عُمان و"التنافسيَّة"

حاتم الطائي

وتيرةُ التَّراجُع المتسارِع فِي تنافسيَّة السَّلطنة بناءً على تقريرِ التنافسيَّة العَالمِي، الذي يَصْدُر عن المنتدى الاقتصاديِّ العالميِّ في دافوس بسويسرا، أمرٌ يتوجَّب الوقوف عِنْده ومُعَالجة أسبابه، خاصَّة وأنَّ التنافسيَّة تحدِّد مَدَى صِحَّة البيئة الاستثماريَّة، وقابليَّتها، وقدرتها على جَذْب الاستثمارات.

ونظرةٌ على ترتيب السَّلطنة في تقريرِ التنافسيَّة تَشِي بأنَّ ثمَّة خللاً ما، ليس في الموارد وإنما في كيفيَّة إدارتها.. فلقد سبَّب تقريرُ هذا العام إحباطًا للمعنيِّين في الوَسَط الاقتصاديِّ وللمتابعين، خاصة وأنَّه التراجعُ الرَّابع على التَّوالي على مَدَى السَّنوات القليلة الفائتة.

فالسَّلطنة تدرَّجتْ هُبوطاً من المركز الـ32 في العام 2012، إلى المركز الـ33 في العام الذي يَلِيْه، ومِن ثمَّ تراجعتْ إلى المركز الـ46 في العام الماضي، وُصُوْلا إلى المركز الـ62 في تقرير التنافسيَّة لهذا العام.. وهذا يُثيرُ العديدَ مِن التَّساؤلات، ويَضَع علاماتِ استفهامٍ تتطلَّب وقفةً جادَّة لاستكناهِ الأسباب، واستشرافِ التَّداعيات المحْتَملة على بِيْئة الأعمال في السَّلطنة؛ وبالتَّالي العمل الجَاد عَلى تحسينِ التَّنافسيَّة.

وقَبْل الاسترسالِ في الأسباب واقتراحِ الحُلول، يَنْبغِي ابتداءً التطرُّق بشيء من التَّفصيل إلى فَحْوَى العِبَارة التي سطَّرْتُها في صَدْر هذا المقال، وهي أنَّنا لا نُعاني نقصًا في الموارد، وإنَّما نُواجه إشكاليَّة في كَيْفِيَّة إدارتها؛ حيثُ لا يختلفُ اثنان على أنَّ تكامليَّة البنية الأساسيَّة، والمقوِّمات الطبيعيَّة الجاذبة التي تتوافر عليها السلطنة، والموقع الإستراتيجي المتميز، والنظام السياسي المستقر، واتباع سياسات اقتصاد السوق الحر التي تتلاءم ورغبات المستثمرين، كلها عوامل تَجْعَل من عُمان مَصْدرَ جذب استثماري حقيقي، وترشِّحها إلى أن تكون بيئة صحيَّة للأعمال، وتدعم تنافسيَّتها. إلا أنَّ التنافسيَّة لا تعتمدُ فقط على هذه العوامل، بل تعتمدُ كَذَلك على عددٍ مِنَ المعايير؛ أبرزها: الإطار المؤسَّسي ومُعزِّزات الكفاءةِ والابتكارِ والتطويرِ، وهي ثلاثةُ أعْمِدة رئيسيَّة يستندُ إلَيْها البناءُ الهيكليُّ لتقريرِ التنافسيَّة؛ تتفرَّعُ منها بنودٌ أخرى تدُوْر حَوْل الكفاءة والإنتاجيَّة.

وبنظرةٍ فاحِصَةٍ على التَّقرير، تتبدَّى بَعْضُ نقاطِ الضَّعف التي لابُدَّ أنْ تُؤخَذ بالحُسْبَان والتعامُل معها بجديَّة؛ حيث يُلاحظ أنَّ أهم نقاط الضَّعف التي تُؤثر في تنافسيَّة السَّلطنة تتمَحْوَر في انخفاضِ جودةِ التَّعليم وما يستتبعه من تدنِّي مستوى مُخرجاته وعدم مُوَاءمِتَها لمتطلَّبات سوق العمل. ومن المؤسِفِ أنَّ أسْوَأ نِسَب التَّراجع رُصِدَتْ في بَنْد التَّعليم العَالِي والتَّدرِيْب؛ حيثُ حلَّت السَّلطنة في المركزِ الـ88 من بَيْن 144 دولة، يَحْدُث هذا على الرَّغم من حَجْم الاستثمارات الضَّخمة التي تُضخ في هذا المجال؛ الأمر الذي يتطلَّب مُرَاجَعة شاملة لإستراتيجيَّة التعليم والتعلم؛ باعتبار أنَّ المستهدفِين من العمليَّة التعليميَّة ومُخرجاتها -سواءً في مراحلها الأساسيَّة أو العليا- هي الفئة التي تقُوْم عليها أساسيَّات التقدُّم والتنمية.

ولم تقتصرُ نقاط الضَّعف على انخفاضِ جَوْدَة التعليم، بل بَرَزتْ إشكاليَّة تعقيد وبُطء الإجراءات الحكوميَّة والبيروقراطيَّة، وتنامي مُؤشرات الإنفاق الحكومي، وضَعْف الإنتاجيَّة؛ لتؤثِّر على تطوُّر بيئة الأعمال، مُسبِّبة تراجعَ السلطنة إلى المركز 71 في هذا المؤشر بتقرير التنافسيَّة.

وثمَّة نُقطة ضَعْف أخرى تُعيق التدرُّج الإيجابيِّ للسلطنة على مُؤشر التنافسيَّة؛ تتمثَّل فِي تزايد الفَسَاد، والهَدْر في الإنفاق الحكوميِّ، وتدنِّي مُستوى الابتكار والتطوير، وفي هذا الإطار كان الأسوأ في التقرير (كذلك) حُصول السَّلطنة على المركز الـ103 بين 144 دولة فيما يخصُّ مجالات الابتكار.

... إنَّ اعتمادَ تقرير التنافسيَّة في منهجيَّته على استطلاع آراء وانطباعات رجال الأعمال والمستثمرين -والتي تشكل 72% من مجمل التقييمات- والبيانات والإحصاءات -التي تمثِّل 28%- يُبرهن بالأرقام حَجْم التراجعات؛ حيث جاء ترتيبُ السَّلطنة في مِحْوَر المتطلبات الأساسيَّة في المركز 29 بمجموع درجات 5.3 من 7، بينما كان أفضل تقييم للسلطنة على بَنْد بيئة الأعمال مُتناهية الصغر، والذي جاءت فيه في المركز 19 وحصلت على 6 من 7. وفي بند الإطار المؤسسي حَصَلت على 4.7 درجات من 7 في المركز 31، فيما حَصَلت في بند البنيَّة الأساسيَّة على 4.8 من 7 وحلت في المركز 36؛ ويُعتبر ذلك من نقاط القوَّة في الاقتصاد العُماني، فيما حلَّت في المركز 66 في بند التعليم الأساسي والصحة، بينما في مِحْوَر مُعزِّزات الكفاءة حصلت على 4.1 وفي المركز 63.

هذا الضَّعفُ الظَّاهر في العديد من مُؤشرات الأداء يُحتِّم البحثَ عن أسباب التراجع، رغم ضَخَامة الإنفاق الحكومي على مُعْظَم هذه البنود، ومُحَاسَبة قاسية للذات بغيَّة التجاوز والتقدُّم مستقبلا.

... إنَّ مُنَاقشة التقريرِ بشكل مُوسَّع من قبل الجهات المختصَّة، ووضع خطط لوقف نزيف التراجع، بل واستعادة عُمان مكانتها الحقيقيَّة ضمن السباق الحضاري لدول العالم، بات مطلبا مُلحًّا، يتطلَّب التعاطي معه التسلُّحَ بالشفافية وسِعَة الصَّدر والعَمَل المخلص، ووَضْع وسائل وطرق العلاج الناجعة، وإعلانها لمختلف الشركاء في فريق التنمية العماني الموحَّد.

وهنا.. وجب التنبيه إلى أنَّه لا ينبغي إلقاء اللوم على تراجع أسعار النفط (باعتباره بات "شماعة" للعديد من الإخفاقات في بعض الجوانب)؛ خصوصا وأنَّنا حتى هذه اللحظة لم نفعِّل آليَّات الترشيد الجاد، بل الأمر مُقتَصِر على خفض الإنفاق في بعض المشاريع بدرجة غير ملموسة.

إنَّ الأرقام والبيانات التي أبرزها تقرير التنافسيَّة العالميَّة، تعدُّ بمثابة جرس إنذار حقيقي، لتبنِّي سياسات واقعيَّة، وأساليب إداريَّة ترتقي إلى المستوى الذي يُعزِّز مكانة السَّلطنة كبيئة جاذبة للاستثمار، والعمل على تلافي مكامن الخلل وإصلاح نقاط الضعف؛ من خلال صياغة الخطط وابتكار معايير جديدة لقياس الأداء، والعملُ منذ الآن على أنْ يأتِي تقريرُ التنافسيَّة المقبل وهو يحمل في طيَّاته ارتقاءَ عُمان درجات عديدة على مُؤشر التنافسيَّة.

تعليق عبر الفيس بوك