العلاقة بين العثمانيين الأوائل والمسيحيين

أمل السعيدي

في القرن التاسع الميلادي أشار الأديب العربي الجاحظ إلى أنّ المسيحي الذي كان يكره القيام بالأعمال المختلفة كان يُفضل التحول إلى الرهبنة ليرتدي الثياب الصوفية معتقداً أنّه سوف تتم مساندته من قبل الأغنياء وأصحاب الثروات. هذا صحيح إذا ما طالعنا العلاقات التي تأسست بين رهبان أديرة جبل أثوس والبلاط العثماني، وجبل أثوس معروف بالجبل المقدس ويقع في شمال اليونان ويعتبر من أهم المناطق النُسكية، حيث يقيم هناك رهبان من مختلف الكنائس الأرثوذكسية. وفي مقال إليزابيث .أ.زخايو الذي جاء بعنوان "رهبان جبل أثوس تحت الحكم العثماني المُبكر" والذي جاء بترجمة حاتم الطاوي، تحاول الكاتبة رصد أهم الأسباب التي حققت هذه العلاقة وفقاً للوثائق الرسمية ولدراسة العلائق بين مجموعة من المعطيات من ثم تقوم بإعطاء نماذج تؤكد طبيعة هذه العلاقة وما آلت إليه .

هنالك الكثير من الامتيازات التي منحها السلاطين العثمانيون الأوائل إلى الأديرة البيزنطية ويمكننا حصر الأسباب في الآتي :لقد كانت الشخصية التي لعبت دور الوسيط بين الشعبين البيزنطي والعثماني الإمبراطور حنا السادس وهو حمو السلطان أورخان وهو ثاني سلاطين الدولة العثمانية، ربما كان لهذه العلاقة أثر في طبيعة اتجاه البلاط العثماني آنذاك. من ناحية أخرى لقد أبدى العثمانيون إعجابهم بجبل أثوس وكان الرهبان خيرين وهذا قد يكون سبباً في ذلك أيضاً. المؤكد أنّ السلاطين العثمانيين الأوائل كانوا ملتزمين بواحد من أهم مبادئ الإسلام وهو التسامح ليس تجاه المسيحيين وحدهم بل حتى تجاه اليهود وهذا وحده قد يكون سبباً بالغ الأثر في تقديم هذا الشكل من العلاقة بين الطرفين اللذين نشير لهما في هذا المقال. وواحد من الأسباب التي لا يمكن تجاهلها هو أنهم كانوا يرغبون في تقوية نفوذهم عبر العالم البيزنطي الأرثوذسكي، خصوصاً في ظل الخلاف الديني القائم بين روما والقسطنطينية أي بين الكاثوليكية والأرثوذكسية. وكانت القسطنطينية تهم المسلمين كثيراً حيث إن فتحها مرتبط بوصية للرسول صلى الله عليه وسلم. إن تآلف هذه الأسباب جميعها أنتج أشياء كثيرة ساهمت في جعل جبل أثوس محمياً من السلاطين العثمانيين. حتى إنهم أعفوا ممتلكات الأديرة من الضرائب. ولم تكن هذه العلاقة أحادية الجانب، يقدم فيها السلاطين العثمانيون هذه المبادرات فحسب، بل كانت متبادلة من الطرفين ويمكننا قراءة ذلك من خلال ما قدمه الرهبان حيث شاركوا في مهمات صعبة تمس أمن الدولة كان منها على سبيل المثال أن السلطان بايزيد الثاني أرسل جاسوساً إلى الغرب الأوربي من أجل الحصول على معلومات عن أخيه وكان هذا الجاسوس أحد الرهبان. كما وأوفد الإمبراطور البيزنطي رسولاً إلى أمير كرمان يحرضه على غزو الأقاليم العثمانية في العام ١٤٤٣ـ وكان هذا الرسول أحد الرهبان . بعد هذا كله أصبح جبل أثوس يشغل مهمات أخرى لقد أصبح ملجأ للأشخاص الذين يبحثون عن الحماية ليست الحماية بمعناها الديني فقط عندما يوفر مساحة للزهد والتعبد، لقد أصبح مكاناً لحماية الكثيرين من مشاكل على أرضنا هذه. وسنستعرض الآن بعضًا من النماذج التي تؤكد ذلك.

أولاً، القديس نيكيتاريوس الذي كان بارزاً وسط الحياة الديرية إبان فترة المد العثماني، نجا هذا القديس مع عائلته بعد أن نجحت في الاختفاء أثناء اجتياح الأتراك العثمانيين لإقليم موناستيري . بحثت الأسرة عن أفضل الطرق لضمان استمرار حياتهم، وهكذا أصبح الأب راهباً ولجأ إلى الدير، إلى أن كبر نيكيتاريوس فتوجه بعد ذلك إلى جبل أثوس حيث التحق بخدمة ديوينسيوس أياجاريس الذي كان صاحب مكانة رفيعة في القسطنطينية. وأصبح هناك رجلاً مقدساً نظراً لتميزه الشديد بالورع والتقوى. لقد تمكنت هذه الأسرة أيضاً من إنقاذ نفسها عبر الالتحاق بالدير مما يوثق مقدمة هذا المقال، وليس هذا فحسب فقد تمكنت هذه الأسرة من حماية أموالها أيضاً .

ثانياً الراهب البارز راديتش الذي كان قائدا بارزا في جيش الحاكم المطلق "الصربي"Stefan lazarevic ، ولعلنا قبل الحديث عن موقف هذا الراهب، يجب أن نشير في البداية إلى أن جبل أثوس لم يكن مكاناً للاجئن المسيحيين الفقراء فحسب بل أصبح منفى للمسيحيين من أفراد الطبقة الأرستقراطية الغنية، فقد سعى الجميع للفرار من الحروب ومن عمليات السلب والنهب التي أصبحت سمة مميزة للحياة في منطقة البلقان في القرن الخامس عشر الميلادي. حتى إن الكثيرين ممن لجأوا لجبل أثيوس لم يكونوا ممن عاشوا حياة هادئة مثل ما كان عليه مثالنا الأول القديس نيكتاريوس بل إن لهم سمعة كبيرة خارجة من المحاكم العثمانية. مثلما هو مثالنا الثاني، ترك راديتش الخدمة العسكرية بعد وفاة مرؤوسه ولجأ إلى جبل أثوس تحديداً دير كاستامونيتو الذي كان قد تعرض للحرب، لكنه رمم بعد ذلك . لقد كانت ثروة هذا الراهب مهددة من قبل حكومة صربيا، لقد تمكن من وضع نفسه بين الرعايا غير العثمانيين للسلطان العثماني آنذاك حيث إن جبل أثوس تحول ليتبع مقاطعة عثمانية، لقد تمكن من المحافظة على ثروثه ودافع عن مصالحه في صربيا في أثناء تواجده في جبل أثوس كما صنع علاقات وثيقة مع شخصيات هامة في الدولة العثمانية آنذاك. أما عن ثروة راديتش فيمكننا مطالعة وثيقة صادرة عن المحكمة العثمانية آنذاك للقاضي سيرس، حيث إن ديمتريش متهم بسلب ثروة كانت قد وضعتها أم لطفلين وديعة لدى ديمتريش. وعندما عاد الولدان بعدما كبرا لأخذ أموالهما لم يعطهما دميتريش إلا الشيء القليل مقارنة بحجم الوديعة. تجمع الكثير من المسلمين والمسيحيين حول المحكمة حتى أرغم هذا الراهب على دفع تعويض بسيط للولدين. تجدر الإشارة إلى أنّ المحاكمة كانت بين طرفين من غير المؤمنين بالنسبة للعثمانيين المسلمين فإنّ توقيعات الشهود على الحكم كانت تثبت أنّهم من الطبقات العليا في المجتمع الإسلامي في سيرس فكان ثلاثة من الشهود من أبناء الأئمة المسلمين في المدينة. وهذا إن دل على شيء فهو يدل على العلاقة الوطيدة بين المسلمين والمسيحيين في ذلك الوقت، علاقة مليئة بالتسامح والرحمة والتداخل. لقد استمر ديمتريش بالاستفادة من وجوده في جبل أثوس في مناسبات كثيرة لاحقاً عندما اعتبر نفسه واحداً من أهل الذمة التابعين للسلطان العثماني .

ثالثاً بمارية - هيلينا ابنة الحاكم الصربي الأخير Lazar عندما أتمت الثانية عشرة من عمرها تزوجت ملك البوسنة الأخير ستيفن توماسيفتش الذي أعدم لاحقاً بأمر من السلطان العثماني فانتقلت بعد ذلك إلى أماكن عديدة إلى أن استقرت في أحد الأقاليم العثمانية. وقام السلطان العثماني بتخصيص منحة سنوية لها وكانت على اتصال مع عمتيها اللتين عاشتا في الأقاليم العثمانية كذلك.وبعد موتهما لجأت هيلينا إلى المحكمة الإسلامية للمطالبة بحقها في الإرث. ورفعت بعد ذلك قضية ضد أحد الأديرة اتهاماً له بأنه سرق أموال عمتها عن طريق خادمها لكنها لم تتمكن من النجاح نظراً لأنّ السلطان كان يحمي هذا الدير وغيره .

من خلال هذا كله يُمكننا ملاحظة هذا التعاطف البالغ الأثر من العثمانيين الأوائل وهم مسلمون مع المسيحيين. ليس هذا فحسب بل يمكننا قراءة استغلال الرهبان والأديرة لهذا التعاطف الكبير ، لقد لجأ الكثيرون إلى الأقاليم العثمانية لحماية أنفسهم وأموالهم.

amalalsaeedi11312@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك