اقتصادان: حقيقي وآخر ورقي؟

د.سعـد بساطـة

تتبارى الدول لتأميـن المزيد من الرفاهية لشعـوبها؛ وهذا لا يهبط من السماء بل نتاج تخطيط وجهـد وعـرق ٍ ومشاريع تطوير دائمة..

وهذه كلها ندعـوها الاقتصاد الكلي؛ وفي الحالة العـامة له سـِمة محددة :فإما أن يعـتمد عـلى السياحة أو الزراعـة أو الصناعات الزراعـية أو المناجم (فوسفات/حديد إلخ..) أو النفط والصناعـات النفطية؛ أو عـلى مزيج من الذي ذكرناه كله؛ وهو الاقتصاد الحقيقي..

حـدّد أبو الاقتصاد "آدم سميث" عـناصر الاقتصاد بأنها (الأرض- رأس المال والجهد البشري)... طبعـًا الجهد البشري أصبح آلياً ثم إلكترونياً؛ والآن أضحت الروبوتات تقوم بالمهام الصعـبة والدقيقة والخطرة في مصانع السيارات مثلاً.. آدم سميث لم يستطع التحرر تماماً من فكرة عدم إنتاجية بعض صور النشاط الإنساني، بل ظل يقسـّم الأعمال إلى أعمال مُنتجة وأخرى غير منتجة. الأعمال المُنتجة هي الأعمال التي تزيد من قيمة المواد التي تـركـّز عليها، أما الأعمال غير المنتجة فهي الأعمال التي قد تكون نافعة ولكنها لا تزيد من تلك القيمة؛ فهذه الأعمال - بحسب قوله - :" تستهلك في نفس لحظة أدائها مثل عمل الخادم ويلحق به أعمالاً أساسية مثل عمل سياسيّ الدولة والقـس وراقص الأوبرا ...إلخ، فالخدمات عنده لا تدخل في باب الأعمال المنتجة.

عـن الأرض: فهي تمثل مصادر الطبيعة (مناجم/نفط/ زراعـة/ لبناء المساكن عـليها/ لتشييد مصنع إلخ..)؛ وبالتالي انتقلنا من اقتصاد يعـتمد عـلى المنتجات الزراعـية (بالرغم مما تعـنيه من أمن غـذائي؛ وكفاية قوت أفواه المواطنين)إلى الشروع في صنـاعـات زراعـية للاستهلاك والتصدير..ومن ثمّالانتقال لصناعـات تحويلية!

أما الاقتصاد الورقي:فبالتعريف هو الأسواق؛ ومراكز التبادل؛ والأنشطة الاقتصادية المرتبطة بهما؛المتعـاملة بالورقيات التي تُعـبـّر عـن الممتلكات الملموسة وليست الممتلكات بحد ذاتها. غالبية أنشطة الاقتصاد الورقي تـُمارس ضمن أسواق المال. وهذا الاقتصاد يعـتمد عـلى الملكية القانونية لتلك البضائع أو المصادر. تم استخدام التعـبير لكون تلك الملكيات لطالما كانت عـبر التاريخ موثقة بورقيـات (شيك/سند/ إشهار/ ملكية إلخ..)..والتي لاتستطيع - بحد ذاتها- أن تطعـمك أو تكسوك أو تلبيّ حاجاتك ورغـباتك؛ وبعـد التقدم التقني: تحوّلت نسبة كبيرة من هذه الورقيات للشكل الإلكتروني. والاقتصاد الورقي لطالما يُشير للأسواق التي يتم بها المتاجرة بالأصول عـلى الورق؛ دونما حاجة للمس تلك الممتلكات الفيزيائية، وهنالك تفسير مكمـّل للاقتصاد الورقي: الاعـتـماد عـلى مهن خدمية لاتنتج سلعـاً ملموسة؛ وبالتالي لاتضيف الكثير من القيمة للاقتصاد. في حالة الأسواق فأغـلب المتاجرة والأرباح تتم عـلى الورق (سمسرة؛ من استيراد لتجارة جملة ونصف جملة،إلخ).

وهل كانت تلك التعـاريف دقيقة؟ بالطبع لا،،فهي ديناميكية؛ تتغـيـّر من زمن لآخر؛ فعـلم الاقتصاد هو: (( حيازة عـالمي اقتصاد لجائزة "نوبل" في عـامين متتاليين على التوالي؛ نتيجة نظريتين،متناقضتين تماماً))!

مؤسسات الاقتصاد الحقيقي (الملموس) هي المزارع والمصانع،، أما تلك التي تنتمي للاقتصاد الورقي فهي بنوك؛ شركات تأمين؛ شركات إعـادة التأمين؛ البورصة والسندات إلخ، وهو اقتصاد خدمي بمجمله؛ يعـتمد عـلى تقديم جملة خدمات متكاملة في المجالات التي ذكرناها؛ ويتأثر بسرعـة بتغـيـّرات العـالم من حوله : تلك التغـيـّرات التي يمكن أن تكون طفيفة وبعـيدة ولكنها ذات تأثيرات شديدة؛ وهذا ما يـُدعى تأثير جناح الفراشة: Butterfly effect؛ ومفادها أنّ تحريك الفراشة لجناحيها في بلد ٍ ما يمكن أن يحدث تأثيرات هائلة - زلازل - في قارة أخرى! .

وهذا ما حصل بعـد أزمة العـقار الأمريكي؛ وأثـّر عـلى بلدان عـديدة من العـالم (محقـّقة ً المقولة: عندما تصاب أمريكا بالزكام؛ يعـطس العـالم)؛ ومحدثة كوارث في العالم كله (أمثلة من دول الجوار: الإمارات والبحريـن) في أسعـار العـقارات والسياحة والاستثمار والبنوك وعـالم الصيرفة والتأمين.

حادثة أخرى: إفلاس النمور الآسيوية (سنغافورة- تايوان- هونغ كونغ- كوريا ج)بعـد صعـودها الصاروخي باستخدام الاقتصاد الحقيقي (صناعة وتصدير لسلع ذات قيمة مضافة عـالية) بين ليلة وضحاها أضحت مفلسة بواسطة ألاعـيب العملة والأسهم في البورصات العـالمية، وصار اسمها "النمور الورقيـة"...!

إليكم هذه الحادثة الطريفة التي تصف ببساطة - ودقــة- كيف يعمل الاقتصاد الورقي!

دخل سائح أمريكي أحد الفنادق وطلب أن يأخذ غـرفة فيه.. أعطى موظف الاستقبال "مئة دولار" عـربوناً ريثما يصعد ويرى الغرفة بنفسه.. موظف الاستقبال دفع المئة دولار لبقال اشترى منه طعاماً بالدين.. البقال دفع المئة دولار لتاجر خضروات.. تاجر الخضروات دفعها للمزارع.. المزارع دفعها لشركة الأسمدة.. الشركة صرفتها جزءاً من راتب لمُدير فاسد.. المُدير الفاسد دفعها لعاهرة أشد فساداً.. العاهرة أخذت المئة دولار وأعادتها للفندق نظير إقامتها في الليلة السابقة.. وحين خرجت من الفندق نزل السائح الأمريكي وقال غاضباً: تعطل بي مصعدكم ولن أسكن أبداً في هذا الفندق.. استعاد المئة دولار وخرج بلا رجعة!! ...والآن؛ هل بالإمكان إخباري أين ذهبت المئة دولار؟ هل لاحظتم كيف تمكنت ورقة نقدية (واحدة) من تأدية خدمات ومنافع كثيرة؟.

.. ولكن ماذا لو كسر أحدهم دائرة التداول في المثالين السابقين؟

... ماذا لو سرق موظف الفندق المئة دولار وهرب؟

... ماذا لو خرج "المواطن الثالث" من الحلقة وحوّل المئة دولار للخارج!!

في هذه الحالة ستضيع "المئة دولار" وتنزف البلد ويضطر المواطنون لإخراج "مئة دولار جديدة"!!

.. غير أنّ المشكلة الأزلية تتكرر بلا وعي واهتمام من المواطن الثالث.. ففي حين نضطر نحن إلى إخراج مئة دولار جديدة يسارع هو إلى تهريبها مجدداً إلى "الخارج" ويحرم البقية من تداول ما أصبح مجموعه (مئتي دولار) ... تتحول بمرور السنين إلى بليونين وثلاثة وأربعة..!... هذا في الحقيقة هو ما يحدث على مستوى البلاد بحيث أصبح المال (وليس النفط والتمور.. إلخ) هو أعظم صادراتنا.. ففي كل مجتمع يتداول الناس المنافع، وتتراكم في أيديهم الأموال عاماً بعد عام بفضل انغلاق الدائرة وتوالد ثروات إضافية.. ولكن إن كان هناك نزيف مالي واقتصادي (وأشخاص كـُـثـُر يساهمون في تحويل الأموال إلى الباكستان والهند وبنغلاديش) ستنقطع الدائرة مراراً وتكراراً حتى يعجز معظم الأفراد عن إخراج (مئة جديدة) فتضعف القدرة الشرائية وتكسد حركة التجارة!

وقد تنبهت دول كثيرة في الماضي إلى خطورة النزيف المالي فوضعت قيوداً على التحويلات المالية أو نقلها بصفة شخصية.. وفي المقابل تُعد سلطنة عـمان من أكثر الدول انفتاحاً وتحويلاً للأموال (بل ومن أوائل الدول الخليجية والعـربية والإقليمية والتي اعتمدت نظام حرية التحويل)..

في القديم كان تبادل المنافع يتم بالمقايضة: خبز ولحم مقابل دجاجات وبيض؛ ومحراث مقابل عجل؛ وخضروات وفواكه مقابل قديد مملح؛ وملابس مقابل محفظة جلديـة،،إلخ.
لدى تعـقـّد ظروف الحياة - لاسيما الاقتصادية منها- تم الاعـتماد عـلى النقد: ذهبي وفضي؛ ثم تحول لورقي مسنود بدعم في المصرف المركزي؛ والآن 10% من مال العـالم متداول بينما 90% منه إلكتروني؛ لاتلمسه اليد!

وللحقيقة: فليس كل الاقتصاد الورقي - بالرغـم من السلبيات- شيطاناً؛ ولا كل الاقتصاد الحقيقي - بالرغـم من إيجابياته- ملاكاً.. فهما متكاملان؛ واحدهما يحتاج للآخر..ولكل مواصفاته حميدها وخبيثها ..ولكن الاعـتماد بشكل ٍ كلي عـلى واحد دون الآخر هو خطأ مهني لايـغـتفر؛ ويوقعـنا في حبائل "المرض الهولندي"...وماهــــو؟؟ ((هذا مقامً له مقالٌ آخــر))..!

المشكلة عـويصة؛ والحل بسيط: توازن حرج بين الاقتصادين؛ وبالنسبة للاقتصاد الحقيقي الواجب تنويع مصادره؛ فحتى الفلاح البسيط لايضع البيض كلـه في سلة ٍ واحدة،!وإلا أصبحنا من "جمهوريـات الموز": وهو تعبير انتشر في بدايات القرن الماضي، وكان المقصود منه الدول وحيدة المنتـَج الزراعـي، والتي تقوم بتصديره مقابل دريهمات، وتتسول لاستيراد مايلزمها من تقانات وهي غـارقة لأذنيها في الفساد، ولايوجد بها نظام مؤسسات بل لاتوجد مؤسسات من أصله. أول من استعـمله الكاتب الأمريكي "أو. هـنري" عـام 1904، من وحي إقامته في هندوراس.

في الختام؛ كفى جعـجعـة؛ وكما قال جبران قبل سنوات طويلة ((ويلُ لأمة لا تلبس مما تنسج؛ ولا تأكل مما تزرع))!

SADBSATA@GMAIL.COM

تعليق عبر الفيس بوك