هرمنيوطيقا الإنزال والتنزيل في القرآن الكريم

 

هاجر السعديَّة

أدْهَشني مقالُ الأستاذ محمد الخضراوي المعنون بـ"أسباب النزول المقدس: التاريخ والواقع"؛ فهو يعكسُ رُؤية مُستنيرة بعيدة عن التعصُّب؛ وذلك لما اتَّسم به طرحه من الموضوعية والحياد والتنظيم، بَيْد أنَّ آفاقَ الدراسة القرآنية مُتشعبة وواسعة. وإنَّ ألوف المجلدات لا تفي بمعشار ما قيل وما يُمكن أن يُقال في هذه العلوم. والجدير بالذكر أنَّ الخضراوي حاول تبسيط وتفكيك النزول كمصطلح ومعنى؛ من خلال تتبع آلية الهرمنيوطيقا. ومن نافلة القول أنَّ من العسير على الباحث العصري في شؤون القرآن أن يرجع إلى الكتب القديمة ليعثر على شيء يسكن شغفه المعرفي تجاه أي مسألة تمس القرآن -سواء من حيث التأويل، أو تحرير الأفكار، أو تحليل أدبي لمقطع من كتاب الله- وذلك نتيجة تضارب الآراء والروايات في تأويل الآية الواحدة. ولا يُمكننا أن نفرُّ من هذا الواقع الملازم للشروح الإنسانية، والذي يُعدُّ في الوقت نفسه أصلَ الداء وشرَّ البلاء. فلا بد من التفسير والتأويل الذي نرضاه دون أن نُجزم حقا بأننا وقفنا حتما على المراد من كلام الله.

ويُعدُّ مقال الخضراوي ليس بصدد تأويل الإبستمولوجيا المعرفية من ذكر أسباب نزول الآيات، وكيفية الاحتكام إلى الوقائع المبرهنة للآية، وإنما نجده في صدد تفكيك إرهاصات فهمه وما يقف خلف معنى النزول؛ حيث يتَّخذ المصطلح أبعادا مصطلحية تتجاوز حقل الألسنية العام؛ حيث يستأنف الخضراوي بأنَّ النزول يؤشر على الصبغة الإلهية التي اكتمل بموجبها النص القرآني في معالم الأزل. أما التنزيل، فيشير إلى حضور الغيب في حياة الناس بطرائقية يستشرف النص من خلالها المستقبل البشري، وتفرعت من هذا المنظور ثلاث مرئيات تتمثل الأولى في أنَّ النزول حضور النص في السماء الدنيا، والتنزيل هو مقدمة المقسط في عالم الشهادة البشري. وتمثل المنظور الثاني في أن القرآن نزل نزولا وتنزيلا؛ أما النزول فقد تم بموته. والمنظور الثالث هو أن ما يهوى به من علو إلى سفل يكون إنزالا وهو إنزال؛ حيث لا وسائط ولا أسباب. بَيْد أنَّ هذه المنظورات من خلال تأويلها لمصطلح النزول والتنزيل تعتمد الهرمنيوطيقا حيث تبرز الجهود التفسيرية التي تتسم بالترابط من أجل إضفاء معانيَ ودلالات عملية تميز بين قول الله ومقولات البشر، وأوجدت في الوقت نفسه أطروحة مرجعية تضفي على القراءة توازنا موضوعيا يتمثَّل في التأكيد على المستوى اللاهوتي الذي انبنى به النص واستصحاب الحضور الميتافيزيقي الأول. النزول والتنزيل بأسبابه ومسبباته يعكس هوية النص الديني. حيث قال الزركشي في "البرهان": قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: "نزلت هذه الآية في كذا" فإنَّه يُريد بذلك أن هذه الآية تتضمن هذا الحكم لأن هذا كان السبب في نزولها. ومن هنا، نستقرئ أنَّ القرآن يتخطى القوة البشرية لأسباب النسبية؛ فالإمكانات الإنسية تقوم على الاحتمال والافتراض والتأويل، إضافة لسببية التأويل والأيديولوجيا، ورغم ذلك جوابه اجتماعيا بالاستفهام والنقد والتشكيك في ماهيته المقدسة نتيجة كونه محورا ثقافيا للواقع، ولأنه كلام مدرك ومحسوس، فقد كان تحريضيا ودافعا إلى القول على القول. والجدير بالإشارة هنا أنَّ التمثل الوجودي للقرآن أراده المنهج أن يتجسَّد من خلال القناعة الذاتية القائمة على الفهم والتأويل، وهذا لا يتحقَّق إلا بالحوار والمناقشة والمراجعة العقائدية. الأسباب هي مراجع ونقاط استدلال وفهم تتوازى مع سياقات القرآن؛ فينزل في ثناياها بقصد التفهيم، وهذا يدل على أنَّ آفاق النص القرآني مُنفتحة على فعاليات العقل؛ فالقرآن من خلال أسباب النزول لم يأتِ لإلجام العقل وإلزامه بالأمر النازل، وإنما أحال عليه بغية تمحيص العلامات المقروءة والمرئية وقراءة العلل ومعلولاتها والأسباب ومسبباتها. ويوضح الخضراوي في مقاله فيما يتعلق بطبائع الفهم البشري؛ جعل ابن عباس لقراءة القرآن طبقية تتوزع لدى الأفراد وبحسبهم؛ انطلاقا من الفهم الجماهيري العام إلى الفهم النخبوي الخاص. ذلك أنَّ تفسير القرآن عنده على أربعة أوجه: تفسير لا يسع أحدا جهله (شعبي)، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها (معرفي)، وتفسير يعرفه الراسخون في العلم (نخبوي)، وتفسير لا يعلمه إلا الله (نهائي). ونجد هذه الأنماط تتمايز من حيث القدرة على الفهم وتأويل الحقيقة بالبرهان. والله أنزل القرآن من أجل الإنسان فإنه أجراه على تصاريف الاستقبال طبقا لأنماط الوعي التي يدركونها ومن خلالها المعاني والمعتقدات، بيد أن القرآن يقوم على الطبيعة اللامركزية؛ أي أنَّه لا يتكثف داخل حيز دلالي معين. وأخيرا، نجد الخضراوي يعرِّج على ذكر محور جديد أسماه هندسة النص القرآني: التنزيل والتلقي. حيث يشير إلى فكرة مفادها أنَّ أسباب النزول لا تكون محددة للنزول، ولا تكون تجارب الأشخاص النسبية موجَّهة للحقيقة الإلهية الموجودة قبل التجريب البشري؛ لذلك كانت مقاصد التنزيل تستهدف تنمية القدرات التحليلية.

ويختتم الخضراوي هذا المحور بجُملة من الدلالات التي تكشف هوية النص الديني ومساره الأزلي. الدلالة الأولى: الأسئلة والاستفهامات الذاتية، ويرتكز منهج الإبلاغ القرآني على السؤال كطريقة عملية في تقديم المعرفة، وهو ما يدل على أهمية الحوار الداخلي بين الكتاب الكريم والواقع. وفحوى الدلالة الثانية أنَّ القرآن لم يتشكل بناء على أسئلة الواقع الاجتماعي، وأن الكتاب يلتئم على قواعد ولوائح ذات منهج تعليمي يستأنس بالواقع من أجل إحداث التفهيم. بينما تتمثل الدلالة الثالثة في أنَّ القرآن لم ينزل مُنجما بل نزل جملة واحدة -وهذه العبارة للسيوطي- حيث تعاود ترتيب منهج أسباب النزول، وهذا أدى إلى وقوع تشابه على الناس، والتبس عليهم الأمر حتى قالوا إنَّ الواقع الاجتماعي هو من أنتج هذا الكتاب، والإشارة إلى هذه الإشكالية وجدت في السياق التاريخي، ويمكننا مجابهة هذا السؤال المنفلت الذي أنشأته ظروف اجتماعية مرجعية، ويخطئ حين يريد أن يجبر العقل على الاعتراف بهذا الفهم الذي أنتجته أيديولوجيا تثير لذاتها الاستفهام. وتنصُّ الدلالة الرابعة على أنَّ القرآن نزل مخالفا لمراداتهم، وهذا يعني مدى استقلالية الكتاب الكريم، وتحرره من بنية الواقع الثقافية والعملية. وتشير الدلالة الخامسة إلى أنَّ سورا نزلت بشكل كلي دفعة واحدة -وبمعزل عن الأسباب- وهذا نظام مُتحقَّق في نزول القرآن واستدلال عملي يلغي النقاش العقيم حول الجدلية الافتراضية بين النص الإلهي وبين الواقع الاجتماعي، وهذه الدلالة تتفق فيما تم ذكره في الأعلى حيث إنَّ القرآن يتخطى القدرة والبشرية وبعضا من سماته. ويتَّضح من كلَّ ما تم ذكره في الأعلى أنَّ أسبابَ النزول من جهة ما هي إلا صيغ وآليات بشرية تُفيد من حيث خصائصها التجريبية بأن تكون مناخا اجتهاديا لفهم الكلام المقدس بقدر الطاقة البشرية. وأسباب النزول بهذا المعنى ستمثل لحظة تفسير وتأويل ونقطة تلاقٍ بين إرادة الفهم لدى الإنسان وفهم الإرادة التي جاء القرآن يبلغها عن الله.

تعليق عبر الفيس بوك