فهم الجهاد التكفيري ومسؤوليَّة الغرب

علي فخرو

دَعْنا لا نَضِيْع في متاهات المسببات والظروف والنتائج المؤقتة لما جَرَى في سيناء وباريس وضاحية بيروت الجنوبية.

دَعْنا أيضاً من دموع التماسيح التي تذرفها عيون الساسة عبر العالم كله، وهم يمشون في جنازة الأبرياء، ويلطمون متسائلين عن الجهة التي تدفق منها الرُّعب الإجرامي الهمجي.

ذاك ما تريده منا دوائر المصالح والكذب السياسي والتلاعب الإعلامي بمشاعر الشعوب؛ أن ننشغل بالمؤقت، وبطرح الأسئلة على الضحايا، وبالثرثرة حول هويات المجرمين، لكأنهم لا يعرفونهم ولا يعرفون من جيَّشهم ولعب بعقولهم، ثم درَّبهم وموَّلهم ووضع المتفجرات حول خواصرهم.

موضوع القوى السلفية الجهادية التكفيرية -ممثلة بـ"داعش" و"النصرة" و"القاعدة" وأخواتهم، يحتاج أن يدقق فيه من خلال محطات إستراتيجية فكرية وتنظيمية وعقلائية كبرى، وبشرط أن تسمى الأمور بأسمائها الحقيقية.

أولاَ: من الضروري التفريق بين السلفية التقليدية الكلاسيكية والسلفية الجهادية التكفيرية الإرهابية؛ وذلك من أجل عدم الدخول في مماحكات عبثية مع ملايين المسلمين السلفيين التقليديين، الذين لا ارتباط بينهم وبين داعش وأخواتها، ولا يقبلون بالحماقات العنفية التي ترتكبها.

صحيح أنَّ المرجعية الفكرية للجهتين واحدة، مرجعية الإمام أحمد بن حنبل وابن تيمية ومؤسس الوهابية محمد بن عبدالوهاب، وصحيح أن العناصر الإيديولوجية الأساسية من مثل الأولوية للنص على العقل، والأخذ بعقيدة الولاء والبراءة وطاعة الحاكم لدرء الفتنة، والاقتداء التام بأقوال وأفعال الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين، ودون أي تحفظ، هي واحدة لدى الجهتين، لكن هناك اختلافات أساسية تؤدي بالسلفية الجهادية إلى الشطط والعنف وارتكاب أشنع الحماقات.

فإلى العقيدة السلفية التقليدية، كطريق اعتقادي ديني سلمي ودعوي، أضيف بقوة وتشنج موضوع الجهاد كطريق تغييري عنفي محارب لكل ما يعتقد أنه بدع وضلال وشرك، رافع لراية الحاكمية لله وحده، كما جاءت في كتابات المودودي وسيد قطب، رافض لمقولات الديمقراطية والمجتمع المدني والمواطنة والتعددية السياسية وسيادة الأمة والاتفاقات الدولية، وغيرها كثير.

كما أضيف أمر خطير آخر، وهو إجازة فقه الضرورة إذا تطلب الواقع ذلك، وعلى الأخص أثناء العمليات الحربية الجهادية، وفي هذه الحالة يحقُ للقائد الميداني أن يفعل ذلك، وهو ما يفسر السيل المنهمر من الفتاوى والاجتهادات الغريبة التي نطق بها العديد من القادة الميدانيين في طول وعرض ساحات الصراعات التي يخوض غمارها معتنقو الجهاد التكفيري.

ليس ما ذكر سابقاً قضايا نظرية وأكاديمية دينية، إنها في قلب الواقع اليومي والممارسات المرعبة التي نشاهدها يومياً، في بلدان من مثل: العراق وسورية وليبيا واليمن وسيناء مصر وضاحية بيروت الجنوبية ومناطق كثيرة في إفريقيا المسلمة، وأخيراً في باريس.

لذلك؛ فالمعركة الفكرية والثقافية، التي ينوي الكثيرون، خوضها ضد الفكر الإسلامي المتطرف، يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الفروق الهائلة في الفكر والممارسة بين السلفية الجهادية التكفيرية، المتمثلة في داعش والنصرة والقاعدة وأمثالها، وبين غيرها من المذاهب والمدارس والتنظيمات والممارسات الإسلامية المسالمة والحاملة لأفكار بعيدة كل البعد عما أوجزناه في الفقرات السابقة.

ثانياً: لايحقُّ للغرب -مع بعض الاستثناءات بالطبع- أن يدَّعي لنفسه براءة الحمل الوديع من كل ما يجري في أرضنا وفي أرضه، فهو ضالع في كل ما جرى وما يجري في أرض العرب والإسلام، وهو مسئول عن ارتكاب أخطاء وخطايا أدت إلى ما نحن فيه.

لو أن في الغرب ذرة من شعور بالذنب وصحوة الضمير لراجع تاريخه معنا وعلاقاته بحاضرنا، ليكتشف كم زرع من كراهية وحقد ومراوغة واستغلال ودمار ولعب بالنار.

ليراجع الغرب تاريخه الاستعماري المذل الناهب في أرضنا، تاريخ فرض التجزئة على أرضنا، تاريخ زرع نبتة صهيونية استعمارية عنصرية استيطانية إرهابية جشعة في أرض فلسطين العربية وتشريد شعبها، تاريخ اجتياحه العراق تحت رايات الكذب والحملات الإعلامية الحقيرة وتدمير مجتمعه، وتقنين الطائفية فيه وتهيئته للتفتت والزوال، تاريخ هجومه الاستعماري العسكري على ليبيا وتركها بعد ذلك نهباً للحروب الأهلية؛ من خلال تدخلات يقوم بها أو يسمح بالقيام بها من قبل جهات أخرى، تاريخ تسليح وتدريب وتجهيز معارضة عنيفة إرهابية في سورية، والانتظار لخمس سنوات قبل أن يتكلم الغرب عن الحل السياسي، بعد أن تأكد أن سورية قد اقتربت من الدخول في القبر التاريخي، وأخيراً تاريخ تقديم المصالح الاقتصادية وبيع الأسلحة ونهب البترول على اي التزام إنساني أو أخلاقي أو حقوقي تجاه شعوب المنطقة.

لن تكفي فقط مراجعة التاريخ، الغرب يحتاج إلى مراجعة الجزء المتعلق بعلاقته مع غيره، ومنهم العرب، على ضوء نقاط الضعف في فكره الاقتصادي والسياسي والثقافي، وفي سلوكياته المتعجرفة غير المبالية بآلام ومصائب الآخرين.

وبالتالي؛ فكما الغرب يُفاخر بحقِّ بإنجازاته الحضارية الهائلة، عليه أن يعي أدواره السلبية في شقاء هذا العالم، ومنه أرض العرب، وأن يفعل شيئاً تجاه أخطائه وخطاياه، وذلك بدلاً من لوم الآخرين ولبس قناع البراءة الكاذبة.

إذا كنا نريد مواجهة الجنون التكفيري، فعلينا أن نذهب إلى لبِّ المواضيع، إلى الثوابت وليس فقط المؤقت، إلى مسؤولية الجميع وليس مسؤولية البعض، إلى عدم التعميم ولوم كل من هب ودب، إلى الابتعاد عن نظرات الاستشراق المنحازة وإحلال العقل والنزاهة والإنسانية في تحليل الأمور.

تعليق عبر الفيس بوك