عمقُ العادي

ناصر محمد

التاريخ هو ابن الذاكرة القصيرة للإنسان، لا يُستحضر في صفحاته سوى بضعة آلاف من الأسماء ويستبعد البلايين، تلك البلايين التي تم تهميشها لأنّها كانت مهزومة أو كسولة أمام كبرياء وأنانية بضعة الآلاف من الخالدين. ولطالما استمر هذا التهميش في وضع هؤلاء المهمشين في كلمات مثل زبد البحر والتفاهة والجنون والعبث والغباء والظلال. وانتصر العقل أيضا لهذا التهميش الذي جعل، من خلال الفلسفة، أصل الأشياء جوهرًا وغيرها عرضًا. ويستمر هذا النفور من "العادي" إلى أن أربكت ذلك الخلود تلك "الفكاهة" الخافتة من الإنسان التي زرعت في قلب جسد "الجدية" نبتة ساخرة تفكك ذلك البناء المتماسك بضحكة سوداء.

"ليس المعجز بمعجز كما هو عادي"، يحيلنا الفرنسي "فرانسوا دو شاتوبريان" في جملته إلى فكرة أن الإعجاز ليس في التضخيم والتأطير بشبح الفخامة للأشياء، بل بامتلاك القدرة على رؤية الحياة ببساطة دون ابتذال. فالإعجاز يكون في تجريد العظمة من زيفها وإلقاء الضوء على تلك الأماكن من الصدق والجنون التي لطالما تم إبعادها بداعي الضعف والسذاجة. وبدلا من سد فجوات الإنسان بحذلقات الذات المتكلفة، ينبغي أن تفتح هذه الفجوات للنظر إليها عن قرب لكشف عمق ذلك العادي، ذلك الضعف الغامض الذي يضع يده على كثير من الممارسات والتأملات الإنسانية التي يقوم بها الإنسان ويخجل من الوقوف عليها لأنّها في نظره "عادية".

الخوف من العادي شعور ربما بات مشتركا لغالبية البشر، فهو يعني أنّ الدهشة والغموض سوف يحتضران أمام هذا الشبح الذي يهدد المعنى، ويعني أيضًا الرتابة والتوقف والنهاية. وهذا الخوف ليس وهما بقدر ما هو هروب من العدم الذي يبعد الإنسان عن ذكرياته في الماضي وطموحاته المستقبليّة التي تحتاج بالفعل إلى بعض الأمل لكي يستمر في الركض. ولكن هذا الهروب من العادي يعني أيضًا عدم الالتفات إلى تلك اللحظات الفارقة من الجنون والسأم التي تكشف قناع الحياة وتناقضاتها الفجة، وتزيد من التأويلات لمعنى وجود الإنسان بدلا من حصره في تأويل ديني أو فلسفي وحيد. فسيرفانتس مثلا في روايته " دونكيخوته" قلب المعايير الإنسانية المبنية على تمجيد الفروسية وتسفيه الضعف إلى فتح نافذة جديدة من خلال الرؤية إلى تلك الأخلاقيات من زاوية الحمق، وأن هنالك في الهامش حكايات أخرى من التفاهة تسلط الضوء على مايفعله الإنسان من ابتذال في إخفاء عيوبه ونواقصه عبر قناع من التزلف.

ربما يمكن القول أن الاهتمام بالعادي فتح قارة جديدة من المعنى أعمق بكثير من الأوهام التي خلقها الإنسان ليهرب من ذاته. فكما كشف الألماني "فرويد" قارة اللاوعي في النفس فقد كشف الإنسان بدوره قارة من الجنون والضعف جعلت من الرؤية تحمل أوجها عديدة غير ذلك الوجه المشوّه. وقد يظن البعض أنّ التوغل إلى عالم العادي شيء سهل وفي المتناول، ويصدق قول "ألبير كامو" في وصف هذا الجهد بأنّه ذلك الإنسان الذي يبذل جهدًا غير عادي لكي يكون عاديًا !! فالالتفات إلى هذا العالم يعني أن تتريث في التفاصيل، أن تهدّئ من قطار الطموح السريع، أن تصادق السكون المتأمل الذي التقطه الشاعر الفرنسي "بول فاليري" في قصيدته محاورة الشجرة حين تكلم بلسان لوكريس عن التأمل الذي نسبه للنبات: أقول إن كان في الدنيا أحد يتأمل، فهو النبات.

إنّ التعمّق في العادي يعني النظر إلى الصوت أيضا مع الكلمات، أن تهتم بالظل مع الضوء، أن تغرق بالحاضر وباللحظات الشاردة، أن تتذكر ضفاف النهر وليس النهر فقط. باختصار أن ترى إلى الوجود عن طريق الوجود نفسه دون إحالته إلى كمال يفصل النفس عن الجسد، فالعادي هو الإغراق في النقص حتى يتعذر الوصول إلى ذلك القعر الرتيب، وهو الغموض الذي ينتج من عدم الفهم، وإعادة الاعتبار للحياة بوصل الروح للجسم. هو الضعف الجميل مثلما ذكرت "آن فيليب" في كتابها "زمن تنهيدة": لقد أحببتك إلى الحد الذي لا أستطيع معه القبول بأن جسدك اختفى، وبأن روحك تكفي، وأنّها تعيش. ولكن كيف يتم فصلهما والتوصل إلى القول: هذه روحك، وهذه جسدك؟ ثم، بسمتك، نظرتك، مشيتك، صوتك، أكانت مادة أم روحا؟ كلاهما معا، دون أن يكونا قابلين للفصل مع ذلك.

وللعادي ميزته في عدم احتكاره للحقيقة، فهو يحث العقل على تذكيره بنقصه، وبأن الإنسان ليس دائمًا سيد مصيره بقدر ما هو مرمي إلى الوجود بتركيب معقد من الجنون والأمل. ولهذا كان للمؤلف أن ينتهي دوره لينتقل إلى المتلقي في تكوين المعنى حسب ذكرياته وأحلامه وتجربته. واتسعت دائرة التأويل وصار للحياة تقديرا أكبر. لهذا، يقول الشاعر الألماني المغرق في عاديّته الفذة "برتولت بريخت" في إحدى قصا ئده: بينما نسافر في سيارة مريحة، عبر طريق مطير في الريف، رأينا عند حلول الليل شخصا زريّاً، يلوّح لنا لنوصله، بانحناءة بالغة. كان لدينا سقف ومتسع ولكن واصلنا المسير، وسمعنا صوتي يقول برنة كئيبة: لا يمكننا اصطحاب أحد.. كنا قد قطعنا مسافة طويلة، ربما مسيرة يوم، حين صدمني فجأة صوتي هذا، وتصرفي هذا، وهذا العالم بأسره.

بريخت والفقراء والمهمشين ودائرة التأويل والصوت واللون عند بيرغمن وكونديرا، وصف الوجود بالوجود دون إحالة إلى الأديان والكفر.

تعليق عبر الفيس بوك