وماذا بعد العيد؟

هلال الزَّيدي

مع تغيُّر الحياة في تفاصيلها، وانكماش القلوب على نفسها، تغيَّر طعم اللوز والجوز الذي كان يصفه ذلك البائع أسفل "مشهد العيد"، فأصبح طعمه غير مُستساغ كأنه علقم.. حتى "القشاط" لم يعُد كما كان عندما كنا نتسابق للظفر بقطعة واحدة بعد حصيلة "العيدية" القليلة في عددها والكثيرة في معانيها؛ فمع ذلك الزِّحام كانت الفرحة هي القاسم المشترك الذي يُؤلف تلك القلوب، ذلك اليوم كان مُميَّزاً لأنه هو الذي يمنحنا الخروج من اللاشيء إلى شيء نلمسه في كل شاردة وواردة.. ثياب جديدة تُلبس لمرة واحدة وتُعاد إلى "السحارة" لتُحفظ لمناسبات أخرى وإن كانت قليلة؛ لأنَّ وتيرة الحياة ورتمها يمشي على قدر عقولنا التي تتآلف على حياة بسيطة أحداثها جميلة لا تشوبها شوائب عصر السرعة.. فكم كان ذلك التجمُّع يُشكل فرحة عارمة تمتدُّ لنتذكرها ونربطها بحاضر سريع لا نستطيع أن نحتفي فيه باللحظة؛ لأن القلوب انكفأت على نفسها وضاقت سعتها، ليكون العيد يوما عاديا كباقي الأيام.. نعم إنها الحياة التي غيَّرت طعم "السبال" أو هم البشر الذين عاصروا الحياة بتوسعها وامتدادها في كل شيء، وبعيد عن أي شيء يُذكر أو يُحسب في خانة الذكريات.

لم تعرف تلك الفتيات يومها نقوشًا وزخارف تلون بها أيدهن؛ لأنَّ خضاب الحناء كان شفافا يُغطي كفوف اليد وقيعان الأرجل.. فكم ترى الفتاة نفسها إنها ملكت الدنيا بما فيها، حتى تلك الأكياس التي تُلف بها الأيادي والأرجل كانت تشكل شعوراً آخر، يلف براءة تتضاحك كلما دغدغتها برودة الحناء المخلوط بالليمون اليابس.. كنا ننتظر بزوغ الفجر لنرتدى ذلك البياض الذي نزهو به، وكم من طفولة لم تتذوق تلك البساطة إلا أنها كانت حاضرة بين عطاء وهبات المقتدرين؛ فعلى عتبة الدار كان يجلس يتفحص الوجوه التي تمر عليه فالكحل يسدل جمال الحياة على العينين ورائحة زيت الشعر تفوح بين جنبات المكان وخطوات الأطفال وهم يطفوفون بين الأزقة والحواري تُشكل موسيقى ذلك اليوم.. أما اليوم فلا أتذكر منه شيء.

هناك كان يجلس تحت "السدرة" في وادٍ عريض والبراءة تلتف من حوله؛ فسيارته "البيكاب" لا أزال أتذكرها فهي مستودع لألعاب ومأكولات العيد.. "ومسدس الطلقات الكاذبة" لا يُتاح إلا لمن ظفر بعيدية كثيرة، لذلك كنا نميل إلى شراء المأكولات التي تتاح في العيد فقط.. نعم أتذكر "سطل كبير" يملؤه بمشروبات "الشاني والكراش والسفن آب"، ورغم أنها لم تكن باردة كون تلك القرية لم تعرف بعد "الكهرباء" كانت لذيذة وطعمها خيالي يستهوي الكبير قبل الصغير.. هي حياة لا أريد خوض غمارها، لكنها تزاحمني مع اقتراب العيد الذي لم يعد عيداً وإنما يوم عادي.

كم من أسرة لا تجتمع لأن مقودها يعيش في غربة أخرى! وكم من أسرة تحطمت على أبواب الحداثة فتفرقت! وكم من أفراد أجبرتهم الظروف ليتذوقوا طعم العيد في مكان بعيد! فهناك حيث لا وجود للعيد يجلسون بين أنهار وروافد الحياة من أجل الحياة.. وأنا من هنا أرسل لهم تهاني العيد وأحتفي معهم أينما كانوا؛ فعلى الرغم من بعدهم عنا لكننا نراهم بيننا، ونعيد معهم ذكريات العيد التي احتضنت وجودنا ومرحنا معها.

أيها العيد بأي شيء نستقبلك؟.. وبأي حال عدت يا عيد؟.. فلا تكبير ولا تهليل، إنه عويل ولهاث خلف ملذات الحياة، حتى "المشهد" الذي يجمع المصلين تبدَّل وتغيَّر؛ فالزحام يصل أوُجَّه في مقدمة الصف من أجل الظهور فقط، وليس من أجل الصلاة.. فلا يزال هناك من يعتقد أنَّ الصفوف الأمامية هي لعلية القوم، ولا يزال هناك من يعتقد بأن صلاة العيد لا تحتاج إلى سكينة وخشوع كباقي الصلوات، ولا يزال هناك من يأتي مُتجهمَ الوجه عبوسَ الطلة في عيد الله الأكبر.. أيها العيد عُد ألينا كما كنا في ذلك الزمان.. أيها العيد كيف لنا أن نُعطيك حقك كما شرعه الله؟ أيها العيد كيف نستطيع أن نُطعم الفقراء ونكسيهم حُلة يفرحون بها؟ هل حقا هناك من لا يحتاج اليوم لتلك التفاصيل ليفرح؟ لا أظن.

"فصلي لربك وانحر"؛ فالنحر لم يعد لإطعام الفقراء، وإنما لتباهى القوم بما نحروا لتكدس تلك اللحوم في ثلاجات التجميد، فأي نحر هذا؟ حتى في عطاء البعض منا للسائلين يكون بقايا من حاجة زادت علينا، عظم وشحم وأجزاء لا نحتاج لها، ما أقسانا حتى الصدقة التي أُمِرنا بها نمُن فيها؛ فأي صدقة هذه؟! وأي نحر هذا، إن كان لسد حاجاتنا التي لا تُسد ونفوس لا تشبع؟ يا لهذه العقول التي أزكمتها الأنا حتى هوت في غياهب الاندثار وتسورت الأحلام الزائفة؟ أليس هناك من صحوة لضمير الإنسانية؟ أليس بيننا قلوب تتحسَّس معنى العيد في تجلياته ومعانيه؟ وما أُبرِّئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء.. وماذا بعد العيد؟ فكل يعود إلى حيثياته التي لا تنتهي.

هل حقا نحتاج للعيد، أم أن العيد يحتاج إلينا؟! لا أستطيع أن أسجِّل مظاهر العيد في يومنا هذا؛ لأنها مغيبة مع زحام الحياة؛ فالكل يلبس الجديد حتى أصبح أمرا عاديا، والكل يأكل حتى يثمل، والكل يحتفي بالعيد لكنه على انفراد.. إذاً الأمر طبيعي وعادي.

********

همسة:

"أي شيء أهديك في العيد.. ملبس أم مأكل أم قُبلة أزرعها على هامتك أم أسجد لأقبل قدميك.. فكل حنانك الذي زرعتيه في حياتي وكل شقائك علي، وما زلت تعتذرين لي بأنك قصرتي في حقي.. حاشا وكلا.. لم تُقصِّري البتة؛ فالقصور مني أنا.. أعلم أنَّ قلبك لا يزال يُدفئني بالحياة ويُشعرني بالعيد، وأعلم أنك ما زلتي تدلليني كوني أصغر إخوتي.. فأنت لي عيدا يا أمي فبك أكون.. وبدونك لا أكون".

* كاتبٌ وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك