"أهل الطريق".. محادثات عن التصوف

حليمة الزرعي

"أهل الطريق" من تأليف: أوشو

ترجمة: د. محمد ياسر حسكي

(3): الطريقة

يتحدث"أوشو" في بداية الفصل الثالث "الطريقة" من كتابه "أهل الطريق" عن مستويات الدين الثلاثة والتي توجد نفسها لدى الإنسان: "الجسد" و"التفكير" و"الروح". فحين يكون الإنسانموجوداً فقط في الجسد فإنّه لن يتمكن من الاتصال بالدين إلا على المستوى الخارجي.أماإذا كان موجوداً في المستوى الثاني وهو التفكير أو النفس فستكون قادراً على الوصول للمستوى الثالث "الروح" ، والذي يصلك بعمق الدين "التصور" إنّه الأمر الكلي الذي يبحث عنه الصوفية. ويُطلق الصوفية على هذه المستويات ثلاثة أسماء: "الشريعة" و"الحقيقة" و"الطريقة".

يقول الكاتب: "حينما يكون الأنبياء أحياء، تكون الشريعة على قيد الحياة، لأنهم ينفخون الحياة فيها، ولكن عندما يموتون تفقد الشريعة جوهرها وتصبح شكلا أو مظاهر فقط. ثم يبتعد الناس عن الجوهر الذي يمتلئ بالحياة، ويتعلقون بالمظاهر إلى درجة تدفعهم إلى الاعتقاد بأن المظهر الميت ما يزال ينبض بالحياة".إنها الشكليات والطقوس كيوم الجمعة فإنه يصبغ على صاحبها نوعاً من الاحترام في المجتمع ."فليس الإسلام دون محمد وليست الهندوسية دون كريشناوليست البوذية دون بوذا، إلا مجرد سياسات تحت غطاء الدين".إنها جسد الدين (الشريعة)، وقد تكون حية أو ميتة. فهل فعلاً فقط الأنبياء يبعثون الحياة بالدين حينما يكونوا أحياء؟ هل تموت الشريعة بموتهم؟

عندما ننظر إلى كائن حي، فإن وجهههو أكثر شيء نستطيع التعرف عليه، إنه أكثر شيء ظاهر، فقط الشكل الخارجي ولكن لا تسطيع الوصول أو رؤية ما وراءه، كذلك الحال إنك لا ترى الحقيقة الداخلية لهم.

يحكي"أوشو" هذه القصة فيقول: جاءوني مرة بامرأة مات زوجها وبعد ثلاثة أشهر من وفاتهكانت حزينة جداً لا تنام ولا تأكل. فسألتها ماذا تريد؟ قالت:"أريد استرجاع زوجي، فأنا لا استطيع أن أحيا دونه،لا معنى للحياة دونه".قلت: "حسنا، سأدبر لك لقاءً مع زوجك" فرحت كثيراً. وطلبت منها أن تدخل تلك الغرفة وأن تغلق عينيها وتجلس بهدوء وأخبرتها أن خلال نصف ساعة سيأتي زوجك واقفاًأمامك على شكل روح ، تذكري ذلك".

قالت:" على شكل روح؟ ماذا تعني؟".

قلت:" لن يكون هناك جسد. لقد سبق وأحرقتم الجسد، لذلك سيأتي زوجك على شكل روح".

قالت:" لا استطيع دخول تلك الغرفة ، لأنّه لو أتى على شكل شبح فسأمتلئ رعباً. أنا أعاني بما فيه الكفاية، أرجوك لا تفعل ذلك معي".

قلت:" ولكنك أحببت الرجل كثيرا".

قالت:" أجل، أحببت الرجل، ولكنه لم يكن شبحا!".

لقد هدأت المرأة منذ ذلك اليوم.

أذهلتني قصة تلك المرأة وأفقدتني التوازن في نفس اللحظة. أي قصور هذا يا "أوشو"وأي قصور؟ هل فعلا تقتصر معرفتنا على الآخرين وأنفسنا بحدود الجسد فقط؟ أنعجز حقاً عن الوصول إلى عمق ما بعد الجسد؟ ألا نستطيع أن نرى ذواتنا، أو حتى انعكاسها؟

يقول "أوشو" هكذا الحال لدى الحكماء والأنبياء بالأرض، أن الآخرين يراقبون سلوكهم الخارجي فقطكالأكل والشرب وارتداء الملابس والحديث، بعدهايبدؤون بالتقيد بتلك المبادئ ويربطون مظاهرها بالدين. وتتشابه جميع الأديان في ذلك.

يقول المؤلف إن الحشود تؤمن بالشريعة وهم متدينون، ولكن ليس بهذا المعنى،فقد تجد أفرادا متدينين أما الحشد فلا ، لأن التجمع مختل عقليا وسياسيا بطبعه.

عندما تترك وحيداً بالكرة الأرضية فإنك لن تتمكن من أن تكون سياسيا، لأنك ستحتاج إلى حشود وهؤلاء لا يمتلكون الوعي أبدا إنه على خلاف مع الحقيقة. غير أنك تستطيع أن تصبح متدينا إذا كنت وحيدًا لأنك ستحتاج إلى العزلة والخلوة عندها. يقول " سورين كير كجارد" : "إن الحشد هو الباطل".إنهم يركزون على الأمور غير المهمة، فلا يهم ماذا أكل ،" المهم ما أنا عليه". لذا تبدو الشريعة هي الطبقة السطحية من الدين" الجسد"، فحبذا الشريعة تلك والالتفات للروح وإشباعها بما يحررك ولا يقيدك بدين الطقوس الذي يصيب الناس بالكبت، أو مشلولا داخل جسدك.

المستوى الثاني من التصوف هو "الحقيقة"، الجوهر المكنون، إنّه الصدق.لذا توجه إلى المركز ولا تعلق نفسك بالجسد،دع وعيك يبحث باستمرار عن الحقيقة.

يوجد الكثيرون عند مستوى الشريعة، وإذا بقوا كذلك فسيظلون بائسين كجثث هامدة.إنهم بحاجة إلى التحرك نحو الحقيقة، وهنا يحذر أوشو من المعلمين المزيفين فيقول: "إنهم موجودون ويتحدثون لغتك، إنهم مقنعون جدًا" ، إنهم يعدوك بالمزيد من السلطة والثروة وهذا وذاك، فإذا كنت أنت غير حقيقي ستنجذب إلى غير الحقيقي، ستنجذب إلى المعلم المزيف. ويقول إن المعلم الحقيقي يعدك بشيء واحد: " إذا اقتربت مني، فستموت" ،إنه يعدك بالتدمير الكامل، "لأن البعث لا يأتيإلا بعد الموت".فاستجمع شجاعتك لأن الموت ينتظرك،عليك أن تختفي ليظهر الآله فيك، إنها"الحقيقة".

ولتوضيح المعنى بشكل دقيق، نذكر رأياً رائقاًللشيخ الشعراوي حيث يقول: "الشريعة" تبحث في الحُكْم، و"الحقيقة" تجعلك تطبِّق الحُكْم ، فهناك فرق بين معرفة الحكم وبين توظيف الحكم في التطبيق، ومعنى حقيقة أنك أخذت الحكم لتطبِّقه، لا لتتباهى بمعرفته. أحضرت الدواء ووضعته في خزانتي ! هذه "الشريعة"، ثم لما تناولت هذا الدواء هذه هي "الحقيقة" .
فأهل "الحقيقة" هم الذين يأخذون معطيات الحكم وينفذونه ؛ لأن الحكم ليس علماً نتعلمه لذاته، لأنّ ربنا يريد أن يهدينا إليه لا أن يعلمنا لمجرد العلم، والذي يهتدي إلى اللّه ليس من الضروري أن يعرف الحكمة، فالقاعدة أن استفادتك من الشيء ليست فرعاً من العلم به، بل هي فرع من علم من أعطى هذا الشيء.

ويبحر بنا "أوشو"في المستوى الثالث فهو "الطريقة"، إنها السبيل من الخارجيإلى الداخلي.إن الداخلي هو المركز وخط المحيط هو الخارجي، بينما الطريقة هي نصف القطر الذي يربط المحيط بالمركز، إنه السبيل إلى القناعة الداخلية بدلا من المراقبة الخارجية، من البصيرة عوضا عن الاعتقاد، إنه الفعل وليس الامكانية إنه الطريق من الحلم إلى الحقيقة. إن الصوفية لا يجادلون أنهم يوضحون فقط ، إنهم لا يقولون شيئاً عن الاله، إنما يقولون:" هذا هو السبيل كي تعرف"، والطريقة الوحيدة الممكنة هي أن ترتقى أنت إلى مستوى "الحقيقة".فأنت تحتاج أن تتحرك إلى الحقيقة وعليك أن تأخذ دربا ويكون لك مبادئ ومعلم، فاحذر من المعلمين المزيفين. وتذكر أن المعلم عندما يكون حيا في طريقته، تكون مليئة بالحياة، حادة الطعم وقوية الرائحة، ولا يجب أن تسرع في التعلم بل احتفل وأستمتع بكل خطوة.إنه ليس من الروحانية أن تكون سريعا أبدا، فلماذا لا تستمتع بكل لحظة في الحياة؟ فقد يفوتك النظر في الانحاء الاخر وأنت بالطريق.

فعلا يا "أوشو"يفقد الكثيرون منا لذة اللحظة وهم يهرولون نحو أهدافهم، ولربما تفوتنا الحياة بأسرهاأيضا وبكل سهولة. يقول "أوشو": " إن الحياة هي هدف في حد ذاتها".

ويقول كذلك:" يجب أن يصبح الوعي هو نسيج وجودك"، فلا يمكنك التعلم البتةإن لم تكن مدركا. لذا يمكنك أن توجد الوعي في أي شيء تفعله، فحين تأكلأو تمشي أو تقود سيارتك تذكر أفعالك تلك وكن واعياً لحظتها.

وتسمى هذه لدى الهندوس "ساكشين" بمعنى الشاهد.إنها "سامياك سميرتي" أي الانتباه الكامل كما يسميه البوذيون. وبحالة"سوراتي" كما يدعوها "كبير وناناك" وتعني التذكر. ويسميه الصوفية المسلمون "الذكر"، ولكن الطريقة نفسها وإن تعددت التسميات، ولكن بطبيعة الحال كلٌ بحسب معتقده سمّاها وسار على فلسفتها.

تعليق عبر الفيس بوك