في مَا يشبه الصحو

فؤاد أبو حجلة

فتحت الممرضة المصابة بالسمنة المبكرة نافذة الغرفة 134؛ فتسرب الهواء الحار ليلفح وجهي المتعرق، ويشيع التململ بين الجالسين على المقاعد الجلدية والمتحلقين حول السرير لاستجواب الطبيب المناوب عن موعد موتي.

كنت أصحو من الغيبوبة ببطء وتثاقل، وقد أيقظت هبات الهواء الساخن خلايا كانت نائمة في ذاكرتي المؤرقة.

لا فرق بين سرير الغرفة 134 والسرير رقم 13 في المستشفى العسكري. صورة منسوخة بدقة، غير أنها الآن بالألوان.

الطبيب هو ضابط التحقيق، والممرضة كانت فيما مضى شاويشا سمينا. الزائرون يلحون عليَّ: "أبلغ الدكتور عما يؤلمك"، قبل ثلاثين عاما كانوا يلحون "أبلغ البيك بما تعرفه".

القيد الحديدي الذي كان في الرسغ وفي عمود السرير صار أنبوبا بلاستيكيا مغروزا بإبرة في ظهر اليد وأخرى في كيس الدواء.

الذاكرة غائمة، والعينان زائغتان، والنبض مرصود على شاشة إنذار مبكر يتابعها الموجودون في الغرفة وكأنهم يرصدون حركة الأسهم في البورصة.

أواصل الصحو، ويصير المشهد أوضح.

باقات ورد وعلب حلوى.. هل يحتفلون بموتي؟

يدخل الغرفة زائر مختلف. لا يرتدي بدلة وربطة عنق، ولم يحلق ذقنه منذ أيام، متعرق الوجه ربما من حرارة الطقس وزحمة المواصلات.

كان الشاب مرتبكا وهو يلقي السلام على الحاضرين في الغرفة 134. قليلون ردوا عليه السلام، وآخرون رمقوه بنظرات غريبة.

كانوا يتساءلون عمن يكون، وما الذي جاء بهذا الرث إلى مستشفى تلمع فيه النجوم الخمس؟

إنه صاحبي أيها الأوغاد. أشرت إليه بعيني أن يقترب. وتلعثم وهو يقول: حمد الله ع السلامة. رددت عليه بدمعة.

أمرته الممرضة التي تعاني من السمنة المبكرة أن يبتعد قليلا، فنظر إلي معتذرا وغادر الغرفة. صار المكان مرة أخرى خاليا من "الغرباء" ومن الكرامة.

تنشط الذاكرة أكثر، وتستعيد رائحة التبغ، وأنا أريد سيجارة، لكن التدخين ممنوع هنا.. وهناك، في المستشفى وفي الجريدة.. كلاهما مكتظ بالمرضى.

التدخين محارب في بلادنا وكذلك المظاهرات والكلام عن فلسطين. فلسطين تضر بالصحة وقد تؤدي إلى الموت، لذا تنصح السلطات بوقف التعاطي معها وتعالج الأجهزة الأمنية المدمنين عليها.

يدخل الطبيب الذي يرتدي معطفا أبيض ويعلق في رقبته نظارة للقراءة. يسأل الممرضة المصابة بالسمنة المبكرة عن حالتي فتناوله حاملة التقارير الطبية. يقلب أوراقها وينظر إليَّ نظرة فاحصة قبل أن يفتي: الحالة في تحسن. الخطر زال، لكن الأستاذ يحتاج إلى العناية والمراقبة الدائمة في المستشفى. سيحتاج بضعة أيام قبل أن يكون مؤهلا للخروج.

يتبادل حديثا تافها مع أحد الجالسين على المقعد الجلدي الفاخر.. وينصرف.

من قال لك أيها الغبي إن "الحالة" الراقدة على هذا السرير الكئيب معنية بالتحسن؟ ومن أوحى إليك بأنني أريد الخروج من هنا مع هؤلاء؟

أريد سيجارة وبعض الهواء الذي لم تلوثه العطور الفرنسية. لكن الهواء النقي ممنوع هنا.

وأريد أن أراها الآن، ولو من بعيد، لكنها ممنوعة من الزيارة، وتخضع للرقابة الأمنية من زوج مسكون بالهواجس المرضية.. هو أيضا لا يدخن، ولم يتورط في حب فلسطين.

أذكر أنني جئت إلى هنا محشورا في بدلة وربطة عنق، وأعرف أنني لن أخرج من هنا في كفن.. لأنني لم أكمل عقوبتي بعد. لكنني سأهرب.

سأهرب من هنا ومن هؤلاء ومن البدلة وربطة العنق، وسأبحث عني لأعود إليَّ، أنا الرصيفي المحترف، أجوب الشوارع والأزقة، وأنام في بيوت لا أرقام عليها لكن لها مخارج كثيرة.

يا طبيب النجوم الخمس أفرج عني، فأنا أريد الركض بشراييني المجهدة.. بعيدا عن هنا.. بعيدا جدا عن هؤلاء.

لا أحد يرد.. وأظل محبوسا في القفص العربي.

تعليق عبر الفيس بوك