الدين والعلم ودائرة التعارض بينهما (2-2)

سلسلة لقوم يتفكرون

بدر بن سالم بن حمدان العبري

رأينا في الحلقة السابقة أنّ المقارنة بين العلم والدين غير متكافئة؛ لأنه سيظلم أدياناً بذلك، كما أنه سيظلم أفرادًا به تلقائياً، والأولى في المجال العلمي تحديد العبارة؛ لأنه إن قلنا التضاد بين الدين والعلم فهذا فيه وجه من الصحة، لأنّ الكثير من مفرزات الأديان من صنع البشر، أما إن قلنا بين العلم والقرآن، فهذا غير موجود قطعًا، بل الله سبحانه وتعالى أمر بالنظر في الكون نفسه، ولو كان التعارض صحيحًا لناقض الكتاب رأسا لما أمر، بل اعتبر القرآن حتى إثبات وجود الله تعالى ليس موروثًا يلقى، وإنما تأملا وتدبراً في الكون، وجميعه سيقود إلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى وتوحيده، حيث قال: {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ، وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ، فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ}.

والله سبحانه وتعالى في الآيات المكية، وفي الخطاب مع العرب، وهم في بداوة الحياة، وبساطة الفكر، لم يأت وخاطبهم مباشرة بوجوده، بل حرّك قلوبهم وعقولهم للنظر والتدبر، والتأمل والتفكر، وأقسم بجمال الكون في أكثر من آية، لأن إعمال ذلك تلقائيًا يقود إلى الإيمان.

ومن العجب أن يجعل من الإلحاد صورة عصرية ضدّ الله، ويقرن بالعلم، فيتصور العلم مناقضًا للإيمان، ويلصق بالنظريات المعاصرة، خاصة نظرية التطور والنشوء للعلامة تشارلز داروين ت (1882م) مع أن داروين كان موحدًا، ومات مؤمنًا بالله تعالى، شأنه كأي يهودي في العالم، ولم يلحد بنظريته أصلاً، وإنما ارتبط الإلحاد بنظريته بعده، خاصة عندما التصق بها الماركسيون والشيوعيون.

ولئن حدث تعارض بين جزئية من نظرية داروين مع اليهود والنصارى فهذا يعود إلى الأصل التوراتي البشري في سفر التكوين، والذي دخل علينا نحن المسلمين عن طريق الرواة والمفسرين، بينما الله يطلب منا في القرآن أن ننظر إلى أصل الخلق بما فيه الإنسان حيث قال: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، ولم يأمرنا أن نأخذ عن أهل الكتاب، فهو قادر بذاته لتفصيله وبيانه، ومع هذا تركه للعقل والنظر، ولو كان مبينًا واضحاً لتناقض مع أمره سبحانه وتعالى بالنظر والتفكر في نشأة الخلق.

كل ما في الأمر ذكر الله تعالى خلقَ آدم وتشريفه بالخلافة البشرية كان حقيقة أو رمزا أو مجازًا على خلاف بين أهل التأويل، ومع هذا الله لم يذكر آدم أول مخلوق، ولكن فهم ذلك العلماء والمفسرون، ويبقى هذا فهما وتفسيرا لا نصا قاطعا، فهو قابل للنظر، وعليه مثلا اختلفوا في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فهناك من فهم بوجود مخلوقات بشرية قبل آدم، والأمر بالسجود كان للخلافة والتشريف الإنساني، وهناك من فهم غير هذا.

وكما أنّ التفسير للنص القرآني قابل للنظر، فكذلك أيضا النظرية الداروينية قابلة للنظر، فكما ينكر على (المتدين) - إن صح التعبير لأن العلماني كما أسلفنا متدين أيضا بعلمانيته - جعل التفسير نصا، أيضا ينكر على المتعصب للنظرية الداروينية من جعلها حقيقة علمية، كيف وبعض العلماء الغربيين لا زالوا يعتبرونها فرضية ولم تصل إلى النظرية، فكيف التعصب لها وجعلها حقيقة، وبالتالي جعلها مضادة للتوحيد، أو بوابة للإلحاد.

التعصب ممقوت في الجانبين، ونظرية داروين في ذاتها إن صحت تقود إلى الإيمان بالخالق العظيم، وقد خلق الناس أطوارا، والكون خلقه أطوارا، وفي النهاية لا يمكن للصدفة أبدا أن تكون هنا، فالتسلسل يدل على الموجد الأول للذرة الأولى، وهو الله سبحانه وتعالى.

والله يخبرنا بذاته لمعرفة خلق الكون والإنسان أن ننظر في خلق الذات البشرية حيث قال: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}، وبين المراحل العمرية للخلق: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}.

فهذه النطفة والتي تتشكل منها خلية واحدة، فيحدث الانشطار الخلوي، ثم تتحول إلى علقة تعلق بجدار الرحم، فمضغة غير مخلقة، وبعدها مضغة مخلقة ذات عظام يكسى باللحم، هذه المراحل أنزلها الله تعالى في وقت لا يُعلم عنها بصورة علمية إلا في القرن الثامن عشر الميلادي، ولو شاء الله تعالى لوضحها توضيحا، ولكنه ترك البيان للعقل البشري لينظر ويتدبر، وفي النهاية سيقوده إلى الإيمان بالخالق سبحانه شاء أم أبى.

تعليق عبر الفيس بوك