مائدة وسلة مشتريات

أحمد الرحبي

في أحد التعريفات التي استقرت لتعريف العولمة، وباتت ثابتة لوضوحها وضوحًا يخدم الغرض في التعريف المختصر ويقدم الإجابة الشافية لا أكثر ولا أقل حول هذه الظاهرة العالمية التي اجتاحت العالم منذ منتصف التسعينيات، بأنها هذه العولمة هي .. اندماج عالمي بين الأسواق الكونية والأمم والتقنيات في داخل رأسمالية السوق الحرة على نطاق غير مسبوق .. وإذا ضربنا صفحاً عن (الأمم) و(التقنيات) وركزنا هنا على (الأسواق الكونية)، فإننا يمكننا القول بأنّ أهم فصل من فصول العولمة إنما يدور في المتاجر والمطاعم والمطابخ، مع ظهور التبدلات والتغيرات الكبيرة في العادات الاجتماعية نتيجة العولمة التي انتشرت في بلدان العالم وأقطاره كانتشار النّار في الهشيم.

ونتيجة لهذا الانتشار الذي اخترق الحدود وطوع الأيديولوجيات وتغلغل داخل المجتمعات العالمية حتى تلك المحافظة منها ولو بتحييد عاداتها، بات العالم رهين الشراهة الاستهلاكية فأخذ القصف الثقيل للإعلان يؤجج انتشارها بل استشراؤها كثقافة للمرحلة إلى جانب فن التسويق التجاري وخدعه، وحيل العرض التجارية التي تستصرخ العين وتهيب بالناظر إلى واجهات العرض بأنّ كل الأشياء صالحة للأكل ومثيرة ولذيذة وأن كل صنف منها يدعو إلى الصنف الآخر .

بالإضافة إلى ذلك أدى اعتقاد خاطئ بأنه كلما ازداد دوران رأس المال، ازداد أمل الذين لا يملكون، في الحصول على جزء منه وأنّه سيدخل جيوبهم إن عاجلاً أم آجلا، ومع بوادر الازدهار الاقتصادي الذي تزامن مع مغادرة النساء للمنازل إلى أماكن العمل وبروز الحاجة تالياً إلى توفير الوقت وشراء الحاجات من متجر واحد، أدى كل ذلك إلى ظهور السوبر ماركت، ففي هذا المكان.. إذا كانت عربتك فارغة بعكس عربات الآخرين المليئة، فإنّك ستتماسك لبعض الوقت، وبعد ذلك يُسيطر عليك نوع من الحسد والغيرة، وشيء من وجع القلب المكسور لدرجة أنك لا تستطيع احتمال الموقف أكثر فتبدأ بملء عربتك بهذه الأشياء مثلما يوصف الكاتب الإيطالي ايتالو كالفينو في روايته ماركو فالدوا الحال التي تكتنف المتسوق في السوبر ماركت تحت تأثير الموسيقى الناعمة التي تبثها السماعات الخفيفة مسهلة حركة المستهلكين الذين يسيرون أو يتوقفون متابعين اللحن، وفي اللحظة المناسبة يمدون أيديهم لالتقاط أي شيء ثم يقومون بوضعه في عرباتهم وكل ذلك يتم تحت تأثير الموسيقى، فرحمة الله على البقالة الصغيرة وعلى صاحبها في زمن السوبر ماركت التي يلفظ فيها المتسوقون بضائعه بفرحة غامرة وكأنهم يتعرفون على وجوه أصدقاء ومعارف، يقابلونهم للمرة الأولى، كما يذكر كاليفينو في روايته.

***

المائدة العمانية أو الخليجية بشكل عام في أسوأ التوقعات لا تتوقع هذه المائدة أبداً اختفاء طبق الأرز أو حتى توقع تحوله إلى طبق ثانوي على بسطتها، خاصة وأنه يشكل المكون الوحيد الأوحد فيها، حيث يعتبر الأرز ملك الطعام بحق في منطقتنا، لا ينافسه منافس من الأطباق الأخرى، برغم المتغيرات التي تعرض لها نمط الحياة لسكان الخليج وسلوكيات الحياة الحديثة التي خالطت معاشهم، منذ بدايات الطفرة النفطية التي تعيشها المنطقة. فقد ظلت هذه المائدة بشكلها التقليدي القديم، محافظة على تميزها الوحيد الذي يمكن أن يعرف هذا التميز بلغة صحية: بأنه اختلال التناسب في المواد الغذائية الضرورية المتطلبة للجسم في أطباقها لصالح مادة غذائية واحدة هي الأرز، والتي تتيح تركيبته النشوية على الاعتياد عليه كمحرض مغرٍ للشبع وطريق قصير إليه، وصولاً إلى درجة الاتخام منه تحت تأثير استلذاذ خادع، حيث يزدرد بكميات كبيرة، تنعكس في الأخير آثارها، في سمنة ينوء بها الجسم ويضيق بها إهابه. فحتى في أوج انفتاح المنطقة على الخارج، واستقبالها لكل ما هو جديد، لم يسجل أي تأثير يذكر في العادات الغذائية في الخليج، بينما جل الخبرة الوافدة في مجال إعداد الطعام (عربية وآسيوية وغربية) لم يلتفت إليها بكبير اهتمام، سوى الخبرة الهندية والتي عملت منذ البداية على خلق وشائج علاقة متينة بين المطبخ الهندي والمطبخ الخليجي. مادتها الوحيدة هي الأرز الذي لم يكف أن تكون بلد المصدر له الهند فقط، وإنما الخبرة في تقديمه وإعداده أيضاً. وإذا كانت ظروف الحياة، والعمل والجهد المضني الذي يبذل نهارًا بطوله في السابق، وسط شظف العيش يحتمان الاعتماد على الأرز كمادة غذائية نشوية مكملة لمادة غذائية بروتينية كالسمك، فإنّ الحياة العصرية في وقتنا الحالي، التي يتميز نمط العيش فيها بشيء من الراحة والدعة توفرها وسائل العصر الحديث، لم يعد الجسم يتحمل فيها الأرز بهذا الإسراف من دون أن ينتج عنه إشكالات صحية تهدد الجسم بأمراض وبيلة. فبالإضافة إلى الإشكالات الصحية الناتجة عن الاعتماد الكلي على هذه المادة الغذائية فإنّ ارتفاع سعر الأرز كسلعة غذائية، ضمن ارتفاع قيمة كافة المنتجات عالمياً وذلك نتيجة ارتفاع أسعار البترول ومشتقاته، يحتم علينا بعض التغيير من الآن فصاعداً، في مواد طعامنا، فبدل الاستسلام للربط الحاصل من قبل البلدان الُمنتجة للأرز بمادة إستراتيجية كالنفط (وهو ربط حقيقي متعمد)، علينا التقليل من أكل الأرز واستبداله بمواد غذائية أكثر فائدة للصحة والجسم.

تعليق عبر الفيس بوك