الرؤية- أحمد السلماني
تايوان أو جمهورية الصين، الجزيرة التي تقبع في بحر الصين الجنوبي، احتفلت قبل أيام بالعيد الـ104 في تاريخها الحديث في مهرجان كرنفالي عسكري وطلابي مهيب وأنيق ظهرت من خلاله كواحدة من البلدان التي تتمتع باستقرار وتنمية وبوزن اقتصادي وإرث حضاري يمتد لآلاف السنين ويبدو أنّها في الطريق لأنّ تصبح واحدة من البلدان ذات التأثير الاقتصادي والتجاري في المنطقة وفي العالم.
بلد ساحر بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، حيث لم يغفل الإنسان التايواني وهو في خضم تكوين وتشييد بلده طبيعة البلاد الجغرافية بل ونجد أنّ الحداثة والتطوير والبنى التحتية بها لم تطغ على الجزيرة الخضراء بغاباتها وأشجارها وجبالها وأنهار الماء الصافية التي تجري بها في تمازج قلّ نظيره ويحُسب لتايوان حكومة وشعباً القدرة العالية في التعاطي مع هكذا علاقة بحيث لا تمس الحداثة بالطبيعة الساحرة.
الزائر لتايوان وللوهلة الأولى تتملكه الدهشة بلا ريب، من بداية مشوار رحلته حيث مطار الجزيرة الكبيرة والذي يعد واحداً من مفاخر البنية الأساسية بتايوان من حيث ضخامته والإمكانيات والخدمات اللوجستية التي يُقدمها للمسافر ولشركات الطيران لتبدأ بعد ذلك قصة الانبهار بعد أن تتملك الدهشة الزائر، إذ كيف لهكذا عمران هائل من طرق وجسور وسكك حديدية وأنفاق ومبانٍ وكل مظاهر الحداثة التي ينشدها العالم لم تطغ على جمالها الطبيعي ولونها الأخضر الذي يكاد يطغى على كل مفاصل وطرق الجزيرة حيث الأشجار الكبيرة تُعانق المباني الشاهقة على علوها بل وتكاد لا ترى المبنى من كثافة الأشجار والغطاء النباتي عليه.
وقبل أن تطأ قدماك أرض تايوان فإنّ أول ما يُقابلك هو الإنسان التايواني أو موظف المطار الذي فيما يبدو إن كان لا يعرف كيف يبتسم فعليه مغادرة الوظيفة، حيث يُبادرك الجميع بالابتسام والبِشر ويتهافتون على خدمتك وإن كان هناك من يستقبلك فهذا يكاد لا يملك السيطرة على نفسه من الفرح ويُبادر بالتحية الصينية المعروفة ويشعرك بأنّك لم تغادر بلادك ويبشرك برحلة ممتعة وسعيدة بلا شك.
جزيرة تايوان
تايوان، المعروفة رسميًا باسم جمهورية الصين وباسم تايبييه الصينية في اللجنة الأولمبية الدولية ومنظمة التجارة العالمية، هي دولة واقعة في شرق آسيا تشكل جزيرة تايوان 99% من أراضيها، كانت قبل عام 1949 جزءًا لا يتجزأ من دولة الصين الكبرى، واعتبرت عضوًا مؤسساً لهيئة الأمم المتحدة وأحد الأعضاء الخمس الدائمين في مجلس الأمن حتى تمّ تغيير الكيان السياسي وصاحب حق العضوية العام 1971 لصالح جمهورية الصين الشعبية بناءً على القرار رقم 2758 والصادر عن الجمعية العامةللأمم المتحدة باعتبار جمهورية الصين الشعبية هي الممثل الشرعي الوحيد للكيان السياسي السابق والذي عرف بجمهورية الصين الموحدة قبل نشوب الحرب الأهلية عام 1949 والتي ترتب عليها سيطرة الشيوعيين على الصين المعروفة الآن باسم جمهورية الصين الشعبية في حين سيطر القوميون على جزيرة تايوان.
وعند نشأتها عام 1912 سيطرت جمهورية الصين على معظم أجزاء البر الصيني ومنغوليا. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية واستسلام اليابان قامت الصين بضم مجموعة جزر تايوان وبسكادورز إلى حكمها. ومع هزيمة الحزب الوطني الصيني المعروف باسم الكوميتانج في الحرب الأهلية أمام قوات الحزب الشيوعي الصيني الجديد انتقلت الحكومة إلى تايوان حيث أسست مدينة تايبيه كعاصمة مؤقتة للبلاد، في حين أسس أعضاء الحزب الشيوعي جمهورية الصين الشعبية في البر الصيني حيث موقعها الجغرافي المعروف الآن. في حين أصبحت جزر تايوان والبسكادورز وملحقاتهما وجزر كينمن وماتسو وبعض الجزر الصغرى الأخرى امتداداً لجمهورية الصين تايبيه والتي حصلت على اعتراف العديد من الدول الغربية والولايات المُتحدة بها كوريث شرعي لجمهورية الصين مع بدايات الحرب الباردة.
التحول الديمقراطي
وتأسست جمهورية الصين عام 1911، لترث أراضي سلالة تشينغ وتقضي على أكثر من ألفي عام من الحكم الإمبراطوري للبلاد. والصين هي أقدم دول شرق آسيا الباقية حتى الآن، وقد مرّت الأراضي الصينية بفترات متعاقبة من حكم أباطرة الحرب والغزو الياباني للبلاد خلال الحرب العالمية الثانية وصولاً إلى الحرب الأهلية بين الكوميتانج والشيوعيين، عندما انتقلت حكومة جمهورية الصين إلى جزيرة تايوان، التي شهدت ازدهاراً صناعياً ونمواً اقتصادياً وتحولاً قوياً نحو الديمقراطية منذ ذلك الحين.
وبداية من عام 1928 كانت الجمهورية الصينية جمهورية أحادية الحزب تحت حكم الكومياتنج (الحزب الوطني الصيني). وفي الفترة الممتدة بين عامي 1950 و 1960 اتخذ الكوميتانج العديد من القرارات التي كان من شأنها تخفيف حدة التوتر بالبلاد حيث قاموا بإصدار قرارات بإعادة هيكلة الأجهزة المختلفة للدولة وقرار الإصلاح الزراعي وتحديد الملكية الفردية للأراضي. عقب هذه القرارات فترة من الازدهار والنمو الاقتصادي المتسارع أصبحت فيها جمهورية الصين واحدة من النمور الآسيوية الأربعة بالرغم من التهديد المتنامي بالحرب وعدم الشعور بالطمأنينة والخطر القائم من قبل جمهورية الصين الشعبية. وفي الفترة الممتدة بين عاميّ 1980 و 1990 تحولت الدولة سلمياً نحو الديمقراطية وتم إجراء أول انتخابات رئاسية بالبلاد عام 1996. وشكلت مذكرة التفاهم مع الصين الشعبية في العام 1992 بالمحافظة على الوضع السياسي الحالي منطلقًا واسعًا وأرضية صلبة لأن تنطلق الصين تايبيه نحو التنافسية العالمية والاتجاه المطلق نحو التنمية المستدامة والبروز بين مصاف الدول المتقدمة بفضل الحزم الاقتصادية التي جعلت من اقتصاد البلاد يقوم على أسس صلبة وحضور دولي لافت، وفي الانتخابات الرئاسية عام 2000 فاز تشن شوي بيان برئاسة البلاد وكان أول رئيس يحكم البلاد من خارج الحزب الوطني الصيني (الكوميتانج) منذ عام 1949. ولكن الكوميتانج عادوا للفوز في الانتخابات الرئاسية عام 2008، كما عززوا موقعهم بالانتخابات التشريعية بحصولهم على عدد أكبر من المقاعد بمجلس اليوان التشريعي.
وللعلم يعتبر الجنرال شيانغ كاي شيك الشخصية الأبرز في التحول الكبير فيما سُمي بالمعجزة التايوانية بعد أن حافظ الرجل على مبادئ حكم الكوميتانج في الجزيرة حيث ترى صورته وتماثيل عدة في كل مكان بالجزيرة بما في ذلك عملاتها الورقية والمعدنية كواحدة من الشخصيات التي أثرت على الصين (تايبيه) إلى أن خلفه ابنه لتتجه جمهورية الصين تدريجيًا نحو الديمقراطية خلال العقد الثامن من القرن العشرين حيث سمح الرئيس تشيانغ تشينغ كيو ابن الرئيس الراحل تشيانغ كاي تشك بإنشاء أحزاب جديدة وتبعه في ذلك الرئيس لي تينغ هوي مما ساعد على نشأة أول أحزاب المعارضة وهو الحزب الديمقراطي التقدمي. وفي عام 1987 تم رفع العمل بالأحكام العسكرية تبعه بعد ذلك قانون برفع الحظر عن إنشاء الصحف. وفي إبريل من عام 1993 تم توقيع اتفاقية للتعاون الاقتصادي مع جمهورية الصين الشعبية حيث ارتضى الطرفان أن تستمر العلاقة بينهما على هذا الإطار دون أن يمس كل منهما بالطرف الآخر تفادياً لأية قلاقل سياسية قد تهوي باقتصاد البلدين.
الاقتصادالتايواني
من العام 1952 وحتى العام 2013، حققت تايوان متوسطاًلمعدل النمو الاقتصادي السنوي يبلغ 7.3 في المئة، وبالتالي تعدواحدة من أسرع مسارات النمو في أيّ بلد بعد الحرب العالمية الثانية. بالتوجه نحو إعادة الإعمار،وتبنت الحكومة سياسة "تعزيز الزراعة لتعزيز الصناعة واستخدام الصناعة لتطوير الزراعة،" بتنفيذ حزم الإصلاح الزراعي لدعم الإنتاج وتعزيز الصناعات الخفيفة كثيفة العمالة لإرساء أساس للتنمية الصناعية. وقد ساعدت هذه الاستراتيجيات في التحفيز السريع لإقلاع اقتصاد تايوان نحو النمو والتطور، مع معدل نمو اقتصادي بلغ متوسطه 8.4 في المئة سنوياً خلال هذه الفترة. العام1960م شهدت البلاد إقامة أسس متينة للتنمية الصناعية بالفعل، تحول تركيز الحكومة إلى تطوير الصناعات التصديرية، وفي عام 1966 كانت الإنطلاقة الأولى لأول صادراتها الصناعية.
وفي ذلك الوقت تبنت تايوان أسلوب المنطقة المعالجة والصناعات التحويلية، وانتهاج سياسة التوسع في الصادرات كوسيلة لتحفيز النمو الاقتصادي. خلال هذه الفترة، بلغ متوسط معدل النمو الاقتصادي السنوي 9.0 في المئة.
وفي العام 1970، كان لتأثير أزمات النفط أثر كبير في تقليص النمو الاقتصادي التايواني ليهبط إلى معدلات قياسية وصلت بين عامي 1974 و1979 حتى 1.86 في المئة، ومع ذلك سخرت الحكومة الطاقات الكامنة في الشعب التايواني وحبه للعمل والابتكاروكافة مساقات الاقتصاد في تطوير الصناعات الثقيلة والكيماوية وتوسيع الاستثمار في البنية التحتية. وقد مكنت هذه الجهود الاقتصاد من الحفاظ على معدل قوي من التوسع، مع معدل نمو اقتصادي بلغ متوسطه 10.1 في المئة في قفزة كبيرة له.
في العام 1980، اتخذت الحكومة خطوات فعّالة لتخفيف الضوابط والحماية في الاقتصاد، وتنفيذ سياسات لتحرير المال والتجارة وخصخصة المؤسسات. ومع إنشاء أول منطقة صناعية على أساس علمي في عام 1980،دخلت الصناعة اتجاه التطور التدريجي نحو العلوم والتكنولوجياوخلال هذه الفترة، نما اقتصاد تايوان 7.7 في المئة سنويًا،كما تقدم اقتصاد تايوان بشكل مُطرد في مرحلة ناضجة من التنمية، ليصبح نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي أعلى منه في الولايات المُتحدة بمستوى 10.000 دولار أمريكي في عام 1992.
ولتلبية توقعات النّاس وتحسين نوعية الحياة، وضعت الحكومة برنامجاًلتنشيط الاستثمار في النقل الجماعي، الطرق السريعة دون إغفال البيئة وحمايتها في تحدٍ من نوع مختلف واجهته السياسة العامة للجزيرة، وغير ذلك من مشاريع البناء العامة، في حين تسعى لتعزيز الدستور الأساسي للاقتصاد. خلال هذه الفترة، على الرغم من تأثير الأزمة المالية الآسيوية، فإنّ اقتصاد تايوان استمر في نموه بنسبة معقولة وصلت 6.3 في المئة سنويًا.
وعلى الرغم من هجمات 11 سبتمبر بالولايات المتحدة في عام 2001 ووباء السارس في عام 2003، والأزمة المالية العالمية في عام 2008، إلا أن الاقتصاد التايواني حافظ على معدلات نمو بلغت3.4 في المئة خلال هذه الفترة.
وتعافى اقتصاد تايوان بسرعة في مرحلة ما بعد معدل نمو 10.76 في المئة في عام 2010. ومع ذلك، في العامين التاليين، كذلك وعلى الرغم من التوترات السياسية العالمية وانتشار أزمة الديون في منطقة اليورو وارتباطها بأزمة ديون الولايات المتحدة، وتباطؤ النمو في الدول الناشئة إلا أن الاقتصاد التايواني حافظ ولو بنسبة قليلة على نمو مقتضب بنسبة 4.19 في المئة في عام 2011 وبنسبة 1.48 في المئة في عام 2012؛ في عام 2013 أظهر الاقتصاد انتعاشًا معتدلاً، مع معدل النمو الاقتصادي يصل إلى 2.09 في المئة.
وفي المجمل يعتمد الاقتصاد التايواني على بنية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والتي تشكل النسبة الأكبر من قاعدة الهرم الاقتصادي في حين تمثل التكتلات الاقتصادية والشركات الكبرى النسبة الأقل وإذا ماقارنّا ذلك بالوضع لدينا نجد أنّ الهرم مقلوب.
وبالتالي فإنّ الأرقام السابقة تؤكد على متانة الاقتصاد التايواني وقدرته العجيبة على تجاوز الأزمات أياً كان نوعها فضلاً عن أنّ المناخ العام لتايوان يجعل منها بيئة جاذبة ومحفزة للاستثمار في تفرد عالمي فريد من نوعه.
النظام التعليمي
وأثبت النظام التعليمي المتبع حالياً في تايوان، نجاحه عالميًا نتيجة لحصول الطلاب التايوانيين على المراكز الأولى بالنسبة لامتحانات الرياضيات والعلوم على مستوى العالم. وعلى الرغم من ذلك يتعرض أحياناً للانتقادات، إذ يعتبر بعض خبراء التعليم في تايوان عبئاً كبيرًا على الطلاب، فيما ينتظم العديد من الطلاب التايوانيين في المدارس الإلزامية وذلك من أجل الارتقاء بمهاراتهم في مجالات الرياضيات والعلوم بالإضافة إلى المجالات الأخرى.ويعتمد نظام التدريس على العديد من الصور أهمها تنظيم المحاضرات واستعراض الدروس والدورات التعليمية الخاصة بجانب التسميع.
لقد نجح التعليم في تايوان خلال العقود الخمسة الماضية في إعطاء دفعة كبيرة للاقتصاد التايواني ونموه السنوي.
لذا فمن المؤمل بل من المُستحسن أن تطلع الشعوب والحكومات على تجارب تايوان في مختلف الحقول، وخاصة في مجال التعليم وفي البحث العلمي وغيره من التخصصات الأخرى.
وأوصل النظام التعليمي هذا تايوان إلى هذه الدرجة من التقدم والتطور في مختلف المجالات والتقنيات المتطورة وخاصة في عالم الاتصالات، بحيث أصبحت اليوم تنتج حوالي 80% من لوازم وقطع غيار أجهزة الاتصالات الحديثة في العالم، التي تدخل في صناعة التقنيات الحديثة لأكبر شركات الاتصالات والماركات العالمية التي تحقق لنفسها مكاسب كبيرة وملايين من الدولارات من وراء الشركات التايوانية الصغيرة.
ومن هنا نرى أنّ عددا كبيرا من الوفود التعليمية والتدريبية تزور تايوان كل عام للوقوف على تجربتها في مجال التعليم والتدريب؛ حيث إنّها لا تتمتع فقط بمنظومة تعليمية راقية في السنوات الأولى في مجال الحضانة، ولكن جميع مراحل التعليم بدءًا من المرحلة الابتدائية ومروراً بالإعدادية والثانوية ومدارس الدبلوم بعد الثانوي ومن ثم الجامعات الراقية تتمتع بوجود أنظمة تعليمية يحصل الطالب من خلالها على الجرعات التعليمية والتدريبية اللازمة التي تمكنه لاحقاً من الدخول إلى سوق العمل بكل أريحية، ووفق متطلبات الشركات والمؤسسات التايوانية، مع العلم بأنّ اللغة الصينية المتداولة هي التي تسود جميع مراحل التعليم مع تقديم بعض الجرعات في اللغات الأجنبية. لذلك فإنّ الكثير من الاستثمارات الأجنبية تتدفق على هذه الجزيرة الصغيرة التي لا تهدأ في حركتها التجارية والصناعية ليل نهار، نظرًا لوجود العمالة المتدربة في جميع التخصصات التي تحتاج إليها السوق التايواني.
المحاكاة التعليمية
لقد شرعت هذه الدولة الصغيرة التي تبلغ مساحتها حوالي 35 ألف كيلومتر مربع وعدد سكانها حوالي 23 مليون نسمة في إعداد مشروع تعليمي رائد لا يقل كفاءة عن دول متقدمة في أوروبا وأمريكا، بل إنّ عمليات المحاكاة في النظام التعليمي أكسب الكثير من القدرات والخبرات للطلبة وهم على مقاعد الدراسة. كما أنّ التشريعات القانونية تعطي الفرصة للجميع للتأهل والدراسة في أيّ مرحلة تعليمية، حيث توجد المدارس الحكومية والخاصة للقيام بهذه العملية المقدسة.
فنظامها التعليمي يؤكد أنّ التعليم حق أساسي مُقدس للجميع، الأمر الذي يحتم ألا يتقدم أي شخص للعمل إلا ولديه شهادة علمية لا يقل مستواها عن الدبلوم بعد الثانوية. ومن هنا نرى حتى أولئك الذين يتقدمون للعمل في مهن بسيطة يحملون درجات علمية راقية. ولذلك تعمل هذه الدولة وفق الأدبيات التي تتحدث عن تجربتها على إزالة العقبات التقليدية وغير التقليدية من أمام الساعين إلى رفع مستوياتهم الأكاديمية أو الباحثين عن مجالات عمل جديدة أو الراغبين في تحديث معلوماتهم في مجالات تخصصهم وهو أمر يعود على البلاد بمنافع عظيمة بما يجعل تايوان في مقدمة الأمم الناهضة في هذا العصر المتسم بثورة الاتصالات وصناعة المعرفة كمحددين رئيسيين للنجاح والتفوق.
أما الجامعات التايوانية فمن جانبها تنافس كبرى الجامعات العالمية في مجال البحوث وتقديم الدراسات الجيدة في مختلف العلوم والحقول وذلك من خلال سعيها في استقطاب علماء دوليين ومنحهم التسهيلات وتقديم الإغراءات لهم للاستمرار في تقديم العلوم لأبناء تايوان وغيرهم ممن يدرسون في جامعاتها. ومن هنا فإنّ الطلاب في تايوان يتمتعون بتدريب أكاديمي قوي، ويزيد عطاؤهم من خلال احتكاكهم بالطلبة القادمين من خارج تايوان اقتناعًا من المسؤولين بأنّ العالمية تؤدي إلى مزيد من الرقي والإنتاج والإبداع في مجال العلوم. وتشير البيانات الخاصة بالتعليم في تايوان إلى أن تدريس معظم المقررات يتم باللغة الصينية، إلا أنهم يستخدمون اللغة الإنجليزية ولغات أخرى ثانوية في التعليم.
مناخ موسمي
يسود تايوان مناخ موسمي مداري في الجنوب وشبه مداري في الشمال، وأمطارها تسقط في الصيف والشتاء، وهي غزيرة بوجه عام، وتهب عليها أعاصير التايفون، وتغطي الغابات نصف مساحتها وتتراوح درجة الحرارة في يناير بين 15 و20 درجة مئوية، وفي يوليو بين 25 و30 درجة مئوية فقط، وبالتالي فمناخها يجعلها وجهة سياحية رائعة؛ حيث بلغ عدد السياح الذين ولجوا تايوان العام 2014 حوالي 9 ملايين سائح، 4 ملايين منهم من جمهورية الصين الشعبية.
التجربة التايوانية
شخصياً ولأنني كنت ضمن وفد صحفي سياحي عالمي جاء من شتى بقاع الأرض ليعيش التجربة التايوانية عن قرب وفي غمرة احتفالاتها بالعيد الوطني الرابع بعد المئة لها، فقد كانت الدهشة والانبهار هما العنوان البارز للرحلة؛ حيث اطلعنا عن قرب على البنية التحتية والتحولات الديمقراطية لها والتي تتناسب وثقافتها الصينية الخاصة، فضلاً عن حرية الصحافة وبعض من مؤسسات الدولة ذات الطبيعة المدنية، كما أن لها تأثير مباشر على اقتصاد ونمو الجزيرة، كما اطلعنا على نماذج من الصناعة والتكنولوجيا هناك، وبعض من برامج النمو الزراعي والصناعي وبعض المصانع التي تنتج أجود الصناعات التايوانية.
الملاحظة العامة تمثلت في الاستغلال الأمثل للموارد والمساحات في تطويرالبلاد، فلم تسلم جسور الشوارع من الاستغلال الحكيم فهذا جسر أسفله مركز رياضي به مختلف الألعاب، والآخر عبارة عن سوق للورود والأزهار والشتلات الزراعية والبذور والأسمدة، وبعض الجسور أسفلها مواقف للسيارات التي تعد وسيلة النقل الثانية بعد الدراجات المجنزرة والهوائية فضلاً عن القطارات والميكروباص.
وبعيداً عن المبالغة، فهذه الجزيرة الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها 35000 كم2 تقف اليوم شامخة بجوار العملاق الصيني الكبير، الذي أوجدت معه علاقة على تعقيدها "فلا مساس"بالوضع الحالي بعد تأقلمكلا الطرفين معه.
لكن السر الحقيقي في هذا التقدم المدهش لتايوان يكمن بشكل رئيسي في أنّها تنطلق من مبادئ أفرزها عمق الحضارة الصينية- وما أكثرها- ومنها "الإخلاص"، الإخلاص في كل شيء، فكل ما يُقدمه لك التايواني نابع من إخلاص وحب، وإذا أحس بخلاف ذلك فإنّه يتجنب أن يقدمه، وهيثقافة ومبدأ أساسي في تعامل التايواني مع أسرته ومجتمعهوعمله ودولته ومع الآخرين، ولك أن تقيس أيها القارئ الكريم ذلك على تعاملاتنا مع كل من صادفناه في الفندق والسوق والمؤسسات الحكومية والشركات والمتاحف والحدائق وكل مكان زرناه على مختلف الأعمار وكل ذلك نابع من"حب العمل" أياً كان نوعه ومردوده فسر السعادة لدى هؤلاء كان "الحب والقناعة" فكل من قابلناهم كانت الابتسامة عنوانه.
عامل آخر وهذا لم استشفه بشكل مباشر ولكنني سألت صديقي جورديان التايواني وفور خروجنا من لقاء جمعنا والقائمين على "المعهد التايواني لبحوث الأسواق" والأرقام المذهلة والمسجلة باسم الاقتصاد التايواني عن السر فكانت الإجابة"العلم والتعلم"؛ حيث وبالرغم من اعتماد تايوان على النظام الأمريكي كإطار عام للتعليم، إلا أنّ التخصص المُبكر وما بعد الصف التاسع وحسب الموهبة والقدرات وليس الدرجات فضلاً عن غريزة حب التعليم وغرس ذلك في الناشئة، فإنّكل ذلك أفرز وعلى مدى سنوات- وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية ونقل "شيانج جاي شيك" حكومته إلى الجزيرة- أجيالاً وحكومات كانت ولا زالت تضع قطاع التعليم والمعلم في أولى مراتب دورة الحياة بتايوان،وبالتالي إيجاد بيئة مناخية مثالية مكنت الحكومات وساعدتها في تنفيذ الخطط والإستراتيجيات التي ساهمت في وضع تايوان ضمن أكثر اقتصاديات العالم نموا واستقرارا، بالرغم من كل الهزات والأزمات الاقتصادية التي مرت على العالم.