سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟(17).. "الرأي والطاعة العمياء"

د. صالح الفهدي

ما بالنا قد أدمنَّا حبَّ الطاعةِ العمياءِ، ونفضنا أيادينا من الرأي الحسن؟! إننا -وهذه عادتنا- قد سننا سُنّةً غيرَ حميدة في الحياةِ التي لا تتماشى مع ناموسها الذي يدفع نحو التعمير والتطوير والتجديد قائماً على: الرأيِ -على مرارتهِ- والمشورةِ -على ثقلها- والنصيحةِ -على شدّتها- هكذا بدا المشهدُ في كثيرٍ من صورِ حياتنا، وممارساتنا فهو انبثاقٌ من تفكيرنا الذي نما على سنّة "الطاعةِ العمياء" التي هي وليدةُ الشعورِ بالسلطةِ، ونتاجُ الإحساسِ بالتّملك!

... إنَّ الطاعةَ في حدِّ ذاتها طريقُ نجاحٍ إن كانت ترمي إلى صلاح، فهي تضبطُ النفسَ على إيقاعٍ متّزنٍ، دقيق، في خطواتٍ محسوبةٍ، وإجراءاتٍ مدروسة، ونتائجَ محسوسة. كما أن حديثنا لا يتعرّضُ لطاعةِ الله ورسولهِ فهي أساسُ الإيمانِ، ومصدرُ التوجيه، إنّما حديثنا عن تلك الطاعة العمياء التي يقفُ إزاءها الإنسانُ أمامَ إنسانٍ مثله وهو كالأبكم الأصمّ الأعمى يتلقّى أوامرَ الطاعةِ دون أن يُعملَ العقل، ويدقّق البصيرة..!

حين وضعنا الطاعة في كفّة والعلم في كفّة أُخرى، آثرنا الطاعة على الرأي، فإذا بشيخ القبيلةِ يرى في رأي أفرادها تمادياً عليه، وإذا بالأب يرى في رأي أهله تعالياً عليه، وإذا بالمعلّم يرى في رأي التلميذ تطاولاً عليه، وإذا بالرئيسِ يرى في رأي المرؤوسِ تجاوزاً عليه..!! فضاعَ الرأي، وسادتِ الطاعة، فكان نتيجتها الإكبارُ عن جهلٍ، والإعظامُ عن سَفَه..! يقول روبرت هيينلين:"لن أتعلم أبدا من شخص يوافقني الرأي". أفقَدَتْنَا الطاعة العمياء فرصة إبداء الرأي، ومساحة الحوار، ورفعِ الحواجز السميكة للسلطةِ أيّاً كان نوعها وطبقاتها. في العلم، حضرت طاعةُ المعلّمِ وحدها بالإطلاقِ وغابَ الرأي، فكانت كل نصيحةٍ إلى الطالب:"أطعْ معلّمك" وغابت عن المعلم نصيحة:"اصغِ إلى طالبك"..!! فتلقينا العلمَ عن طاعةٍ عمياءِ، وكبتنا ما يعتملُ في العقولِ من آراءِ، وفي الخيالِ من تصورات، وفي النفس من مشاعر..!! بل أصابتنا "فوبيا الرأي" فارتجفت فرائصنا ونحن نقاومُ الرغبةَ في إبداءِ الرأي المخالفِ ليس لرأي المعلّم بل لما يطرحهُ الدرس، فوأدنا تلك الرغبة في البوحِ، وانكمشنا على أنفسنا..!! يقول جون ستيوارت ميل:"لا يمكننا أبدا التأكد من أن الرأي الذي نحاول كبته رأيٌ خاطئ، وحتى لو كنا متأكدين فكبته سيظل إثماً". يقول أحد المصريين: "أذكر أني فى مقتبل عملى بالجامعة معيدا فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، اختلفتُ فى أمر ما مع أحد أساتذتى الذين أُجلهم وأحتفظ لهم بكل الحب والمودة، أن هذا الأستاذ الجليل سألنى بدهشة بالغة: إنت بتعارضنى ياولد؟".

وحينما وضعنا السلطةَ في كفّةِ، والطاعة العمياء في كفّة أُخرى، كانت من نتائج ذلك أننا فعلنا ما لم نقتنع بفعله، واشتغلنا فيما نمقت إنجازه..! فإذا أبدى الموظف البسيط رأياً عدَّه المسؤولُ إحراجاً، وكأنَّما العملُ علاقة اجتماعية تحت مظلة قبيلةٍ أو عائلة، وليس في بيئة مؤسسية ذات نُظمٍ وأُطرٍ..! تقول إحدى الموظفات: لا يمكننا إبداءُ رأي يخالفُ رأي رئيس القسم، فإن فعلنا رأينا نتائجَ ذلك في تقاريرنا..!! يقول الحجاج الثقفي:"من البلية أن يكون الرأي بيد من يملكه دون من يبصره".

حين تولَّى أحد المسؤولين الكبار رئاسة إحدى المؤسسات بادر على الفور بإصدارِ قراراتٍ عدّها الرجلُ الثاني في المؤسسة تهوّراً وطيشاً، فوجّهَ إليه النصيحةَ بالتريُّثِ، والتّمهل كي لا يتخذ قرارات خاطئةٍ، يكون مآلها على المؤسسةِ وخيماً..! فما كان من هذا المسؤول الكبير إلاّ أن أزاح الرجل الثاني من المؤسسةِ برمّتها لأنّه لم يطق أن يعيقه أحدٌ عن قراراته المتعجرفةِ، ولأنّ نفسه أدمنت حبّ الطاعة العمياءِ، فلم يجد من هذا الرجل حنّو قامةٍ، ولا "لبّيكَ طويل العمر"..! إنّما وجدَ نصيحةً صادفت قلباً متكبراً، ورأياً قابلَ نفساً مغرورةً، وآذاناً لا تسمع إلاّ ما تقول هي، مطابقة لقول المتنبي:

وَدَعْ كلّ صَوْتٍ غَيرَ صَوْتي فإنّني...

أنَا الطّائِرُ المَحْكِيُّ وَالآخَرُ الصّدَى

... إنَّ التعامل المستبد مع الآخر لن يخدم التطوير، والنمو للإنسان وللأوطان، فإذا كان المسؤول ينتصرُ لنفسهِ لا لوطنه بسيادةِ رأيهِ وفرضه أيّا كان، فإنّه ليس جديراً بالمسؤولية، وليس حقيقاً بالأمانة..!! يقول الراحل د.غازي القصيبي صاحب التجربة الطويلة في الوزارات:"اختيار المساعدين الأكفاء نصف المشكلة، والنصف الآخر هو القدرة على التعامل معهم. الرئيس الذي يريد مساعداً قويَ الشخصية عليه أن يتحمل متاعب العمل مع هذه الشخصية القوية.. من طبيعة الأمور أن يكون الشخص الموهوب النزيه الذكي معتداً بنفسه وقدراته وألاَّ يتردد قبل إبداء رأيه الصريح في أي موضوع (بخلاف المساعدين الفاسدين الأمَّعات) لا شيء يتعب أكثر من التعامل الشخصي مع الأبطال كما يقول هنري كيسنجر". ويصف علاقته بأحد وكلائه قائلاً:"وكان يُنهي النقاش العاصف بقوله: (أنت الوزير. إذا اتخذت القرار فسوف أنفّذه ولكن لا تتوقع مني أن أقول لك إن القرار صحيح). حدث هذا مرةً بعد مرة، كنت في معظم الحالات أتبنَّى في النهاية رأيه وكنت في بعضها أتمسك برأيي".

تفرضُ السلطةُ الأبويةُ في البيتِ الطاعةَ العمياءَ أكان على الزوجةِ في الغالب أو على الأبناءِ ويغيبُ الرأي، فالرّجلُ -دون تعميم- يسعى لموافقةِ الزوجةِ في كل أمرٍ يصدرُ منه، فإن كان لها رأي رآهُ ثقيلاً لا يستسيغه ولا يكادُ يتقبّله إلا عن مضض..! والأمرُ كذلك للأبناء..! يقول المهاتما غاندي:"الاختلاف في الرأي ينبغي ألا يؤدي إلى العداء، وإلا لكنت أنا وزوجتي من ألد الأعداء". إنَّ خطورة الطاعة العمياءِ وإقصاء الرأي في البيتِ جدُّ خطير لأن الأُسرة هي الحاضنةُ الأولى، فليس غريباً على مجتمع تربَّى على الطاعةِ العمياءِ في البيوت وعطل التفكير أن ينشأ على هذه الخصلة الذميمة، ويطبّقها في سائر مصالحهِ وعلاقاته..!

وفي الجانبِ الفقهي المتعلّق بالدّين وارتباطهِ في الحياةِ، يغيَّبُ العقلُ، وتحضرُ الطاعةُ العمياء في كثيرٍ من المواقف. ذات مرّة سألت شخصاً حول مسألةٍ من المسائل فأجاب: أنا أتّبعُ قول شيخنا الفلاني. قلتُ: وأنتَ ما هو رأيك؟ قال: أنا لا رأي لي..!. إنني أجدُ نفسي في بعض الأحيان حينَ أُعملُ العقلَ، وأُطيلُ التأمّل في بعض الفتاوى الخاصة بالمصالح والعلاقات أنني أرى فيها رأياً آخر، وأن من أفتاها قد اجتهدَ فيها بحسبَ علمهِ، أو بما استبانَ لهُ منها. يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما سُئل عن البر والإثم:"استفت قلبك، البرُّ ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك".

... إنَّ تغييب العقلِ يعني إقصاء التفكيرِ، وإقصاءه يعني فقدان الاقتناعِ، وظهور التبعية والطاعةِ العمياء لكلّ أمرٍ سواءً كان حقًّا أو باطلاً..! وما يحدثُ من تبعية صمّاء، وطاعةٍ عمياء لدى بعض الطوائف، والمذاهب من تمسّكها بما لا يستندُ إلى أُسس قويمة، ودلائل بيّنة، وقواعدَ واضحة إنّما هو إقصاءٌ منها للعقل والتفكيرِ، وتقديس للموروث دون التمحيصِ فيه والتشخيص؛ الأمر الذي يجلبُ إليها الرجعية، والعصبية. وهنا يأمرنا نبينا الأكرم بعدم تقبّل كلّ شيءٍ على أنّه سنّةٌ مسلّمٌ بها، فيعطّل التفكير فيها، وتقبلُ عن طاعةٍ عمياء، وذلك بقوله عليه أفضل الصلاة والسلام:"مَا جَاءَكُم عني فاعرضوه على كتاب الله فَمَا وَافقه فَأَنا قلته وَمَا خَالفه فَلم أَقَله".

الإشكالية المعضلة في تغييب الرأي وفرض الطاعة العمياءِ هي فقدان الظروف المحفّزة والمهيأةِ للإبداع، فلا إبداعَ دون حريّة، ولا حريّة دون تحرّر العقلِ من النّقل، يقول محمد بن علي المحمود:"الحضور الأكبر والأشد قداسة في الوعي العام، وعلى امتداد تاريخنا، كان حضور النقل، هو وحده الحضور المشروع والمشرعن، الذي يمنح أو يمنع الشرعية لغيره أو عن غيره، بما فيه العقل الذي تم وضعه في خدمة النقل؛ ليكتسح التقليد البقية الباقية من استقلالية الإنسان".

أما البناءُ الحقيقي للعقل الإنساني المبدع، فيبدأُ من منح العقلِ مساحةً ليفكّر، وحريّةً ليبيّن رأيه دون خوفٍ أو وجل، حريّة محكومةً بضوابطِ الأخلاقيات السامية، والآدابِ العالية، تحرّره من التبعية والقمع النفسي، والكبت الفكري.

إنَّ أعظم آفةٍ تعيقُ نماء الأمم هي التقليد الأعمى؛ ذلك الذي يقصي الفكر، ويقتل الإبداع، ويقفُ أمام التجديدِ والإبتكار، فإذا بمواهب الإنسانِ تضمحلّ، وإذا بقدراته الفكرية تذوي، وإذا بطاقاته الإبداعية تنعدم..! مناصروه كثر، ومعارضوهُ قلّة، فإن ثارَ القلّة على الكثرةِ قذفوهم بشتى أنواعِ التُّهم الجاهزة!

لا أثرَ للتعليم أبداً إذا كان العقل مكبَّلاً، والتفكيرُ مقيداً، والرأي مغلولاً..! ولا تنمية للإنسانِ إن لم يجد فضاءً واسعاً من إعمالِ العقلِ في كثيرٍ من المنقولات الجاهزة. ولا تطوير للمجتمعات إن لم تنشأ على الطاعةِ الإيجابية التي تُبنى على الإقناعِ، وتنحّى عن الإكراهِ، فيكونُ الرأي فيها مقدّراً، والتفكيرُ معتبراً.

تعليق عبر الفيس بوك