مقص الأب

سمية النبهانية

كثيرًا ما تمر علينا مطبوعات جرت عليها الكثير من التغييرات و"التحسينات" على نصوصها الأصلية، والتي تنقل فيها "الحقيقة الكاملة" كما يراها الراوي بعينه هو، سالباً إيانا حق إعمال العقل والاختيار فيما هو المناسب وغير المناسب.

إنّ هذا السلوك يشبه سلوك الأب الراعي بحمايته لأطفاله وأبنائه الذين لم يصلوا سن الرشد، فيحذف القنوات التلفزيونية ومواقع الإنترنت والكتب والمجلات التي يرى أنّها مؤذية لهم، مع فارق أنّ المتلقين هنا ليسوا أطفالاً بل هم راشدون. وذات الأمر ينطبق على المعلم ومن له سلطة القرار على التربية. وأذكر في إحدى مراحلي الدراسية، حينما وبّختني معلمة اللغة العربية بعدما رأتني ممسكة برواية "أولاد حارتنا" للكاتب القدير نجيب محفوظ، باعتبار أنّ هذه الرواية كفر، وقراءة هذه الرواية يُعد ارتدادا عن دين الله، خاصة وأنّ هذا الكاتب -رحمه الله- قد أحل قتله، وقتها. ومعلمتي -جزاها الله خيرًا- كانت تحاول حمايتي مما رأته مؤذيًا لي، فيما لم تتجرأ هي على قراءة الكتاب، قراءة نقدية غير مُتحيزة، لتحكم عليه برأيها هي، لا الآخرين.. عنادًا مني والتزاماً برأيي، قرأت الكتاب من جانبي، كغيري ممن قرأوا الكتاب، فلم نكفر ولم نرتد عن الإسلام، بل رأيناه مادة أدبية رائعة تستحق القراءة.

ونرى هذه الحادثة كثيرًا في الكتب المترجمة للغة العربية، وخاصة الكتب التي تتضمن إيحاءات جنسية، ودينية، بالإضافة إلى الكتب والمناظرات والتي تعمقت في مسائل يتحسس منها ويخالفها المستشرقون ومختلف المدارس الدينية، والتي يقرر فيها المترجم الراوي ما هو الصالح وما هو الطالح لقرائته، سامحًا لنفسه بتشويه النص وتكييفه بما يراه عقله كحقيقة كاملة أو مناسبة للقراءة.حتى بتنا نلاحظ أنّ كل ما يكتب من غير وجهة نظر الراوي أو على خلاف رؤيته يعد فكرًا مدنسًا، معتبرًا أن ذلك بأكمله خطأ، وذلك لأنّ الحقيقة الكاملة هي ما يراها الراوي، فمنح نفسه الحق في أن يقرأ ذلك الفكر "المدنس"، ومن ثم حق له منع القراء من الاطلاع عليه والاكتفاء بحكمه عليه.

وتختلف عملية القص والتشويه الأبوية التي نراها تبعاً لمن يمسك هذا المقص وسلطته، فكم من كتب مُنعت من النشر، وأخرى حُكم بالموت على صاحبها، وعلى الرغم من أنّ هذه المطبوعات تحتل قائمة الكتب الأكثر مبيعًا بعد منعها، إلا أنه لا يمكن الاستهانة بهذه القضية والتي تعد من علامات التخلف، فكم من مطبوعات لم تر النور وقصص لم ترو لأنّ أحدا ما رأى أنّها غير مناسبة، ومثال على خطورة هذه القضيةما حدث سنة 1277م، عندما حرّمت جامعة باريس التي كانت آنذاك سلطة لاهوتية في المسيحيّة قراءة نصوص ابن رشد وتداولها مع تشجيعها اللاهوتيّين على الردّ على فلسفة ابن رشد. والتي تسببت في نشأة صورة أوروبية عن ابن رشد مختلفة اختلافًا كبيرًا عن ابن رشد الحقيقي. ومثل هذه الأمثلة كثيرة في تاريخ السكولاستيكية المسيحيّة والإسلاميّة واليهوديّة، كما ذكر د.محمد الحداد في إحدى منشوراته.

وعند الحديث عن دولنا العربية، نرى أنه حتى المواد الدينية يقع عليها هذا الجرم، ومثال على ذلك نص المناظرة المشهورة بين رينان والأفغاني والتي تعدى الحظر فيها المستشرق رينان لردود الأفغاني أيضاً. حتى حمل الكثيرون حول هذه المناظرة فكرة مغلوطة رسخت لديهم بسبب مقص الأب الذي نتحدث عنه، فقد ترجم الكاتب أحمد أمين -على سبيل المثال- نص الأفغاني وقام بحذف العديد من الفقرات التي وجدها غير مناسبة، ونتج عن ذلك نقل الكتاب العرب لنص المناظرة وردود الأفغاني من النسخة المشوهة التي تركها لهم أمين.

والسؤال الذي نطرحه هو كيف نصبو إلى الحداثة الحقيقية إن كنّا نعامل العقل والفكر العربي بهذه الآلية؟ وهل هذا هو الأسلوب الذي اتخذه مفكرونا في السابق ممن اعتلوا قمم الحضارة والحداثة! إنّ حبّ الفضول الذي قاد هؤلاء الرواة لنقل وتحريف النصوص هو ذات الفضول وحب المعرفة الذي يقودنا نحو القراءة، دون شرط الحصول عن الحقائق المطلقة، والتي يحددها لنا الرواة، والذين يبتعدون عن أخلاقيات الوفاء في عرض النصوص لقرائهم، مما يجعلنا بعيدين كل البعد عن النهضة الحقيقية، بسلوكنا لمسار التخلف. لذا فلن يكون هناك خير في أمة يُحدد لها ما تقرأ وكيف تفكر، إنّ سلب منها حق التفكير وإعمال العقل.

Sumaya4044@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك