الشورى ودولة المؤسَّسات

 

إيمان بنت الصافي الحريبي

تميَّزت تجربة الشورى العمانية بأنها تخضع لتقييم ينمو ويكبر مع زيادة وعي المواطنين بأهمية ممارسة حقهم الانتخابي؛ فما شهدته مراكز الانتخابات في عموم السلطنة من إقبال كبير للتصويت واختيار المرشحين، يعكسُ حجمَ النضج الذي مرَّ به المواطن العماني خلال تجربة الشورى وعبر ثماني دورات تتسع كل دوره منها لاستيعاب فهم جديد وإضافة وعي إيجابي حول هذه التجربة التي أراد لها مولانا حضرة صاحب الجلالة أن تقوم بنهج متدرج يتَّسق مع بناء الدولة العصرية ودولة المؤسسات. وأتت الدورة الثامنة بنسق مغاير وفهم جديد يتصدره الشباب الذين حصدوا ثقة الناخبين في ولايات مختفة بنسبة تغيير وصلت إلى 70% حسب تصريح وزاة الداخلية لمن ما بين الفئة العمرية من 30-45 سنة.

... إنَّ النظم والتشريعات القانونية وإرساء مبادئ العدالة والمساواة هي الأساس المتين لبناء الدول والحفاظ على كينونتها الاجتماعية والاقتصادية، وهي أساس كذلك للاستقرار والسلم الاجتماعي، وهي بذلك المدخل الأساسي للحفاظ على منجزاتها وقيمها وحفظها وتناقلها من جيل إلى جيل.

فتطوير القوانين عملية قائمة على استلهامها من البيئة العمانية ومفرادتها؛ مما يجعل المجتمع والمؤسسات قادرين على تقبل وتطبيق هذه القوانين؛ بما يسهل حياتهم ويحقق الضبط الاجتماعي والمؤسسي دونما صعوبة في التطبيق أو مغالاة في التسديد، مصدرها استيراد قوالب قانونية جاهزة لا تتناسب وخصوصية المجتمع العماني، ويقول جلالته بهذا الشأن في لقائة في صحيفة السياسة الكويتية: "لقد استنبطنا نظاما لمؤسساتنا الدستورية ينفع الناس ويريحهم وينسجم مع خصوصياتهم وتراثهم وثقافاتهم.. وأعتقد أننا نجحنا عبر نظامنا أن نغلف القانون بأثواب ذات قياسات مريحة يجد فيها المسؤول القدرة على تطبيق الجانب الوردي وليس الجانب الأسود من القانون".

إذن.. وحتى تحقق هذه القوانين الغاية من سنها وتشريعها، وتتجاوز الإطار النظري وتكتسب القابلية للتطبيق وتسهم في بناء المجتمع والحفاظ على مصالح الوطن والمواطنين، كانت النظرة الثاقبة لجلالة القائد المفدى أن تكون هذه القوانين مستمدة من خصوصية المجتمع وتتناسب مع مفرداته وتكون قوة دافعة لتقدمه وتتميز بالمرونة وعدم التعقيد لتسهيل التعاملات بين أفراد المجتمع وبين المواطنين والمؤسسات وبين الدولة والمواطن مما يحقق التقدم واستدامة التنمية. وتتميز هذه القوانين بالتطور لمواكبة التطور في المجتمع العماني باستمرار. فعلى سبيل المثال -وكدليل على التطور المستمر في هذه القوانين- كافة النصوص المشجعة على لسياحة وميسرة للاستثمار وتبتعد عن التعقيد؛ بما يُسهم في تطوير المجتمع وتنمية قدراته للمساهمة في النمو الاقتصادي.

ولاشك أنَّ الحفاظ على أية مرتكزات اجتماعية أو حضارية أو ثقافية -وفق هذه الفلسفة العمانية- قائم في أساسه على الحفاظ عليها سليمة، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يتحقق دون وجود نظام قضائي وقانوني وتشريعي يمنع البشر من التطاول عليها، وبذلك يتم الحفاظ على هذه المرتكزات والمنجزات وصونها لتسلم مكتملة.

وتنبغي الإشارة إلى النظام الأساسي للدولة الذي يُعدُّ القانون الأسمى الذي تستمد منه التشريعات الأدنى كافة النصوص والتشريعات واللوائح القادمة، والتي ينبغي أنْ لا تتعارض مع تلك النصوص أو روحها؛ لذلك فإنَّ صدور هذا النظام كفيل بالحفاظ على حقوق الوطن والمواطن والدولة ومؤسساتها بما يسهم في حفظ الأمن والاستقرار والتوافق بين مفردات الدولة العمانية بما يُحقِّق الرُّؤية الإستراتيجية العمانية في الحفاظ على مكتسباته في ظل هذا الإطار التشريعي والقانوني الشامل الذي يُشكل المحيط الأحيائي الملائم الذي تعيش فيه كافة المكتسبات والمنجزات سليمة، لتسلم في أبهى صورها من جيل إلى جيل.

ويُؤكِّد الفكرُ السامي أنَّ على المواطن أن يُؤمن بدوره ويؤديه بشكل صحيح، والخطاب موجه بشكل فردي لكل مواطن، وكل مواطن أمين وحريص على دور مكتسبات الوطن في هذا الإطار، من خلال الانتباه والحذر لنقطتين: العامل الخارجي المورِّد للأفكار الدخيلة، والعامل الداخلي المتبنِّي للأفكار الدخيلة. فهناك أخطاء فكرية محيطة بالمجتمع وتستهدف أهم فئاته وهم الشباب، لذا فإن الفكر السامي في أكثر من موقع يؤمن بأنَّ التطرف في السلوك والعمل يبدأ بالتطرف بالفكر والقول.

... إنَّ الاستقرار بيئة خصبة للتنمية التي يريدها الجميع، والتوعية -كخطة شاملة بالأخذ بأسباب التنمية- يجب أن تكون منهجًا نسير عليه حتى نحقق الأهداف المنشودة ويقع العاتق الكبير على المؤسسات التشريعية والرقابية والمؤسسات الإعلامية والتربوية أن تقوم بدورها ليس على مستوى التخطيط، بل على مستوى التخطيط المهني المحترف بجانب نشر ثقافة العمل البناء الجاد بشكل متوازِ مع ثقافة تقدير المنجزات والمحافظة على المكتسبات، فقد يؤدي أي خلل في فهم هذه الثقافة -لا قدر الله- إلى توقُّف التنمية.

إنَّ نظرة صاحب الجلالة -حفظه الله ورعاه- كما هي دائما لا تقتصر على الأجيال الحاضرة، وإنما ننظر إلى آفاق المستقبل وكيفية الاستلام والتسليم بين الأجيال وتفادي الوقوع في المحظور، وعليه فلا يمكن الحفاظ عليها إلا بتثقيف الجيل الحالي والجيل اللاحق، وهذه مهمة كبيرة على عاتق المؤسسات التربوية والاجتماعية وما في حكمها.

تعليق عبر الفيس بوك