شيزوفرينيا اجتماعية

فيصل الحضرمي

يفضفض صاحبي ويفتح لي صدره سامحاً لشجونه بالخروج. يُخبرني عمّا يتمنى وجوده في بلادنا وعمّا يخشى بقاءه فيها. يناقشني في مواضيع تمس سلوكيات المجتمع وأخرى تخص أخلاقياته. يصارحني حانقاً: "أبغض شيء في مجتمعنا أنّه مزدوج الشخصية".

يشجب ما ينعته برجعية التفكير ومحدودية "أفق التطلعات"، ويُشدد على ضرورة الانفتاح والتغيير لأجل "الترقي". لأجل هذا يصر على احترام الآخر وتثمين الحوار معه، ويؤمن "بتلاقح الحضارات" ويرفض القول بتصادمها. صاحبي يجلس بجانبي على الرمل قبالة البحر، ويقترح الآن التحرك إلى شقته حيث يسكن، تاركاً أوراق الفطائر وأكياس النايلون وقنينة الماء البلاستيكية على الشاطئ: "هيا، لنذهب".

ينطلق بسيارته مسترسلاً في الحديث عن احترام الآخر. يُحدثني عن سخطه على ما يُسميه بالتفاخر القبلي والتفرقة العنصرية. يعود لارتشاف جرعة من زجاجة الكولا التي بيده. يعطي إشارة بأنوار سيارته الكاملة مصراً على السيارة التي أمامه بالتنحي إلى اليمين. يكرر إلحاحه مقترباً منها بدرجة مخيفة. بعد مدة يكتشف أن السائق هندي. يتعجب ساخراً: "لا أعرف لماذا يعطون"أولاد الهندية" رخص قيادة!".

يُؤكد لي أنّ إهمال أنظمة السير وعدم الالتزام بالقواعد المرورية وسوء تصميم الشوارع هي المسببات الرئيسية للحوادث. نقترب من سيارة شرطة. يسارع إلى ارتداء حزام الأمان ملقياً نظرة عليّ: "جيد أنك تلبس الحزام". يمتدح رجال الشرطة كثيراً ويصر على أنّهم "الأفضل في الخليج". نهبط إلى مطرح من الجسر. يأتي على آخر قطرة من الكولا ويرمي الزجاجة من النافذة. نقترب من شقته. يشتكي من "وساخة" المنطقة وهو يُريني مياه المجاري المتسربة إلى الشارع من الأزقة. يشير إلى حاوية مخلفات كبيرة محفوفة بالقاذورات والقطط، ويخبرني أنه لو كان مخولاً بتقييم أداء البلديات لما منحها أكثر من صفر على عشرة!

نصل إلى شقته، يستأذنني بالذهاب إلى غرفته في حين أبقى في الصالة. صفحات الجرائد مبعثرة على الأريكة. أعقاب السجائر على المنضدة وعلى البلاط. إزار ومنشفة ملقيان في الزاوية. علب مشروبات غازية متناثرة حول سلة المهملات. يلفت نظري وجود جهاز التحكم الخاص بالتلفاز فوق الطباخة. أتوجه إلى دورة المياه لتحرير رهينتي. أكتشف أنّ صاحبي لا يأبه بإنزال الماء وتنظيف المرحاض بعد استعماله. يلفني التقزز وينهار صبري. أقرر مغادرة الشقة في صمت.

هناك قصيدة جميلة لنزار قباني تحمل عنوان "شيزوفرينيا" يقول فيها:

"بيني وبينك أسئلة لا أريدها أن تجاب

وتناقضات جميلة ليس من مصلحة الحب أن تنتهي

وخصومات طفولية ليس من مصلحة الشعر أن تحسم

وعادات صغيرة تتسلق على رفوف الكتب وورق الجدران

وتترسب مع البن في فناجين القهوة"

وبعكس تناقضات العاشقيْن التي وجدها نزار جميلة وضرورية للحب والقصيدة، فإنّ تناقضات صاحبي على النقيض تماماً، لأنها تفضح قدراً من العجرفة والادعاء الكاذب، بل وشيئاً من العدوانية تجاه بعض الفئات "غير المرضي عنها" لسبب أو لآخر.

الشيزوفرينيا (الفصام) هو اضطراب عقلي خطير سببه اختلال في الوظائف الذهنية، ومن أعراضه الهلوسة وتوهم سماع أصوات وعدم تمييز الواقع وفقدان الحافز. والحال أن "ازدواج الشخصية" ليس من أعراض الفصام كما هو شائع وكما ورد في قصيدة نزار أيضاً حيث يستخدم المصطلح خطأً للإشارة إلى الأشخاص الذين يبدون وكأن لديهم شخصيتين أو أكثر بسبب تناقضهم غير المفهوم. ومع ذلك، وحتى أكون مفهوماً، تعمدت استخدام المصطلح بالمعنى الرائج، وليس بالمعنى العلمي، أي بمعنى ازدواج الشخصية وتناقض السلوكيات.

والموقف الذي أتيت على ذكره قبل قليل واحد من عشرات المواقف المشابهة التي تحدث لكل منّا بشكل معتاد بحيث إننا قد لا ننتبه لما فيها من ازدواجية مزعجة. كما أننا كثيراً ما نكون نحن أنفسنا ضحايا لهذا التضاد التام بين ما نقوله ونصر على تكراره باقتناع ظاهر، وبين ما نمارسه على أرض الواقع من تصرفات تعكس عدم تمثلنا للأفكار التي نعتقد أننا نعتقدها، وللمقولات التي نظن أننا نقولها عن اعتقاد صادق. ولعل هذا التناقض بين النظر والممارسة سببه وجود تناقض على مستوى الأفكار نفسها، بحيث تتواجد لدى ذات الشخص أفكار متناقضة من المفارق أن تتواجد في عقل واحد.

تحضرني الآن قصة وقعت للكاتب الجزائري مالك حداد مع ابنته التي عاتبته بعد أن رمى عقب سيجارته على الأرض في جزائر ما بعد الاستقلال التي كان من الداعين البارزين لعصرنتها وتمدينها أسوة بأوروبا، مذكرة إياه بأنّ البناء الذي ينادي به يبدأ من الممارسات الشخصية نفسها. ولعله من البديهي القول بأن أسوء التناقضات هي تلك التي يقع فيها المؤثرون من الناس مثل مشاهير الأدب والفن والرياضة والعلوم والسياسة والدين وكل من يمكن أن يكون محل اقتداء من الآخرين، لأنهم بتناقضاتهم يقوضون أهمية ما ينادون به، بل وقد يُفقِدون المنابر التي يمثلونها مصداقيتها عند الذين يتعاملون مع الأشياء باعتبار ما يقوله ويفعله ممثلوها، لا باعتبار ما هي عليه في ذاتها.

تعليق عبر الفيس بوك