مقال بعشرين.. وصوت بعشرين!

هلال الزَّيدي

تُحقق بعض الكتابات التي تُضني كاتبها ردود أفعال متباينة، وذلك بحسب المتلقي الباحث عن معرفة يريدها "هو"؛ ففي خضم الوفرة المعلوماتية، وكم المعارف المتدفق إلينا، لم نعد نتحسَّس المضمون الذي ربما يُقدم لنا عُصارة فكرية تستميل عبرها الشخوص لتتبنى رأيا أو تنساق مع فكرة بعينها.. فهناك الردود التي تريد أن تُسجل حضورا لها، وهناك ردود تبحث عن أقلام تكتب بمداد النقد الصارخ الجارح الذي لا يُفرِّق بين التلميح والتجريح؛ فديدنها إساءةٌ إلى الشخوص، وهناك متلقٍّ مُعتدل يهوى أن يتغذَّى على كل كلمة رسمها ذلك الكاتب ضمن تلك المنظومة التي تأتي بعد جهد عسير، ومخاض كبير.. وهذا التباين هو من إفرازات المجتمع وحرية الكلمة التي تمثل كاتبها ضمن بقعة جغرافية معينة أو عبر امتداد زماني في حقبة من حقب تكّون الحضارات واندثارها.

"سيدي الكريم.. ما لي أرى حبر حروفك يضمحل في نقش الأحرف حتى تصبح كلمات، بعدما كنت أراها صفعات ولكمات في ذوات وجدران الحياة.. فحتى رسمها لم يستهوني في الفترة الأخيرة".. تلك رسالة جاءته من إحداهن وهي تمشي على استحياء من كثرة الرسائل الموغلة عبر تلك الحياة الافتراضية.. فيجيبها: إن كانت هكذا وكما تدّعين، فمال بال النسوة اللواتي علقن أحرفي في نحورهنّ وتزينّ بها فاتصلن بعالمي المتشرب بالحياة وانفصلن عنعالم يهوى الرقص مع المطبلين، وما تبقى منهن انسقنا مع الموجة حيث ولّت،على الرغم من أنهن ذواتمعرفة وعلم، فربما إحداهن تتعايش مع المشرط والدواء لتضميد جرح بات ينزف من هول التصادم مع الواقع..ألا تذكُرين عندما كنَّ يتراقصن على وقع كلماتي.. ألا تذكرين تلك "النون" عندما أقامت حفلَ استقبال على وقع همسة من همساتي.. ألا تذكرينعندما نظمن صالونا أدبيا لفرز أحرفي وتفتيت توجهاتها.. كيف تقولين بأنني أضمحل؟ هل لأنهن أردن السكون واعتزال كتاباتي خوفا من أن تفشل ريحهن لتسيطر عليهن الثقافة المعلبة؟ وهل "الشاورما" السريعة باتت أسهل لهن من إعداد طبق "الكبسة"؟ ربما تضعين استنتاجا في صيغة اختبار أو ملمحا لاتخاذ قرار، فإن كان كذلك فهذا شأنك، لأن الطبيب لا يُعطيك الدواء وإنما الوصفة فقط، ويبقى الصيدلاني هو من يُحللّ الوصفة ويعطيك الدواء، وهنا فلسفة.. وعليه أن يُنفذ ما قاله الطبيب حرفا حرفا.

"سيدتي" عليك أن تؤمني بأنَّ الكُتل البشرية تُسيطر عليها الآراء النافذة في كثير من تجلياتها "إلا ما رحم ربي"؛ فغلبة المجتمع الذكوري على المشهد تدفع المرأة إلى أن تقوم بأدوار غريبة فيه، لأنها تعوّدت أن تُطبق ما قاله الطبيب عبر تلك الوصفة، فها هي تُطبق ما يمليه عليها المترشح لتجلب له أصواتا تجعله يفوز بمقعد عضوية مجلس الشورى، "وشتّان بين الطبيبين إن جاز لنا التعبير"فتحمل رسالة أمها وتبدأ في جمع الأصوات مقابل مبلغ من المال يقدر بـ20 ريالا لتعود تلك "العشرينات" لصالحها هي.. مهلا مهلا سيدتي العزيزة.. أنا هنا لا أُعمم القول ولكني أُسقط حادثة تتبلور في مجتمع من المجتمعات أو دعيني أقول لك في ولاية من الولايات التي تتسابق فيها القبلية للظفر بمقعد أراه لا يقدم ولا يؤخر في نفوس من تؤمن بأن الدور الاجتماعي لا يتطلب منصبا أو وجاهة أو مشيخة تلبس في الصباح وتُعلق على عتبة المنزل عند حلول المساء.

"سيدتي".. ما يحز في النفس تحول فئة من الشباب ممن يعول عليهم بناء المستقبل إلى مصدر "لجباية الأصوات" حتى يحققفوزا في هذه المنظومة التي تسودها المجاملة وخلط المفاهيم مع بعضها.. وأكثر من هذا هل تُدركين "سيدتي" أنَّ هناك فئة من الشباب يشاركون في التصويت في ذلك اليوم التاريخي من أجل ماذا؟ من أجل الظفر بإجازة في تلك اليوم.. يا لهذا الفكر.! نعم "سيدتي" أضمحلَّت كلماتي وغارت أحرفي وسال الحبر في بياض الحياة بسبب الإهمال؛ لأنها لم تجد من يقرأها ويفسرها فربما أقول لك صدقتِ؛ لأننا لم نتقن فنون اللعبة التي أردنا المجتمع أن يفوز بها، وإنما انجررنا خلف وعود جاءتنا من وراء القضبان المزيفة بالأمل القادم من ثُلة من الناس كانوا وما زالوا مصدرا لاتخاذ القرار.

"سيدتي".. إنَّ الدواء مُر، وعلى الرغم من مرارته فالمريض لا يرده ذلك العلقم عن تناوله لأنه يريد أن يتشافى من ألمٍ قوّض قدراته، فتبدأ مراحل التعافي بالتدريج، كما أن الصيدلي الذي يصرف الدواء يعلم بمكونات الدواء، إلا أنه يصرف الدواء بابتسامة تُخفي تلك المرارة حتى تغادر شباك الصيدلية.. ليأتي غيرك ويمارس عليه نفس "التمثيلية"، لذلك ومع تعود المجتمع على مرارة الدواء إلا أننا نحاول البحث عن دواء سريع نخلطه بشمع العسل ليتلألأ في نظرنا ونستسيغه لوهلة من الزمن، مع العلم بأنه دواء غير فعَّال، لكننا نقول: من أجل عيون "فلان".. لأنه تحدث فأطال، وعبَّر فأسال، وأرغى فأزبد،ورمى فاصطاد.. وغرس الخنجر فمال إلى الأمام ليجني أصواتا تريد أن تسد حاجة في نفسها.

"سيدتي".. لا أستطيع أن أدُس مع كل مقال لي حفنة من المال، كي أُلزمك بقراءته وتبني ما جاء به، لأن الكتابة لا تُعد عصًى سحرية في حلحلة الصعوبات، لكنها تُشير إلى معلومة ورأي يحتاج إلى تفحيص أكثر، ولو تعلمين بأن كتابة مقال في قضية معينة يحتاج إلى تهيئة وأفكار ومكان وزمان، وكاتب يعي الجملة ومفرداتها، ومن ثم وسيلة حقيقية وليست افتراضية تتبنى ذلك الكاتب.. ليأخذ الكاتب أجره بعد جفاف عرقه وحبره. أما الناخب، فيحصل على نفس الأجر قبل أن يرتد إليه طرفه.. فهل تدركين الأمرين "سيدتي"، وهنا تشبيه عقيم جرَّني إلى مقارنة بين أجر الصوت، وأجر الكتابة.. حقا إنَّ القول "الصوت" أسرع من الفعل "الكتابة.. لا لا لا تعتقدين بأنني أفكر بأن أذهب لأصوت من أجل الـ20 ريالا.. أنا لم أتعود الذهاب بعد، وما زلت صغيرا على حمل الآخرين، هناك من هم أقوى مني فالساحة لهم، دعيني مع كتاباتي التي أجد فيها نفسي، فلا أحتاج إلى جاهة ووجاهة، فمقالي هو فوزي واستحقاقي، لكنني لا أُرشحه بأن يكون مرشحا عنكم.

--------------

همسة:

"احتاجُ إلى سفر يُجدِّد خلايا الحياة لديَّ.. احتاجُ إلى تأشيرة للدخول إلى مطار الكلمات.. أحتاج إلى حقيبة لأخبئ فيها أسفاري التي لم تتعدَّ المطار.. ها أنا ألوِّح للمسافر الذي حلق إلى مدينة حالمة؛ ذلك المسافر رحل، وأنا فاتني القطار.. لكنني سأسافر معه عبر همساتي وأحلامي.. أيها المسافر لا تخاف الغربة والوحدة لأنهمايعلمانك ما لم تكن تعلم.. فهناك من سافر ولم يعد.. وهناك من عاد ولم يسافر.. إلا أنه شرب السفر دواءً وقسراً.. فأنا انتظر عودتك لأنك مسافر.

*كاتبٌ وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك