عنف السلام

ناصر محمد

تناول الكثير من الفلاسفة والمفكرين والأدباء موضوع "الحرب" في كتاباتهم كخطر ينبغي عدم الاستهانة به، فالحرب هي الحرب مهما كانت الشعارات الرنانة تحوم حولها مثل الحرب العادلة أو الحرب المُقدسة أو الحرب الوقائية التي تستخدمها الدول الكبرى الآن لاستئصال عدو جديد هلامي وهو الإرهاب. وإن كان "هيجل" في فلسفته مثلا يعتبر الحرب جزءاً من الجدلية الضرورية لإنشاء قواعد القانون الدولي وذلك من باب نفي الدول لبعضها وتقديم المصلحة العليا، إلا أنّ الفيلسوف البريطاني" برتراند رسل" انتقد فكرة الحرب ككل ونادى إلى مكافحتها. كما أن الأدباء لم يبتعدوا عن شبح الحرب، فكان "ارنست همينعواي " الروائي والصحفي الأمريكي من ضمن فاضحي فكرة الحرب من خلال روايته "وداعا للسلاح" كنقد للحرب العالمية الأولى ومآسيها. ومن ناحية القانون الدولي فقد حاولت هيئة الأمم المتحدة من خلال ميثاقها أن تقنن الحرب وحصرتها في ضرورة الدفاع عن النفس، وجرمت الاعتداء على دولة أخرى ونظمت التعامل معه من خلال الفصل السادس وذلك لحل النزاع سلمياً وفي الفصل السابع للميثاق الذي يبيح استخدام بعض أدوات الإكراه ضد الدول المعتدية من خلال الحصار الاقتصادي، والذي تم انتقاده كثيرًا لأنّ الضحية هم شعوب تلك الحكومات الظالمة. لهذا ظهرت معاهدة روما عام 1998م إلى الوجود لتنشأ المحكمة الجنائية الدولية التي تحاكم الأفراد كمسؤولين عن جرائم الحرب بدلاً من تحمل الشعوب لتلك المسؤولية.

ولكن بالمقابل هل للسلام، كنقيض للحرب، أزماته أيضًا على الإنسان؟ قد يكون هذا التساؤل غريباً في ظل التوجه العالمي الحالي لإرساء قواعد دائمة للسلام بين الدول والشعوب . إلا أن الأحداث التي يشهدها العالم حالياً قد ترى أن السلام يعادل الحرب في مآسيه إذا كان يعني هبوط سعر برميل الدولار إلى مستوياته المتدنية، والسلام الذي يعني أن منتجات الشركات العابرة للقارات سوف تواجه نقصا بالطلب وبالتالي تدنيا هائلا للأسعار، والسلام الذي يعني الالتفات إلى الأنظمة الحاكمة غير الديموقراطية وتوجيه أصابع الاتهام لانتهاكها حقوق الإنسان، والسلام الذي أفرز جرائم قتل مروعة فردية بلا مقابل مادي، والسلام الذي ارتفعت من خلاله صرخات الهوية والانتماءات الدينية في الغرب المسالم والتي قد تضع العلمانية في رهان صعب مع احترام بعض الخصوصيات الثقافية التي قد تبيح العنف كانتصار للعقيدة، كما أن السلام شهد في عهده ارتفاع موجة الأصوليات الدينية والإلحادية خاصة في ثمانينات القرن المنصرم، وربما خروج العديد من أوروبا الى تنظيم الدولة للمشاركة في الجهاد ضد القوى "الغاشمة" هو أكبر دليل على أن السلام ينبغي أن يوضع بين قوسين لإعادة النظر فيه!

تعرض الكاتب والروائي الإنجليزي "كولن ولسون" إلى أزمة السلام في كتابه " تاريخ العنف الإجرامي" وذلك بتسليط الضوء على تلك الجرائم التي ترتكب بلا مقابل مادي أي بلا دافع. فقد وقف العالم مبهورا بالفعل أمام جرائم حدثت في القرن العشرين ليس بها دوافع حقيقية بقدر ماهي نوع من التسلية أو تغيير الروتين. فليس دافع الجريمة، كما كان سابقا، الفقر أو الدفاع عن النفس أو السلطة أو الشرف، بل كانت الجريمة ترتكب لأجل القتل نفسه. واستحضر ويلسون بعض الأمثلة على تمازج الحرب والسلم في سلوك القوات النازية التي كانت تسوق العوائل اليهودية إلى موتها وقيام الجنود بالضحك مع أطفالهم واللعب معهم، وعند الوصول إلى الموقع المحدد تمّ ذبحهم بكل برود دون الاهتمام بتلك المشاعر الجياشة التي أصابتهم قبل قليل.

ولقد حاول ولسون في كتابه أن يبحث أسباب ارتكاب هذا النوع من الجرائم وذلك باستعراض العديد من النظريات وكان "هرم ماسلو" من أهم النظريات التي لاقت قبولا عند ولسون، فماسلو وضع حاجات البشر في خمس مستويات: الأول: وهي الاحتياجات الفيسيولوجية، والثاني: السلامة الجسدية والأمن الوظيفي، والثالث: الصداقة والعلاقات الأسرية والجنس، والرابع: تقدير الذات والثقة وأخيرًا الابتكار والإبداع. والملاحظ أن المستويين الأخيرين لا ينتميان إلى الحاجات المعقولة لارتكاب الجريمة وذلك من الناحية المادية، فالمجرم هنا يرتكب الجريمة ضد المجتمع لأنّ المجتمع لم يلتفت له أو همشه. فهو هنا، وفي سابقة تاريخية، يجعل المجتمع عدواً له بدلاً من السلطة ويقوم بعمليات قتل ممنهجة تستهدف ضحايا عشوائيين لا تربطه بهم أية صلة!.

يمكن أن نرى السلام من هذه الزاوية على أنّه عنف "غير مادي" موجه للإنسان إذا كان لا يعطي الإنسان أيّ اعتبار في كرامته أو ذاته الميّالة بطبيعتها نحو التفرّد، فمعاملة الإنسان على أنّه "شيء" هو بمثابة الحكم بإعدامه! ويُشير كولن ولسون إلى أنّ هذه الجرائم تكثر في المدن بالمقارنة مع الأرياف لأنّ فرص التفرّد في المدن أكثر صعوبة، كما أن الشعوب الدينية والفقيرة لاتقع بها هذه الجرائم كثيرًا لأنّ الحاجات الدنيا للإنسان لم تلبِّ بعد بشكل كاف. ولقد نبّه "هربرت ماركوز"صاحب كتاب "الإنسان ذو البعد الواحد" إلى أزمة إلغاء الطبقات الاجتماعية بسبب هيمنة التكنولوجيا وبالتالي تهديد الحرية، وعبّر ماركوزه عن ذلك بقوله : إن اختيار الإنسان بحرية بين خيارات ساداته لا يعني أنه أصبح حرا! والسيد هنا هي التكنولوجيا والرأسمالية التي مسحت التفاوت الطبقي عن طريق الديموقراطية اللاغية للصراع من أجل الحرية من خلال مأسستها.

ومن خلال استبعاد ولسون للشعوب الدينية والفقيرة من الوقوع في فخّ السلام المؤذي والذي يحيلنا إلى الشعوب العربية، وبالأخص الشعوب الخليجية التي تحيا الآن أزهى مراحل حياتها المادية، يبرز السؤال هل هي بالفعل بمنأى عن عنف السلام؟ ربما لا وجه للمقارنة بين الجرائم المرتكبة بلا دافع في الدول المتقدمة مع الدول العربية والخليجية، إلا أن السلام في الدول الأخيرة مثلا لم يجعل الشعوب تتجه إلى المستويين الرابع والخامس من هرم ماسلو وهما تقدير الذات والإبداع، بل حصلت انتكاسة في الإرادة ونكوص نحو الماضي وصراع ذو صبغة دينية وقبلية أكثر منها اجتماعية أو اقتصادية، وهنا صار العدو هو الفرد وليس المجتمع وذلك بخروجه عن المألوف وعشقه للفرادة، وكأن هرم ماسلو انقلب رأسه إلى القاعدة كحاجات تنشدها هذه الشعوب!.

تعليق عبر الفيس بوك