تفسيراتهم للقرآن الكريم، والأحاديث النبوية. والغريب أن التعصب ازداد كثيرا في العقود الأخيرة، ربما بسبب التوترات السياسية، وبعض المؤسسات في بعض الدول الإسلامية تشجع على مثل هذه القضايا، وهو سبب من أسباب التعصب لمدرسة فقهية، وهذا زاد من التوتر والخلاف من الجانب الآخر، وحصل اقتتال وصراعات في بعض الدول العربية؛ لذلك لابد للأمة من المراجعة العقلانية إن أرادت أن تكون أمة كما قال عنها القرآن الكريم: "خير أمة أخرجت للناس". هذه الخلافات والصراعات -وهى نتيجة من نتائج التعصب كما أعتقد- وكذلك الاستبداد والإقصاء ساهم كل ذلك في هذا التطرف والتكفير والغلو، ولابد من النظرة الايجابية لمحاربة التعصب والتطرف معا، إذا ما أردنا أن نبعد مجتمعاتنا عن هذا الوباء الكبير الذي يهدد كيان الأمة واستقرارها ووحدتها وكياناتها المستقرة.

والإشكالية في بروز التعصب في بعض المجتمعات الإسلامية في عصرنا الراهن -والتي تؤرق مجتمعاتنا كما يرى الشيخ مُحمَّد الغزالي، رحمه الله- أنَّ الخلافات الجزئية في أمور الدين "واقع لا بد منه، وتجاوزها لما هو أهم منها واقع لا بد منه كذلك! ولم أر ناساً حبستهم الجزئيات وغلبتهم على رشدهم مثل صرعى التعصب المذهبي عندنا، وأظن السبب في ذلك أسلوب تعليم العوام. إنَّ المدرس يقول في ثقة: حكم الله كذا في هذه القضية، رأي الدين كذا في ذلك الموضوع؛ فيظن المستمع أنّ ما سمع هو حكم الله ورسوله. وما ينبغي أن يذكر بهذا الجزم إلا ما قطع. أمَّا الاجتهادات المذهبية فينبغي أن يقول المفتي أرى كذا أو الحكم عندنا كذا أو صح الدليل لدينا بكذا، ويترك مجالاً للرأي الآخر فلا يحرمه من الانتماء إلى الإسلام".

حتى إنَّ الذين يعتقدون أن الاختلافات المذهبية حول بعض القضايا الفرعية أو غيرها المتعلقة بالنص القرآني وتفسيره، فإنَّ الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله -كما يورده علي أومليل- يرى أن "اختلاف الناس حول النص القرآني لا يعني بالضرورة أن الاختلاف كامن في النص نفسه. لو التزم القوم على الأقل، بهذا التمييز لأقرّوا بأنَّ الاختلافَ بينهم طبيعي ولاعتبر كل طرف أن اختلاف خصمه إنما هو اختلاف معه هو وليس خلافاً مع النص".

فالاختلاف من هذا المنطلق حالة طبيعية لاختلاف الأفهام والعقليات لمشروعية الاجتهاد، كما يرى الباحث محمد محفوظ، ومن "المستحيل أيضاً القبول بالاجتهاد دون القبول بآثاره التي من جملتها اختلاف نظر المجتهدين. ولكننا في الوقت الذي نعتبر فيه أن الاختلاف حالة طبيعية مرتبطة بالوجود الإنساني، نرفض الاختلاف المطلق أو ما يصطلح عليه بـ"الاختلاف من أجل الاختلاف"؛ لأنَّ معنى هذا الاختلاف هو التشتيت الدائم والمستمر للآراء والأفكار، ويبقى كل منها منغلقاً على ذاته، رافضاً للآخر، كل منها يشكل عصبية لا تقبل التعايش والحوار، فهو صراع عصبوي حتى لو تجلبب بجلباب الاختلاف؛ فالاختلاف في حدوده الطبيعية ليس مرضاً يجب التخلص منه والقضاء عليه، بل هو محرِّك الأمم نحو الأفضل، ومصدر ديناميتها، وهو يقود بالإدارة الحسنة إلى مزيد من النضج والوعي والتكامل.

ومن هنا؛ نرى ضرورة التركيز على مسألة التعصُّب الأعمى لقضايا فرعية اجتهادية؛ لأنها تخلق التوتر، وتقود للغلو والتطرف والتكفير، وأمتنا بحاجة ملحة إلى رؤية جديدة من خلال النخب الفكرية الدينية والسياسية والفكرية، وواجب العلماء والمفكرين والتربويين أن يسهموا في خلق الوعي والفكر لدى الأجيال من مخاطر التعصب والتطرف والغلو، وأن توضع المناهج على أسس جديدة، تركز على الفهم الصحيح للدين، وقيمة التعدُّد والتنوُّع، وأن هذا من سُنن الله سبحانه وتعالى في خلقه. وأن تناقش الأسباب والمسببات لهذا الخلافات الطائفية التي هى خطر كبير على هذه الأمة، وإذا بقيت في خلافاتها الراهنة، ربما تتكالب عليها الأمم، كما جاء في الحديث الشريف؛ لذلك لابد من دق ناقوس الخطر؛ لأنَّ بقاء هذه الصراعات والتوترات قائمة، فإنَّ الأمة في مشكلة خطيرة، لا نرف أبعادها وآثارها المقبلة.

تعليق عبر الفيس بوك