"لا يُمكن أنّ أكونَ لكَ حبيبة! "

هلال بن سالم الزيدي*

من بين الرُكام تظهر الحياة.. ومن بطن الشر يُولد الخير.. ورب ضارةٌ نافعة.. وليس كل ما يتمناه المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، لكن في مقابل ذلك يُقال: إذا هبّت رياحُك فاغتنمها فإنّ الريح عادتها السكون، ويقال أيضاً لا تركن إلى سراب الحياة وعليك أن تقتفي أثر الماء لأنّه هو الحياة.. ولا تتحسف لفعلٍ أو قولٍ مضى إلا إذا كان في حق عزيزٍ عزَّ عليك.. وبعيدا عن الفتوى، فالتوبة تجبُ ما قبلها .. والذكريات إما تحيا فتنتصر أو تبقى ذكرٌ خالد في نفس من يُجلها فتتعفر.

كان يجلس هناك في ركنٍ منزوٍ من ذلك المقهى يراقب الخارجين والداخلين، ومن فرط حساسيته كان يخبء وجهه بين تلك الصحيفة حتى لا يراه القادمون .. لأنّهم ربما يعرفوه عندما كان مجده مرتبطاً بها .. عندما كان ينتشي بها ومفاخرا معلقات امرؤ القيس والأعشى وزهير بن أبي سُلمى.. فوضعها وساماً على صدره وتاجاً فوق مفرق رأسه وقدم لها كل ما عنده .. صدق معها إيما صدق، فأعادت إليه بريق الشباب وعنفوان الذهاب والإياب.. يا لها من علاقة وطيدة نزيهة مليئة بالشعور الصادق .. لكن بدون سابق إنذار أو استعداد أو حتى استنفار ذهبت عنه وتركته بلا هوية، وبلا قيمة؟ تركته على حواف المِقصلة.. فنفّذت فيه حكمها ورحلت... فأمسك لجام الحرف وبدأ يكتب ويئن، ولصاحبه يشرح، ولها يرسل وينادي.

فقال: المِقصلة.. نعم إنها المقِصلة التي لم يكن بعدها نقطةٌ أو فاصلة.. أو حتى فرض أو نافلة.. لأنها قاصمةٌ قاتلة.. لا تبقي ولا تذر .. إذاً هي قدر مقدر .. فعليك أن تُفكر وتقدر ثم تقرر .. أي طريق تذهب بعد ما تبينت لك الحقائق والطرائق.. فلا أعذار بعد اليوم ولا إعصار.. نعم إنها هي بعينها قضت فكانت القاضية، فجرت في جسدك كالأنهار الجارية.. شئت أم أبيت، فربما تكون قد انتهيت، ولا تقول بأنك رميت إذ رميت، فرميتك لم تسدد لكنها تشظّت فذهبت مع الريح واختفت. . ولها أرسلت ولي اشتكيت.

فردت عليه: "مالك ..؟ فيك شيء؟ إنته بخير؟ " فضحك وانشطر، وبكى وانهمر.. وكتب: لا يهم فمن أجل أن يستريح من يكون ها هنا مسكنه (فأشار إلى قلبه) ندوس على أوتار الجروح لتشدو عازفة مجلجلة .. حتى وإن صار كهذا(فرسم أيقونة لقلب مكسور مشطور) ممزق ومشاعره غارقة .. لأنه عظيم في شخصه وكيانه.. فبأصبعه يأمر كالملوك الفارعة.. وأكمل يكتب ..

أيحق للرجال ذرف الدموع والولولة؟ آه آه آه كيف تُكسر الشخوص فتغدو مسربلة، أيمكن لواقع أن يكون ذكريات مُعفّرة ؟ آه آه آه كيف يقسو الواقع في ظروف مُسطّرة، أيجوز أن أقلب المحبرة؟ فتُغرق البياض وتُخفي أثره.. ؟ كل شيء جائزٌ من أجل أن يستقيم من سحره. أيستطيع الشاعر كتابة عجز دون شطره؟ ويكتفي بشطر واحد دون قافية موزونة مسوّرة؟ كل ذاك واردٌ في إلياذةٍ أو نثرٍ دون قصائد عنترة ..لا يهم ربما أتظاهر بالقوة لكنني جربت ذاك مرة.. ومع مرور الوقت تناسيت الذكريات حتى وإن كان وخزها يؤلمني كالجمرة .. لكنها تبقى جميلة كالليل في ضوء القمرة .. لأن لها كيان وسيرة مُعطّرة.. كم هي مؤلمة حقاً عندما يقع المحب في الحب وشرره.

لم ترد عليه.. ربما حسبته ثملٌ أو هو كذلك من فرط تعلقه بها، فثمله لم يكن بشرب أو خلافه، وإنما ثمل برحيقها عندما ينفث في أجوائه حضورها.. هنا توقف وسالت دمعة من عينه اليمنى لتجري بين شُعيرات لحية بالسواد مخضبة.. فيهذي ويقول كما قال يوماً نزار قباني في شعره ومشعره: "فأنتَ كالأطفالِ يا حبيبي.. نُحبّهمْ.. مهما لنا أساؤوا..اغضبْ! فأنتَ رائعٌ حقاً متى تثورُ..اغضب! فلولا الموجُ ما تكوَّنت بحورُ..كنْ عاصفاً.. كُنْ ممطراً.. فإنَّ قلبي دائماً غفورُ."

هناك يرى وبين خضم البوتقة التويترية، عبارة مكتوبة تُعبّر عن واقعه حين أمره: "حينما يرحل الاهتمام لا فرق بين الحضور والغياب" .. فقد تحوّل شعوره إلى أثر بعد عين مُسمّرة.. فبينما كان يعيش على وهم سطحي تعلّق بالسراب المرير فمرمره.. فرآه بقيعة حسبه من ظمئه ماء ينتظره.. فسار يتبعه حتى أهلكه المسير.. وتكشفت لديه الصحاري والقفار.. لماذا أيها المسكين تبني قصرًا برمال البحار؟ ألا تخشى الوقوع والاندثار؟

فجأة التفت إليّ فغدت عيناه كالأنهار.. فقال وهو غارق في دموعه كالصغار: هناك من يخطئ في حق الآخرين لأنه يغار.. لكن هناك من يخطئ في حق نفسه وهذا خطأ أصعب من وجهة نظري ودمار .. لأنّه نزل درجات من سلم الحياة بعد ما كان يصعد في ثبات.. لماذا أيتها الذات نكران الذوات؟

إنّه هنا وهناك يستأذن للرحيل دون أن يحمل شيئاً من الأمتعة أو التذاكر أو شيئاً كان يسمعه.. حتى باقة الورد سيجعلها حفلا سنوياً لعيد الميلاد سيغرسها في ذاكرته ويسقيها بمدمعه، ويحتفي بها وحيدًا ولا أحد معه.. سيترك كل شيء ويعبر للضفة الأخرى من أجلها وحبه الذي على جبينها طبعه.

أتعلمين أيُّ حزن يبعث النهاية.. ؟ هو حزن الشعور بانتهاء البداية .. عند التقاء النظرات وتقاطع التفاسير في شرح الدلالة والمعرفة.. لأنكِ لا تشبيهنهم أبداً .. رغم كثرتهم في العدة والعتاد.. والحضور والغياب.

أتعلمين بأن الاستجداء لا يوجد في قاموس البسطاء.. لأنهم بسطاء حتى في غرس شعورهم في أراض بور لا يجدي معها الوابل المنهمر إن سال من عمق السماء.

أتعلمين عندما أتفرّس في الوجوه فإنني أقرأها بكل تفاصيلها وإن تظاهرت بخلاف ما تُخفي.. فمهما كانت الابتسامة ترسم لتنير حبة الخال تبقى من أجل البسطاء.. فالصداقة يتقنها الكثيرون حسب ما تشتهين.. لكنهم لا يسقونها بتدفق الحب ولا يشتاقون إليك.. فشوقي لا يشبه أي شوق، وسأظل أحبك حتى وإن قلت: "لا يمكن أن أكون لك حبيبة" .. نعم أتذكر أغنيتك أو مرثيتك أو وداعك لي عندما استعرتِ الكلمات التي تغنى بها القيصر " سلامي للي حاضر معانا .. سلامي للي خالي مكانه.. سلامي إن شاء الله يوصل سلامي ..أسامي ما أريد أذكر أسامي .. سلامي على اللي صان المحبة .. سلامي على اللي فرقته صعبة .. بعيد ويأكل ويشرب معانا .. عزيز وصاحبي وقلبي على قلبه .. سلامي على اللي يستاهل دموعي .. حزين وضحكته تعود برجوعي.. رجاءً لا تذكرونه أمامي.. أخاف يطير قلبي من ضلوعي".. وقتها تيقنت أنني لست أنا المقصود.. وأنه حفل وداعي.

همسة :

كان مُحدّثي مُتعبا منكسرا لأنها ذهبت عنه .. فاستعار مقطعا من قصيدة الشاعر الرائع نزار قباني التي غنتها الجميلة أصالة نصري قبل أن يهم بالرحيل ويطوي جسده المثخن بجراح الحب... فردد قائلاً : "وعندما تحتاجُ كالطفلِ إلى حناني.. فعُدْ إلى قلبي متى تشاءُ.. فأنتَ في حياتيَ الهواءُ..وأنتَ عندي الأرضُ والسماءُ..اغضبْ كما تشاءُ.. واذهبْ كما تشاءُ .. واذهبْ متى تشاءُ.. لا بدَّ أن تعودَ ذاتَ يومٍ .. وقد عرفتَ ما هوَ الوفاءُ" فذهب وغار بين الحشود.

قبل الختام، أقول من أجل إسقاط القصد والبعد عن التفسير والاختبار: لا تحزن أيّها المسؤول لفقدك حبيبتك الجميلة "المسؤولية" لأنّها لا تدوم.. ولن تعود.. لأنّها لم تكن تُحبُك، فإليك كل التحايا، ولها كل التوفيق.

*كاتبٌ وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك