"عاصفة الحسم الروسية".. حين يضحك القدر حتى يُغمى عليه

علي المعشني

قُلنا مرارًا وتَكرارًا إنَّ الروس في عهد القيصر بوتين، ليسوا هم الروس في عهد الاتحاد السوفييتي، وإنَّ الأسباب الموضوعية التي انهار بسببها العهد السوفييتي؛ وعلى رأسها: إسقاط نظرية الصراع، وحصر مفهوم الأمن القومي في جغرافية الاتحاد السوفييتي ومجاله الحيوي الضيق والحرج، هما من أركان العهد الروسي في عصر بوتين، وإستراتيجيته السياسية والأمنية العميقة.

لم يفهم الكثير هذه المعطيات الحيوية، ولم تصلهم رسائل "الفيتو" الروسي في مجلس الأمن بشأن الأزمة السورية وطرق معالجتها، واعتبروها مزادًا سياسيًّا لا أكثر؛ فهناك بيننا ممن ما زالوا أسرى للماضي بكل تداعياته وضحايا لـ"البروباجندا" الغربية الهوليوودية، والتي جعلتهم يرون العالم بآذانهم لا بأعينهم.

رأيي لا يُلزمك، يُلزمك البُرهان إن وُجد، والبرهان المُلزم لنا جميعًا على أننا نعيش عهدًا روسيًّا مغايرًا للعهد السوفييتي هو عاصفة الحسم التي ينفذها الروس اليوم في سوريا بطلب وموافقة من الحكومة الشرعية بدمشق وبقرار أممي، لا من فلول العصابات وقطاع الطرق كما فعلت أمريكا وأدواتها للتذاكي على العالم.

لم يفهم المعسكر المضاد للروس اليوم، من هو بوتين، ولم يفهموا أن بوتين وإدارته على فهم وإدراك مؤسسي عال بكل خطواتهم ومخططهم وأبعاده ومراميه البعيدة والتي تتعدى دمشق بسنوات ضوئية وفراسخ بعيدة، لتطرق أبواب موسكو في النهاية ولتنال من الكنيسة الأرثوذكسية، وتعيد تموضع الغرب في جغرافيا حلموا طويلًا بها وبإخضاعها لهم، منذ عصر الملكة فيكتوريا في القرن الرابع عشرالميلادي وحملتها الصليبية الشهيرة ضد روسيا القيصرية تحت شعار: "الحملة الصليبية ضد "هرطقة" الكنيسة الشرقية".

لهذا تقاطر الأغبياء على موسكو كالحجيج بصكوكهم المالية ووعودهم المغرية وبغنائمهم الوهمية جراء سقوط سورية، وكأن روسيا كيان ناشئ وفتي تستدرجه عبارات الإطراء والثناء ومغريات الغرب وملاهيه.

وفوق كل هذا، لم يقرأ المراهقون الموقف الروسي الحازم والمُطلق تجاه سوريا قراءة صحيحة وعميقة، ولم يتعاملوا معه بندية وتقدير، فتمادوا في غيهم واستفزازهم واستعراضاتهم الهوليوودية التي يجيدونها، وعبثوا وتمادوا بقواعد اللعبة، وراهنوا مرارًا على انسحاب الروس من اللعبة في مفصل تاريخي ما، حتى أيقظوا بفعلهم هذا كل كوامن الدب الروسي وأخرجوه من سباته، ليقود عاصفة الحسم وليبرهن لهم أن كلامه أفعال على الأرض، وليست شعارات ليل يمحوها النهار.

خطَّط الروس بدهاء إستراتيجي عميق لمراحل الأزمة السورية، وجعلوا عام 2016م هو عامها النهائي بكل تداعياتها الحرجة، أي ستة أعوام منذ بَدْئِها عام 2011م، واعتبروا أن بوابة دمشق هي بوابة موسكو بالمفهوم الإستراتيجي للأمن القومي الروسي، وأن مصالح روسيا مع سوريا أكبر من مصالح روسيا في سوريا، وأن الأزمة السورية هدية من السماء لتسويق روسيا الحديثة في الحيوية السياسية والعسكرية، وفي ترسيخ مفاهيم ونهج روسيا الجديد مع الحلفاء، وترجمة مفهوم الأمن القومي الروسي وفق معطيات العولمة والمصالح العابرة للقارات وقواعد الصراع.

يقول الزعيم الألماني بسمارك في وصف الروس: الروس يبطئون حين يسرجون خيولهم، ولكنهم تجدهم أول الركب بعد ذلك. لاشك أن الروس اليوم أبطأوا في سرج خيولهم قبل أن تنطلق عاصفتهم ويكونون أول الركب، فقد فتحوا كل الأبواب لاستقبال جميع الخصوم والفرقاء بلا انتقائية أو استثناء، وحضروا جميع المساعي والمؤتمرات التي ترمي إلى حل الأزمة سلميًّا وتحترم المواثيق والقوانين الدولية، وتحمَّلوا كثيرًا بلطجة وتطاول الكبار والصغار وتماديهم، وكل ذلك لإقامة الحجة عليهم ولخلق المبرر والمسوغ القانوني للعاصفة المرتقبة.

لقد تمكَّن الروس بدهائهم من توريط الغرب وحلفائهم بأهمية انتزاع قرارًا أمميًّا ومن مجلس الأمن بالتحديد باعتبار "داعش" و"جبهة النصرة" تنظيمين إرهابيين، ويشكلان خطرًا حقيقيًّا على الأمن والسلم الإقليمي والدولي، وهذا القرار بطبيعة الحال الذكي جدًّا من الروس، تذاكت عليه أمريكا وحلفاؤها وبنوا عليه حربًا وهمية وحلفا مخمليًّا على "داعش"، وعبر هذا التحالف الورقي عبثوا بقواعد اللعبة ومكنوا الإرهابيين من التموضع في مفاصل حرجة من الجغرافية السورية، ونما طموحهم إلى التدخل العسكري المباشر والحلم بإنشاء مناطق آمنة تقتطع بالقوة الجبرية المسلحة من الجغرافية السورية، بقصد إنهاك الجيش العربي السوري وتشتيت جهوده، والعبث بموازين القوى على الأرض لصالح الحركات الإرهابية، لتصبح أوراق مناورة وضغط بوجه النظام وحلفائه في أية تسويات سياسية قادمة في أسوأ الأحوال إن تعذر إسقاطه، وقسموا الإرهاب والإرهابيين بين متطرف ومعتدل.

كما لم يُخفِ الغربُ وأدواته في المنطقة، ملامح السيناريو القادم -والذي قرأه الراسخون في العلم بحذاقة- وهو الالتفاف على "حزب الله" والإجهاز عليه في لحظة مناسبة؛ فالمراوغون الأمريكيون كانوا يريدون جعل المنطقة مزرعة للتنظيمات الإسلامية لبضعة عقود حتى تتحلل المجتمعات الشرقية تحللا ذاتيا وتتفكك، وفي رحلة التفكك سيتم استخدام منتجات التفكك الإسلامي هذا لتفكيك روسيا والشرق؛ لهذا قالت أمريكا -وعلى لسان أكثر من مسؤول بها- إنَّ الحرب على "داعش" ستحتاج إلى سنوات طويلة.

الروس -وعلى لسان الرئيس بوتين- قالوا سيحتاجون إلى أربعة أشهر فقط للقضاء على "داعش" وأخواتها، وتطهير الأرض وتعقيمها منهم.

اليوم فقط يُمكننا فك طلاسم الموقف الروسي من قراري مجلس الأمن بشأن الحرب على "داعش" واليمن؛ حيث بلغ الدهاء الروسي مبلغه وتجلت عبقرية دبلوماسيته في التسلل عبر ثغرات القرار الأممي الأول، وإغراق المتلاعبين بالنفط في مستنقع اليمن بتمرير القرارالثاني بالامتناع عن التصويت ضده، والغريب أن الحليف الفنزويلي -العضو المُراقب- اتخذ نفس الموقف الروسي بشأن اليمن، وكان هذان القراران كفيلين بتنويم أمريكا وحلفائها في عسل ماقبل العاصفة.

أهم مانجح به الروس في عاصفتهم المجيدة في تقديري، ليس في برهنة جديتهم في أقوالهم، ولاصلابتهم وصدقهم في تحالفاتهم، ولا في إظهار قوتهم النارية المرعبة للدواعش وحلفاؤهم، بل في كشفهم للعالم عن مدى السقوط الأخلاقي الكبير لتيار الربيع والتطبيع مع أمريكا وحلفائها وأدواتها في المنطقة والذين لم تسعهم الصدمة وهولها من طلب الرحمة لـ"داعش" واستنكار الفعل الروسي، بل وإعلان "المشايخ" للجهاد في سوريا ضد الروس"الكفار" الداعمين للرئيس "الكافر" في استدعاء مُضحك لسيناريو مسرحية الجهاد الأفغاني.

الروس اليوم مُوجودون بطلب شرعي وبغطاء أممي لايساومهم أو يجادلهم فيه أحد، وهذه الحرب لاتمثل مطلبًا مُلحًّا لهم لخدمة حليف بوزن وأهمية سوريا، ولاضربة وقائية كبيرة لخدمة الأمن القومي الروسي بمفهومه وهويته الجديدة، بل عودة الروح لعقيدة الجيش الأحمرالروسي القتالية، والتي شابها الكثير من الفتور والتوجُّس بعد حروب أفغانستان والشيشان والمراحل الانتقالية الصعبة لروسيا مابعد الانهيار السوفييتي. فإذا كانت الحرب التأديبية الخاطفة لروسيا على جورجيا عام 2008م قد أعادت شيئًا من الروح والعقيدة للجيش الأحمر العتيد، فبلا أدنى شك أن سحق الدواعش على أرض سوريا سيعيد الهيبة والعقيدة الكاملة لهذا الجيش العتيد.

اليوم.. سيتكفَّل الروس بحِمَم جهنم على رؤوس الدواعش من الجو، وسيتكفل الجيش العربي السوري الباسل بتطهير الأرض وتعقيمها من دنسهم، وسيعود "حزب الله" إلى عرينه في الضاحية والجنوب اللبناني مُصوِّبًا بندقيته تجاه العدو الصهيوني، وموقظًا توازن الرعب مجددًا. وسينسف الروس والسوريون ماتبقى من الخطة(ياء) الناتوية تجاه عرين الأسد، وسيبدأ مسلسل السقوط المدوي الثاني للحلفاء والأدوات ممن تجاسروا على دمشق وراهنوا على غيهم وسفه أحلامهم الواهمة المتبددة.

دهاء الروس وعبقريتهم تمثَّلت في إدارتهم للإزمة وفي جميع مراحلها، وفي اختيارهم الدقيق لتوقيت المعركة ومسرحها ليجهزوا على الخصم ويحققوا الانتصار العظيم بأقل الخسائر، فكما مرروا الطُّعم بالقرارين الأمميين، ترقبوا تمرير إيران عبر الاتفاق النووي، كحليف ولاعب مهم في الساحة.

واليوم.. الصين تدخل على خط المواجهة وكوريا الشمالية وفنزويلا، وبهذا يتشكل حلف عتيد وجبار، يمكنه إطلاق رصاصة الرحمة على المشروع الغربي المخطط له عبر سوريا للسيطرة على المنطقة وفرض سياسة الأمر الواقع، وسيغري هذا الحلف بلاشك الكثير من المترددين والناقمين والمتضررين من الغرب النرجسي.

--------------

قبل اللقاء، أقتبسُ هذه العبارات من مقال للكاتب العربي السورينارام سرجون:

"التدخل الروسي الذي يوازي طلبهم بالتدخل الأمريكي.. هؤلاء الذين يريدون إحراجنا بذلك هم الذين يمزجون دم اللغة بدم الأفاعي البارد، ويخلطون مذاق الرحيق بلعاب التماسيح ونكهة النعناع بنكهة الخشخاش.. وهم المتشدقون الذين يسرقون كل شيء حتى الشعارات الوطنية ويستعملونها لستر الخيانة ويتقاذفونها.. وهم أنفسهم الذين اجترحوا معادلة الاستعانة بإسرائيل وبيع الجولان لنتنياهو ولواء إسكندرون لأردوغان من أجل الفوز بالسلطة.. وهؤلاء هم الذين ارتكبوا مجزرة الكيماوي من أجل أن تتحوَّل سورياإلى محرقة كبرى بالسلاح الأمريكي واليورانيوم المنضب.. هؤلاء لن نشغل أنفسنا بالرد عليهم؛ لأنَّ الرد عليهم لايُجدي؛ فهؤلاء لايبحثون عن الرد، ولاعن الحقيقة؛ لأننا أمضينا خمس سنوات نفتح لهم كتب المنطق والتاريخ والجغرافيا والوطنية والقرآن والأخلاق دون أن ينفع ذلك؛ لأن التفكير السليم علَّمنا يومًا أنَّ هناك كلامًا حقًّا كثيرا يُراد به باطل كبير.

... إنَّ رفع شعار أنَّ مانفعله من التعاون مع الروس هو مطابق لما فعلوه بالتعاون مع الناتو، يشبه خدعة المصاحف على الرماح؛ فكما رُفعت يوما المصاحف على الرماح لإحراج السلطة الشرعية المتمثلة في "علي" بأنها تتحدَّى دستورها القرآني، فإنَّ البعض يرفع اليوم مصاحفنا الوطنية الرافضة لاستدعاء الناتو.. شعاراتنا المقدسة التي ترفع على رماح الوطنية يراد بها باطل لإبطال وطنية الاستعانة بالحليف الروسي لتحرير الأرض، ولكننا لسنا من أولئك الذين تحرجهم الادعاءات الماكرة، ولن تهزنا المصاحف بأيدي المنافقين، ولن نكترث بها؛ لأنَّ المصحف الذي يحمله المنافق لايشبه إلا صلاة بلا وضوء وبلا خشوع وبلا سجود ولا ركوع...".

وبالشكر تدوم النعم....!

Ali95312606@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك