أهميَّة مراجعة الخطاب الإسلامي


قيس الجهضمي

يتناول الكاتب تركي علي الربيعو في مقالته "الإسلام وضرورة الخروج من دائرة الفتنة: حظوظ المراجعة" مدى أثر مراجعة الخطاب في الإطار السياسي والاجتماعي للجماعات الإسلامية؛ بهدف تصحيح مسار الأفكار غير الموضوعية التي تَسِم الإسلام بالعنف والإرهاب، خصوصا تلك التي ظهرت بعد الحادي عشر من سبتمبر؛ حيث يُقرِّر السيد عبدالرحمن اليوسفي رئيس الوزراء المغربي بين عامي 1998 و2002م أنه لا توجد أي دوافع أو شروط موضوعية تبرر الإرهاب؛ لأنَّ من يُبيح إراقة دماء الآخرين هو كالذي يملك حقَّ مُحاسبة الإنسان على مُعتقداته وإيمانه. فالخروج من دائرة الفتنة يقتضي مراجعة ضرورية للتيارات السياسية المرتبطة بالجماعات الإسلامية، خاصة تلك التي اتكأت على "النظرية التكفيرية" -كما يصفها منتصر الزيات في كتابه "الجماعة الإسلامية: رؤية من الداخل"- إذ تقوم هذه النظرية على تكفير الحكم وأعوانه والمجتمع، ولا بد أيضا من مراجعة حقيقة دور الدين في السياسة ودور السياسة في استغلال الدين؛ لما قامت به بعض من قوى المعارضة في الإكثار من المدارس القرآنية والمعاهد لتظهر بصورة حامي الدين وقيمه، وهي في الحقيقة تسعى للحصول على الشرعية التي تحقق مكاسبها السياسية.

... إنَّ الانطباعَ والقياسَ الخاطئَ على النموذج الأوروبي، ودعم فكرة إهمال العامل الديني في الثورة والنهضة التي يقوم بها مُثقفون عرب، ثم أثر الهواجس الأيديولوجية والتطورات السياسية، بعد ذلك أدى جميعه إلى ظهور دعوة إعادة الاعتبار لهذا العامل في النهضة، ويعتقد كريم مروة أن "هناك ضرورة لإعادة صياغة موقفنا من المسألة الدينية ليس في جانبها الفلسفي البحت، وإنّما في وجهها الاجتماعي والسياسي".. مشيرا إلى أنَّ جُمهور المؤمنين هو أساسي في عملية التغيير، ويقرِّر الربيعو أن كل ما يخشى هو أن تتوه هذه المراجعات للظاهرة الدينية عن طريقها؛ وبذلك نفقد عملية الإصلاح المطلوبة.


الصراع على الإسلام

يتَّخذ الربيعو رضوان السيد نموذجا من الباحثين النشيطين خلال ربع قرن من الزمان؛ إذ ظل يحارب السيد على جبهتين: جبهة التأويلات الضيقة والأحكام الجاهزة والمسبقة التي جعلت مرجعيتها الثقافويات السائدة، وإلى جبهات حرب وصدام، فجبهة عالمية تقودها أمريكا في مواجهة الإرهاب وجبهة من كهوف أفغانستان تُعلن عن نفسها بأنها الجبهة الإسلامية العالمية لجهاد اليهود والصليبين، وهناك جبهة ثالثة عني بها السيد وهي جبهة ثقافة المراجعة التي تهدفُ لوقف التراجع الذي يسم ويلازم الحياة الثقافية والسياسية العربية، ويرى السيد أنَّ ما صنع وصقل هذه الجبهات هو ذلك الحدث الذي زلزل العالم الإسلامي في الحادي عشر من سبتمبر الذي يقول فيه بأنه: "ضربة كبيرة لنا أمام العالم وأمام أنفسنا".

إنَّ جلَّ ما يُقلق السيد هو اختطاف الإسلام من الأصولية الإسلامية ومن الغرب عموما، كما يُصرِّح في كتابه "الصراع على الإسلام"، ثم وجود مراكز بحثية تزود كل خبراء الشرق الأوسط بصور نمطية عن إسلام متخلف ودموي؛ مما ذهب بنا إلى مآلات ضيقة في توظيف الإسلام في الإصلاح الاجتماعي والسياسي، أضف إلى ذلك ما أصاب الوطن العربي والإسلامي من عقد النقص اتجاه الغرب كما يذهب إلى ذلك برنارد لويس، واستعارة الخطاب القومي العربي الذي دائما ما يكون في حالة دفاعية من الغرب في التعبير عن نفسه من الخطاب الأصولي الذي تفزعه العولمة والهويات القاتلة.


المراجعات الجديدة للخطاب الإسلامي

ويرى جهاد عودة وعمار علي حسن في كتابهما "عولمة الحركة الإسلامية الراديكالية: الحالة المصرية" -الصادر عن مركز الدراسات الإستراتيجية في الأهرام، بالقاهرة- حول الحركة الإسلامية الراديكالية بمصر، أنَّ التحقق من المعلومات التي ترشح عن طريق النشر والإعلام هو صعب جدًّا؛ فالمعلومات يغلب عليها التحيز لأنها صادرة عن فرقاء يريد كل منهم أن ينال من الآخر، وأن أغلب تلك الأنشطة تناولت المرجوح؛ فمن هنا يُلمِّح الكاتبان إلى غياب إرادة المعرفة وحلول إرادة الايديولوجيا وهو ما تتسم به هذه الأنشطة.

ويشير الربيعو إلى أنَّ أغلب الباحثين أدمنوا الرؤية الكليانية للإسلام السياسي التي تصفه بالتخلف والجمود التاريخي جرَّاء ما وسمته به الحركات الأصولية؛ فخلقت لنا هذه الرؤية تياريْن في الخطاب الفكري يمس الحركات الإسلامية؛ الأول: سعى إلى نفي الآخر عن طريق الإدانة الدائمة والأحكام المسبقة ويُمثله رفعت السعيد في مواقفه الأيديولوجية المتشنجة مع ما يسميه بـ"الإسلاموية"، وفؤاد زكريا الذي استفاض بالتهكم على الإسلاميين في كتابه "الصحوة الإسلامية في ميزان العقل"، وسعيد العشماوي في كتابه عن "الإسلام السياسي" الذي يرسم نظرة أيديولوجية للحركات الإسلامية. أما التيار الثاني الذي سعى إلى تنحية إرادة الأيديولوجيا لصالح إرادة المعرفة؛ فمثَّله في مصر مجموعة من الباحثين؛ مثل: ضياء رشوان وجهاد عودة وعمار حسن ونبيل الفتاح الذي على الرغم من تحيُّزه الأيديولوجي في الكتابة، إلا أنه سعى للانعتاق من أسر الخطاب التقليدي والأحكام الجاهزة.


نحو مراجعة عنيفة لفقه العنف الجهادي

ويرى رفعت سيد أحمد أنَّ مراجعة ما يُسمَّى بـ"فقه العنف الجهادي" تمثِّل تحولا جذريا يستطيع أن يرسم مسارا لحركية الإسلام السياسي، وكما يرى كثيرون أنَّ من شأن هذه المراجعة أن تقطع الإرهاب لصالح السياسة. أما منتصر الزيات، فيرى أنه من الصعب النظر إلى مستقبل هذه الجماعات بمعزل عن تداعيات أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وأن ثمة عداء أمريكيًّا مُعلنا لهذه الجماعات، ثم يتَّخذ من الجماعة الإسلامية -ثاني أكبر تنظيم بمصر- نموذجا عن الجماعات الأصولية التي قامت ببعض المراجعات في داخلها.. قائلا: إنَّ تغييرا ملحوظا طال خطاب هذه الجماعة التي اعتمدت على لغة العنف، وأنَّ ثمة مراجعة فكرية دقيقة طالت "فقه العنف الجهادي"، كما يظهر في الكتب الأربعة التي أنتجتها الجماعة (مبادرة إنهاء العنف، وحرمة الغلو في الدين وتكفير المسلمين، وتسليط الأضواء على ما وقع في الجهاد من أخطاء، والنصح والتبيين في تصحيح المحتسبين)؛ مما يوحي بأنَّ الجماعة تحوَّلت من جماعة دينية منغلقة إلى جماعة منفتحة تطرح رؤى إصلاحية وتتقبل الآخر، وتطالب بالحوار، مقارنة بأدبياتها القديمة التي دعت إلى رفض الآخر والتكفير.

وانتقدَ عمرو الشوبكي -بقوة- سطحية التفكير الذي تنتهجه الولايات المتحدة في فهمها لهذه الحركات. ويرى أنَّ انكسارَ ما يُسمِّيه بـ"الجهاد النصي" يُفسح المجال لاحتجاج إسلامي مشروع وسلمي، ويعول عليه في أهمية التفاعل بين الإسلام السياسي والمشاريع السياسية الأخرى، ثم دمج تيار الإسلام السياسي في المسيرة المدنية لبلدان العالم العربي، وهناك من النخب الدينية والثقافية ما يؤكد على أولوية الثقافي على السياسي في صراعنا مع الغرب، وأن النهضة لا تكون إلا بغياب الآخر؛ مما دفع الرئيس الإيراني مُحمَّد خاتمي أن يدعو في كتابه "بيم موج" إلى مراجعة معظم مقولاتنا التي تحول بيننا وبين الحوار مع الآخر؛ فكل محاولة تحتمي بالثقافويات السائدة، وتقول بالصراع الأزلي بين الإسلام والغرب؛ فالصراع هو صراع مصالح وليس صراعَ حضارات؛ وبالتالي فهو صراع سياسي من سنن الحياة، ويحدث داخل المجتمعات العربية وحدها بحسب التقسيم الثقافي للخطاب الإسلامي.

تعليق عبر الفيس بوك