مشاريع التسامح العربيَّة في القرن الماضي


سالم المشهور

بإطلالة سريعة على التاريخ البشري، سنرى أنَّ الحضارات الكبرى لا تقوم إلا على ضفاف التسامح؛ فمن غير وجود هامش من التسامح والقبول بالآخر لا يُمكن أن تستمر الحضارات وتتقدم.. وبعبارة أخرى، نستطيع القول: إنَّ التسامح هو روح الحضارات وسرُّ استمرارها، وبمقدار ما تترسَّخ قيم التسامح، سنرى المجتمعات تزدهر وتنمو.

كانتْ أوروبا قبل نهضتها الحديثة تعيش في ظلام دامس، وفي مسلسل من الحروب الدينية العبثية، التي أشعل فتيلها بعض رجال الدين والسياسة، والتي أدَّت لإهلاك الحرث والنسل، وإفساد الحياة العامة.

فالحروب الدينية بين الجماعات والممالك المسيحية في أوروبا رُبما تكون من أبرز صور العنف الديني التي شهدها التاريخ البشري في الألف سنة الماضية. وفي نهاية هذا الصراع، اعترفَ جميعُ الأطراف من الكاثوليك والبروتستانت والملوك بأنه لا يُمكن إزالة أحد الأحزاب من خارطة الوجود؛ فلا الكاثوليك بإمكانهم فرض عقائدهم على البروتستانت، وكذلك لا يستطيع البروتستانت فرض عقائدهم على الكاثوليك، لقد وصلوا إلى قناعة بأنَّه من الخطأ التوسل بالقوة لنشر العقائد الدينية وفرض الأفكار، لقد اقتنعوا قناعة كاملة بأنه "لا إكراه في الدين".

وفي مقاله "النقاش الأول في التسامح والتعصب في الفكر العربي الحديث"، تحدَّث الدكتور جابر عصفور عن مفهوم التسامح في تجربة رواد الفكر الإصلاحي العربي، واختار أن يُسلط الضوء على الحديث عن تجربة الأستاذ فرح أنطون التسامحية، واختار كذلك أن يُسلِّط الضوء على تجربة السيد محمد رشيد رضا، التي رأى فيها نقيض تجربة أنطون!

1- ولادة التسامح من رحم التعصب:

ما طبيعة العلاقة بين التسامح والتعصب؟ من الواضح جدًّا أنَّ التسامح نقيض التعصب، هذه علاقة واضحة جدًّا، لا نحتاج في اكتشافها إلى مزيد فلسفة، ولكن هناك علاقة أخرى أشار إليها الكاتب في بداية مقاله؛ حيث إنَّه يرى أنَّ العلاقة بين التسامح والتعصب هي علاقة "تولد في بُعد من أبعادها"، خاصة إذاانطلقنا من اعتماد الجدلية التاريخية في تفسير نشوء الظواهر، وعمق هذه الفكرة، وأكدها من خلال استعراض موجات التعصب والحروب الدينية التي كانت في أوروبا، والتي تولد عنها تيار التسامح الذي كان في البداية منحصراً في التسامح الديني، وتوسع فيما بعد ليشمل كل الجوانب السياسية والاجتماعية والفكرية والإبداعية، وكان هذا الانتقال بمثابة النصر الكبير للدعوات الليبرالية والأحلام الديمقراطية التي دشَّنت عصراً جديداً في أوروبا يقوم علىالتسامح الكامل والتعددية واحترام الاختلاف؛ بوصفه الأصلَ الطبيعيَّ للعلاقة بين كل المواطنين والمواطنات، وإلغاء كل أشكال التمييز العنصري والديني والعرقي والجنسي، وصاحب إثبات هذه الحقوق إثبات مبدأ تداول السلطة.

وقد حصل في تاريخنا -كما يرى د.جابر عصفور- بعضَ ما يُشبه التاريخ الأوروبي لانبثاق مفهوم التسامح والحركات المقترنة به؛ سواء في الازدواج الذي ينطوي على التداخل الذي يصل ويربط بين المرحلة الدينية والمرحلة المدنية للمفهوم.

وأنا أرى أنَّ هذه المقاربة غير صحيحة؛ فتشبيه التجربة العربية الإسلامية بالتجربة الغربية المسيحية، فيه الكثير من المبالغة؛ فمع كلِّ الأخطاء والتجاوزات التي حصلتْ في تاريخنا العربي والإسلامي، إلا أنَّ المشهدَ العام لم يتحوَّل ليُصبح خانقاً للحياة، وهذا بفضل وجود مجموعة من النصوص الدينية التي أتاحت هامشا كبيرا من التسامح والقبول بالآخر، ولو أخذنا على سبيل المثال فكرة "أهل الذمة" في التجربة العربية الإسلامية، سنرى أنَّها -مقارنة بما كان موجوداً في الغرب- تُمثل نقلة نوعية في التاريخ البشري القديم؛ لأنها تعطي لأصحاب الديانات الأخرى كامل الحرية في اعتقاداتهم وممارسة شعائرهم وطقوسهم وبناء دور العبادة. ومن جهة أخرى، تقوم الدولة الإسلامية بحمايتهم حماية كاملة، وهذا الأمر لم يحصل أبداً في الوسط المسيحي القديم؛ فعلى سبيل المثال: أقام الكاثوليك محاكم التفتيش في الأندلس، وفرضوا أفكارهم واضطهدوا كل من خالفهم من يهود ومسلمين، وجعلوا الأندلس كأن لم يكن بها أحد غيرهم، كل هذا العنف وأساليب الإكراه لم نعرفه في التجربة العربية الإسلامية.

نعم.. لا أدَّعي أنَّ التجربة العربية الإسلامية القديمة كانت تحمل كل ملامح وخصائص وقيم التسامح والمدنية والمواطنة بالمفهوم الحديث، فهي في الأخير بنت بيئتها، وتتأثر بالمستوى الثقافي السائد عالميا، ولكني أُعيد التأكيد على أنها تختلف عن تجربة الصراع والتعصب المسيحي في أوروبا.

2- مدرسة فرح أنطون التسامحية:

ويرى د. جابر عصفور أنَّ بدايات تبلور مفهوم التسامح في سياقاته الحديثة في الوسط العربي، بدأ مع كتابات فرح أنطون عن ابن رشد في مجلة "الجامعة"؛ حيث أشار إلى بعض أشكال التعصب الديني التي شهدها التاريخ الإسلامي؛ ومن ذلك: محنة ابن رشد.

وهنا أرى -والله أعلم- أنَّ الأستاذ فرح أنطون لم يكن موفقاً في تناوله للموضوع من خلال استعراض صور التعصب في التجربة الإسلامية؛ لأنَّ فعله هذا قد يُفهم من بعض البسطاء والمشايخ على أنه محاولة لاستهداف الإسلام، وهذا ما حصل فعلاً؛ فقد أدَّت كتابات أنطون إلى حدوث جدل كبير بينه وبين الأستاذ محمد عبده، الذي كان هو كذلك من رواد الإصلاح الديني والمدني في التجربة العربية في القرن الماضي، وكان مشروعه الإصلاحي يقوده وهو على عرش مشيخة الأزهر الشريف.

فدخول فرح أنطون في تفاصيل نقد التجربة الإسلامية شوَّش أطروحته في التسامح، وأثار حفيظة المشايخ، بما فيهم رواد التنوير والإصلاح، كالشيخ محمد عبده، ومن المعلوم أننا جميعاً لا نستطيع أن نصل إلى درجة من العصمة الكاملة عن الانحيازات للطائفة أو المذهب، خاصة إذا رأينا أن النقد الذي يقوده الآخر، قد يوظف لمآرب أخرى، أو قد يؤدي إلى تقويض مذاهبنا وهدمها بالكامل.

والمجال الذي نستطيع القول بأنَّ الأستاذ فرح أنطون نجح فيه هو المجال الأدبي؛ فقد استطاع نشر التسامح وإشاعته من خلال رموز الفن الأدبي وتمثيلات القص الروائي، وله في هذا المجال مجموعة روايات أهمها:"أورشليم الجديدة"، وكذلك رواية "الدين والعلم والمال".

وقد اقترن الدافع المباشر لكتابة هاتين الروايتين بسياقات الصراع الفكري، الذي شهده مطلع القرن الماضي، بينه وبين رواد الإصلاح الديني.

ومن مشاريع فرح أنطون المهمة في نشر التسامح: مجلته "الجامعة"، والتي كانتتُمثل واجهة حديثة لنشر قيم التعددية والتسامح، والدولة المدنية التي تبتني على عقد اجتماعي ونسق دستوري يجمع ما بين الديانات المختلفة والمعتقدات المتباينة من غير تمييز أو تفرقة.

وصَاحَب إصدار مجلة "الجامعة"، صدور مجلة "المنار" للسيد مُحمَّد رشيد رضا -أبرز تلاميذ الشيخ محمد عبده- وهي مجلة تنطلق من خلفية دينية إصلاحية، وتُعنى بقضايا التجديد، وتبتغي النهوض بالأمة الإسلامية والعرب قاطبة، مع انفتاح لا بأس به على المنجز الحضاري الغربي في الفكر، وخروج عن ربقة التقليد المذهبي.

ولكن للدكتور جابر عصفور نظرة أخرى عن رشيد رضا ومجلته "المنار"؛ فهو يرى أنَّ رشيد رضا يُمثل وجه التعصب الديني في تلك الحقبة، واعتمد في ذلك على موقفه من علي عبدالرازق وكتابه "الإسلام وأصول الحكم"، وكذلك موقفه من طه حسين عندما أصدر كتابه "في الشعر الجاهلي"، إضافة إلى كون رشيد رضا من دعاة إحياء الخلافة. بل إنَّ الدكتور جابر عصفور يرى أن مجلة "المنار" هي نقيض مجلة "الجامعة"، والتضاد بينهما كالتضاد بين التسامح والتعصُّب!

هذا رأي عصفور في رشيد رضا ومجلته "المنار"، وكأني به قد ظلم رشيد رضا كثيراً؛ فكون مساحة التسامح عند رشيد رضا لم تتحمل بعض أطروحات طه حسين وعلى عبدالرازق، هذا لا يعني أن نضعه ممثلاً للتعصُّب؛ فهذا من الظلم له، فهو رجل التحق بمدرسة الإصلاح على يد الإمام محمد عبده، وتشرَّب الكثير من قيم التسامح. فعلى سبيل المثال، سأنقل لكم رأي رشيد رضا في فرض الجزية على غير المسلمين، يقول:

"أهل الذمة إذا لم يشترطوا علينا المنعة أو شاركونا في الذب عن حريم الملك، لا يُطالبون بالجزية أصلاً"، وهذا الرأي لرشيد رضا، هو موقف تسامحي من الدرجة الأولى، يفتح المجال والباب للمواطنة الكاملة بين مختلف المواطنين بغض النظر عن أديانهم ومذاهبهم.

3- هل انتكست مشاريع التسامح العربية؟

بعد هذه الجولة السريعة في مشاريع التسامح العربية في القرن الماضي، أقول: أين وصل قطار التسامح عندنا؟هل استطاع المثقف العربي المعاصر أن يبني على المنجز الذي تم؛ سواء على مستوى النظرية أو التطبيق؟ هل دفعت الأنظمة العربية بمشاريع التسامح إلى الأمام؟ هل طور الفقهاء نظرياتهم الفقهية بما فيه الكفاية، لتكون أكثر قدرة على تقبل التعددية وقيم التسامح؟

كلُّ هذه الأسئلة قفزتْ إلى ذهني بعد انتهاء مراجعتي لمقال الدكتور جابر عصفور. ومن المؤلم أن أقول: لقد تراجع العرب كثيراً في مشاريع التسامح، وأسباب ذلك كثيرة جدًّا؛ أغلبها في نظري ينتمي إلى عالم السياسة، ليس هناك مجال لذكرها في هذا المقال، ولعلني أتناول هذه السؤال في مقال قادم بعون الله تعالى.

تعليق عبر الفيس بوك