سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟(15)

د. صالح الفهدي

الاستماعُ والإنصات

بعد أن استخدم مواطن سعودي خدمة مترو الأنفاقِ في إمارةِ دبي وضعَ مقترحاً بأهمية وضع ساعةٍ توضّح الوقتَ بين محطّةٍ وأُخرى ليسهُل على الراكبين معرفة الوقت المتبقي أمامهم. ألقى مقترحهُ في صندوق الاقتراحات ومضى وقد أدّى ما شعرَ بأنّه واجبٌ عليه. لكن الأمرَ لم ينتهِ عند هذا الفعلِ إذ لم يمضِ شهران حتى ورده خبرٌ - وقد نسي موضوع الاقتراح - بأنّ مقترحه قد وضعَ موضع التنفيذ وأنّه مدعوٌّ لحفل تدشين الخدمة التي اقترحها..!!

هذا مجرّد مثلٍ قد يكونُ له من الحظِّ ما لم يكن لغيرهِ من المقترحاتِ أو الشكاوى ولكنّ العبرةَ هنا في أنّ هناكَ من يلتقط القصاصات العفوية المكتوبة على عُجالةٍ ويوليها نصيباً من الاهتمامِ والعناية وهذا أمرٌ إيجابي في حدِّ ذاته.

ليست الإشكالية في وضعِ صناديق الشكاوى والمقترحات على أبوابِ الوزارات، فكم تنتشرُ صناديق الشكاوي والمقترحات، لكن لا يُعلم مصير ما يتناثر في جوفها من مقترحات ذات نفع وجدوى من أجل تحسين الخدمةِ وتقوية العلاقة مع الطرف الآخر: المراجع أوالمستهلك.

إنّ إشكالية بعض المؤسسات حكومية أو خاصّة هي أنّها لا تستمعُ لما يقوله الطرف الذي يتلقّى الخدمة، فإن هي استمعت لا تنصت وإن أنصتت لا تفعل شيئاً..! وفي المقابل تفرض ما تراه هي من وجهة نظرها أجدر وأنسب..! في حين أنّ صناديق الاقتراحات والشكاوي تشكّل مورداً ثميناً للمعلومة التي تأتي مجاناً دون مقابل ودون وسيط من متلقّي الخدمة ذاته. ولا شكّ أنّ عدم الإصغاء للطرف الآخر الذي تقدّمُ إليه الخدمة يعدُّ مثلبةً في الإدارةِ، ونقصاً في إدراك ما يتوجّب الأخذ به ولهذا فلا غرابةَ أن تحصل من النتائج غير المحمودة إزاء عدم الإنصات والإستماع. يحكي أحد الإيطاليين ويُدعى Ernesto Sirolli في حديثه إلى TED قائلاً: "قررنا نحن الإيطاليون أن نعلّم أهل زامبيا كيفية إنتاج المحاصيل الزراعية، وصلنا هناك مُحمَّلين ببذور إيطالية إلى جنوب زامبيا، إلى ذلك الوادي الرائع المؤدي إلى نهر زامبيزي، وعلّمنا السكان المحليين كيفية زراعة الطماطم الإيطالية والكوسة وغيرها، وبالطبع لم يكن للسكان المحليين أدنى اهتمام بذلك لذلك وجب علينا أن ندفع لهم أجوراً حتى يأتوا، ويعملوا، وفعلاً كانوا يأتون. وكنّا نستغرب لأمر السكان المحليين، الذين لا يزرعون في مثل هذا الوادي الخصب. لكن بدل أن نسألهم عن السبب الكامن وراء ذلك، قلنا لهم ببساطة "اشكروا الله على مجيئنا في الوقت المناسب تماماً لإنقاذ الشعب الزامبي من الموت جوعا"، وبالطبع نمت محاصيل الطماطم، وكان الأمر مذهلاً حيث كنّا نقول للزامبيين: "أنظروا ما أسهل الفلاحة !". فلمَّا نضجت الطماطم واحمرّ لونها خرج من النهر قرابة مئتي فرس بحر، دون سابق إنذار، والتهمت كل شيء..! فقلنا للزامبيين، "يا إلهي، أفراس النهر!" حينها أجاب الزامبيون، "نعم، ولهذا السبب لاتوجد زراعة في هذه المنطقة." قلنا لهم: ولكن لم لم تخبرونا من قبل؟" فقالوا: لأنّكم لم تسألوننا عن ذلك."

لهذا استخلص درسه من هذا الموقف وهو الاستماعُ والإصغاءُ للآخرين وليس الفرضُ والإملاءُ عليهم فيما هو أفضلُ لهم..! محذراً من الاجتماعات العامة التي تهدفُ إلى الاستماع إلى آراء الآخرين لسببٍ وجيهٍ في رأيه وهو أن "أذكى الأشخاص في مجتمعك لا تعرفهم، لأنّهم لا يحضرون اجتماعاتك العامة"..!

إنّ الكاتبَ الأمينَ ليكتب دون كللٍ أو ملل ولا يتوقف حتى حين تأتيه الرسائل: "لا حياة لمن تنادي" وما على شاكلتها، لأنّه يؤمنُ بأن أصعبَ المهام تغيير العقول، ليس بتقديم مفاهيم ومبادئ جديدة ذات إيجابية فاعلة وإنّما بمحق المسلّمات القديمة وهدمها من أجل إعادة البناء..! فالنبي عليه أفضل الصلاة والسلام حين أرادَ تغيير اسم رجلٍ اسمه "حزَن" وهو الصعبُ الوعرُ، إلى "سهل" ردّ عليه: لن أغيّر اسماً سمّانيه أبي..!!

قلتُ لأحد المسؤولين المتقاعدين: إنّك تكادُ أن تكون الوحيد الذي تواصلتَ معي أثناء خدمتك بعد أن قرأتَ مقالةً لي عن حوادث المرور قبل عقدٍ من الزمان، فطلبت مني دراسةً معمّقة لتخفيف الحوادث، وكان ذلك ثم استمر التعاون إلى أعمالٍ تثقيفية، وتوعوية لهذه القضيّة..!

وذات مرّةٍ قال لي وزيرٌ سابق: لقد استفدتُ من أحد مقالاتك التي تدعو فيها إلى لقاءِ المسؤول الأوّل بأصغر الموظفين فخصّصتُ كل ثلاثاءٍ لالتقي بموظف صغيرٍ من دوائرَ إقليمية متفرّقة..!

قد تمتلئ الصحفُ بالأفكار، وقد توفّرُ صناديق الاقتراحات على أبوابِ كل مؤسسة، وتفتحُ كراسات الملاحظات في كلّ شركة، بل وتُنشأُ دوائرَ للمراجعينَ في كل وزارة، ولكن السؤال: هل من يقرأ؟ هل من يستدعِ ويستمع وينصت؟ بل وهل من يطبِّق؟ أم أنّها مجرّدَ "تنفيسات"..! لقد قرأتُ ملاحظاتٍ في كراسات وضعتها شركات اتصالاتٍ وفيها الكثيرُ من الملاحظات القيّمة.. ولكن ما الذي يُفعل بهذه الأفكار القيّمة، والملاحظات الثمينة بعد امتلاءِ الكراسة..؟! (كأنّما اسمعُ جوابَ القارئ..!)

إنّ الإشكالية المزمنة التي لا تريدُ الكثير من المؤسسات تغييرها تقع في نظرتها السقيمة في أن الأجنبي هو من يحملُ العصا السحرية للمشكلات التي تواجهها لهذا فإنّها تهدرُ الأموال الطائلة للخبير الأجنبي الذي يأتِ بحلولٍ جاهزةٍ يُريد تطبيقها دون اعتبارٍ لخصوصيةِ المجتمعِ، وأسلوب معيشته، وعاداته وتقاليده..! لهذا حين سُأل خبيرٌ وطني: ماذا لو لم تلاقِ أفكاركَ قبولاً من قبل المؤسسات المحليّة: قال أخلع الدشداشة وألبسُ البدلة الأجنبية..!.

أمّا حينَما تسعى أيّة مؤسسة محلية إلى استشارة فإنها تولّى وجهها شطر الغربِ لأنه يمتلكُ من الخبرةِ ما لا يمتلكه أهلُ البلدِ أو حتى أهلُ الشرق..! في إحدى الدول الخليجية قلتُ لـ"خبيرٍ" بريطاني مكلّفٌ بمشروع ثقافي: إنّ عليكَ قبل أن تقدّم أي مقترحٍ أن تفهم ثقافة المجتمع فهماً عميقاً..!

وإذا ما أرادت إحدى الوزارات أو الهيئات إقامة ندوة أو مؤتمر حولَ مواضيع تتعلّق بالمجتمع فقلّما يشاركُ في هذه الندوات أو المؤتمرات من أهل البلدِ وهم الأخبر به، والأعلم..! ولقد رأيتُ في بعض الندوات من لا يعرف بديهيّاتٍ وأبجدياتٍ عن ثقافة البلدِ وقد جاءَ ليقدم الحلول السحرية..!

وإذا ما أرادت مؤسسة أن تعيدَ تغيير هيكلتها التنظيمية والإدارية فإن "الخبيرَ الأجنبي" على الأبواب، أمّا الخبير المحلّي -في نظرها- فهو لا يزالُ غير قادرٍ على صياغة الأفكارِ الجديرة بالاعتبار..! أحدُ هؤلاءِ الخبراءِ الأجانب "قرز وهاس" ثم ولّى مُدْبراً ولم يعقِّب..! لكنه قبض حقوقه المالية غير منقوصة تاركاً وراءه دماراً هائلاً يحتاجُ إلى إعادةِ "إعمار"..!

وإذا ما أرادت جهة ما أن تنجزَ عملاً فإنّها تعرفُ أين تتجه، بل هي على استعداد أن تدفعَ المبالغ الباهضة لعملٍ هزيلٍ في النهاية .. حتى صار البعضُ يتعاقدُ بالباطنِ مع منتجين محليين ليظهر العمل على أنّه صنيعةٌ خارجية..!!

ليس عيباً الاستماع والإنصات إلى الأجنبي بل هي ميّزة عظيمة إن كان هذا الآخر سيقدمُ ما هو أفضل ولكن ذلك لا يمكن أن يكون صحيحاً حينما يوجدُ في الوطن من يستحق الاستماع والإنصات له قبل غيره ..!

إن المسؤول الذي يتحدّثُ أكثر مما يستمع لن يضيفَ إلى فكرهِ شيئاً لا يعلمه..! ذات مرّة اتصلَ بي مسؤول لطلبِ المشورة فإذا به هو المتحدث وأنا المستمع..!

على غرار ذلك فإنّ المؤسسات (أكانت وزارات أو هيئات أو شركات) لن تتطوّر ولن تستمر ما لم تُلقِ اهتماماً للاستماع والإنصات للأطراف المستفيدةِ من خدماتها، فجلسات الشورى هي للإستماعِ والإنصات من قبل المسؤولين أكثر مما هي للجدل..! يقول ستيفن كوفي:" أغلب الناس لا تستمع لتفهم، بل تستمع لترد"..!

أما تحصّنُ أيّة وزارة أو هيئة أو مؤسسة بالمفاهيم التي تعتقدها في نفسها ببلوغ مراتب الجودة العالية، والخدمة الممتازة فذلك دليلٌ على الرضا النفسي الذي تكون نتائجه محطِّمة ..! لهذا يسعى بعض المسؤولين "الحكيمين" إلى "بيوت خبرة" لتقييم السياسة الداخلية للمؤسسة أكانت وزارة أو غيرها من أجل التقويم والتوجّه الصحيح.

خلاصة القول: أن الاستماع والإنصات طريقةٌ عظيمة للإصلاح، لا يمكن الإستغناء عنها من قِبل حكومةٍ أو مجتمع أو أفراد، فأعظم ما يقع من أخطاء سببه عدم الاستماع والإنصات للآخر، وأكثر القرارات هزالة هي التي تُملي على الآخر فعله دون قناعة. تقول هيلين كيلر:"هناك من يسمع ولا ينصت، ينظر ولا يرى، يشعر ولا يحس، فعلمت أن العمى عمى القلب وليس البصر".

ما ولِّي الإستماع والإنصات من أهمية إلاّ وآتى نتائج محمودة، لأنه طريقُ التنفيذ السليم، والتطبيق الواقعي، وما أُعرضَ عنهما إلا كانت النتائج وخيمة على أن الاستماع والإنصات لأهل الدارِ هو أقربُ وأجدى نفعاً قبل الآخرين. ولأجلِ ذلك فإن التنشئة والتعليم يجب أن يضعا الاستماع والإنصات موضع التركيزِ منذ الصغر، فمن نشأ عليهما حازَ الحكمة، ومن أدبرَ عنهما فقَدَ أهم عاملين لتطوير الذات، وتنمية الإدراك.

تعليق عبر الفيس بوك