مرحلة جديدة في الأزمة السوريَّة

فهمي الكتوت

بينما كانت الطائرات العسكرية الروسية تواصل تعزيزاتها في الأراضي السورية، كان الرئيس بوتين يمهد لقرار روسي وشيك، بسلسلة لقاءات أجراها مع نخبة من قادة العالم، اختتمت بخطاب في الأمم المتحدة ولقاء مع الرئيس الأمريكي أوباما، كان واضحا أن روسيا تقف على خطوة واحدة من إعلان المشاركة في الحرب على الإرهاب، بعد فشل التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في تحقيق نتائج ملموسة رغم مرور أكثر من عام على بدء الحملة، ليس هذا فحسب، بل تمدَّد تنظيم "داعش" واحتلَّ الأنبار في العراق وتدمُر في سوريا خلال العام الحالي.

كان الانتظار الروسي أكثر من عام له ما يبرره وفق الحسابات الروسية الخاصة؛ لسببين، الأول: كشف التواطؤ الأمريكي في قصة الحرب على الإرهاب. والثاني: انتهاء إيران من المفاوضات الأممية حول المفاعل النووي، لكي تتحرَّر من الضغوط الغربية التي قد تعطل الاتفاق، خاصة وأنها الحليف الرئيسي مع روسيا في الحملة على الإرهاب.

روسيا حسمت موقفها وبدأت حملتها العسكرية مستندة لرؤية سياسية واضحة، انطلقت من إقامة أوسع تحالف لمواجهة الحركات الظلامية التي تسيطر على مناطق شاسعة من الأراضي السورية والعراقية، في المقابل ظهرت الدبلوماسية الغربية، مترددة بسبب تذيلها للموقف الأمريكي. في حين أن الدبلوماسية الأمريكية أطلقت التصريحات المتناقضة، التي تعكس حالة الارتباك الناجمة عن وجود القوات الروسية في المنطقة، وما تسببه طائرات الاستطلاع الروسية من فضيحة سياسية للموقف الأمريكي المتواطئ بعدم تصديه للمسلحين الذين يتحركون على أرض مكشوفة منذ تشكيل التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في أغسطس عام 2014.

أمَّا الدوافع الحقيقية وراء الموقف الروسي، وحتى لا يخلط البعض بين موقف روسيا الحالي وبين الموقف السوفيتي إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وفي مرحلة إعادة بناء الجيش المصري بعد حرب يونيو 1967 في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. فقد جاء التحرك الروسي الواسع سياسيا وعسكريا للأسباب التالية:

1- مع دخول الأزمة السورية مرحلة خطيرة، تتمثل بهيمنة الأجنحة الأكثر تطرفا في المعارضة المسلحة من تفريخات القاعدة (داعش، النصرة، أحرار الشام) بعد استنزاف وتآكل ما يسمى بالمعارضة المعتدلة، سواء من الجيش الحر أو من المجموعات التي دربتها القوات الأمريكية في الجبهتين، الشمالية على الحدود التركية، والجنوبية على الحدود الأردنية، والتي استُنزفت من خلال المعارك مع الجيش السوري، وفي الصراعات الداخلية، وتم تصفيتها من قبل داعش والنصرة، وإلحاق ما تبقى منها بإحدى المنظمتين؛ الأمر الذي أصبح يشكل خطرا حقيقيا على العاصمة السورية، من زحف العناصر المتطرفة باتجاه دمشق. وانهيار مؤسسات الدولة، وخلق حالة فراغ سياسي. وقد عبر عن ذلك صراحة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف حين قال: لا نسمح بتفكك سوريا؛ فالبديل "داعش".

2- تخشى روسيا من تداعيات هذا السيناريو، وآثاره على الدولة الروسية نفسها، من خطر تمدد الإرهاب وانتقاله إلى الأراضي الروسية، خاصة بعدما بايعت الحركات الإسلامية في القوقاز "الشيشان وداغستان وانغوشيا" أبو بكر البغدادي، وأصبحت جزءا من تنظيم الدولة. مع وجود حوالي ألفي مسلح روسي يقاتلون مع العناصر المتطرفة في كل من سوريا والعراق، إضافة إلى العناصر المتطرفة التي قدمت من الجمهوريات الإسلامية التي كانت ضمن الاتحاد السوفيتي سابقا.

3- هناك مصالح روسية إستراتيجية سياسية واقتصادية في المنطقة عامة، وفي سوريا على وجه الخصوص، سوريا كانت ولا تزال حليفا أساسيا لروسيا، امتداد للتحالف مع الاتحاد السوفيتي، ولا ترغب روسيا بأن تصل الأزمة السورية إلى نهايات الأزمة الليبية، بعد أربع سنوات من القتال واستنزاف الطاقات البشرية والمالية والاقتصادية السورية، مما يُفقدها تواجدها في المنطقة، ويعرض مصالحها الاقتصادية للخطر.

أما تقاعس الموقف الأمريكي، فيعكس بوضوح السياسة العدوانية الإمبريالية للمنطقة العربية، وبالتدقيق في الموقف الأمريكي يُكشف أن المستهدف ليس الأسد بحد ذاته كما يدَّعي أوباما، فمن المعروف أن سياسة البيت الأبيض براجماتية بامتياز، وهي مستعدة للتعامل مع الأسد خاصة بعد ما استنزفت سوريا؛ فالجهة المستهدفة الدولة السورية. إنَّ اشتراط رحيل الأسد وعدم مساهمة أمريكا بتوجيه ضربات حقيقية لـ"داعش"، بهدف إطالة مدة الحرب، يكشف بوضوح أن الأمريكيين مرتاحون لحرب الاستنزاف التي استمرت أربع سنوات، وهي تذكرنا بالحرب العراقية-الإيرانية بتحريض أمريكي التي استنزفت طاقات وإمكانيات الدولتين.

أما الموقف الأوروبي الجديد والمتأرجح، فهو ينطلق من خطر استمرار الهجرة السورية لدول الاتحاد الأوروبي التي أصبحت تشكل عبئا على الدول الأوروبية التي تعاني من أزمات اقتصادية حادة، كما تخشى تسلل عناصر متشددة من قبل المهاجرين تشكل خلايا إرهابية في أوروبا، إلا أنَّ الموقف الأوروبي إذا ما استثنينا ألمانيا يعاني من حالة تردد ناجمة عن تذيله للموقف الأمريكي.

فبعد أن عبَّر وزير الخارجية الأمريكي جون كيري عن استعداد بلاده للتفاوض مع سوريا لإنهاء الأزمة، تبعها تصريحات الرئيس التركي أردوغان في موسكو بنفس السياق، متضمنة الموافقة على مشاركة الأسد في الحكم ضمن احدى المراحل الانتقالية لحل الأزمة السورية. بعد فشل السياسات التركية بإقامة منطقة عازلة في شمال سوريا. كما دعا وزير الخارجية الألماني إلى تشكيل حكومة انتقالية في سوريا للخروج من المأزق الحالي. وطالب رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون بإجراء محادثات حول مرحلة انتقالية من غير الضروري أن يتنحى فيها بشار الأسد فورا عن السلطة، وحتى الخارجية الفرنسية الأكثر تشددا، أعلن وزيرها انه لا يشترط رحيل الأسد وتحدث عن حكومة انتقالية.

لم تصمد هذه التصريحات طويلا. فقد تبدلت المواقف بشكل دراماتيكي لمعظم الدّول الأوروبية، بعد تراجع واشنطن عن تصريحات كيري ببيان صادر عن الخارجية الأمريكية. كما اوضح الرئيس الأمريكي عن ذلك في خطابه امام الأمم المتحدة.

وبعد كل ذلك، السؤال الذي يطرح نفسه: هل تدخل التحالف الجديد سيطفئ النيران المستعرة في المنطقة، أم يفتح الباب أمام مواجهة عالمية مباشرة أو غير مباشرة في الشرق الأوسط؟ من المبكر التنبؤ وإن كانت ردود الأفعال الأولية غير مطمئنة. قادم الأيام يحمل الإجابة.

تعليق عبر الفيس بوك