سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟! (9)

 

د. صالح الفهدي

 

عادات مصدرة

لو قابلت يوماً مايكل هاملتون مورجانمؤلف كتاب "تاريخ ضائع" الذي يتحدث عن التراث الخالد لعلماء الإسلام ومفكريه وفنانيه، سأقول له: "أطمئنك، فإن بعض أحفاد العرب المسلمين -وليس الكلام هنا على العموم والإطلاق- قد أعادوا تاريخهم المشرف الذي وصفته بالضائع، بل وفعلوا الأعاجيب.. فانظر ماذا فعلوا لاستعادة تاريخهم الضائع: لقد صدروا الشيشة لأمريكا فنشروها في لندن وفي الولايات المتحدة الأمريكية ردا على انتشار مطاعم الماكدونالدز في بلدانهم! بل ولم تبق ساحة في دولة غربية أو آسيوية يؤمها العرب إلا وتفوح بالمعسلات المصبوغة بشتى أنواع النكهات..! أرتال من النساء قبل الرجال العرب يتناوبون على الأراجيل، وتعلو أصواتهم: عمر رأس، ليخرب رأس ..! وشتان بين الرأسين..! هربوا من طقس بلادهم الحار ولكنهم لم يطيقوا شوقاً إلى حرارته فكانت لهم حرارة الشيشة عزاء قلب، وتسلية خاطر!

لم يبق للعرب المسلمين من تاريخ الأندلس غير نوائح طللية لفيروز وأم كلثوم، ومطاعم تحمل اسمها وتطبطب على أكتاف روادها بأرجيلة الشيشة..! هذا ما تبقى لهم، وهو عزاؤهم الوحيد!

وانظروا ماذا صدروا في شوارع المدن الشهيرة مثل لندن وباريس...وغيرها؛ سيارات تلمع بالألماس، وتشع بالذهب، ليظهروا للعالمين عظمة الحضارة العربية، وقيمة ما تنتجه من الثروات النفطية التي تسكب المال والثراء الفاحش والألماس..! ليوصلوا رسالةً جازمةً حاسمةً بأننا وإن كنا في عالم ثالث وأنتم في عالم أول فإننا ننام على الذهب وأنتم تتقلبون على هموم الضرائب، ومخاوف فقدان الوظائف!

وتأملُ فيما صدروه إلى دول الغرب وإلى العالم أجمع من سلوكيات الفوضى، والعبثية ليشعروا مواطني تلك الدول بأنهم أليفون، وأنهم أصحاب فضل عليهم، ومن كان ذا فضل يجب أن يحمد لفضله مهما بدر منه من فضاضة أو اللااكتراث بالنظام..! جاء بعضهم سائحاً إلى تلك الدول التي تربت على النظام منذ بواكير أعمارها، والتزمت بالسمت والهدوء في مرافقها السياحية، وأسواقها، وشوارعها.. جاءها بعبثية، لا يكترث معها بنظام شائع، ولا بطابور ذائع..! جاءها وقد نقل إليها الفوضى التي يعيشها في بلده، حتى قدم صورةً زادت الأمر سوءاً فوق الصورة غير الحسنة التي نقلها الإعلام الغربي عن العرب!

فإذا بأصوات المواطنين تعلو، وإذا بضغوطات البرلمانيين تحتد من أجل تقليل أعداد السائحين العرب، وتشديد قوانين السياحة عليهم، فأضرت تلك الفئات عرباً راقين في سلوكياتهم وأخلاقياتهم، وهدمت ما أرادوا أن يبنوه من صورة حسنة لأن الأفعال الشاذة مصدر إثارة. ورد في تقرير نمساوي: "لا نريد العرب.. سببوا لنا الإزعاج، وهم في كل مكان، حتى في الحدائق، وهم يرمون القمامة، وحتى الحيوانات لم تسلم منهم". أذكر قصة أوردتها في كتابي "قيم معطلة في المجتمعات العربية" عن العربي الذي أشعل سيجارة في المطار رغم التحذير من عدم السماح بالتدخين، فتوجه إليه رجل الأمن، وسحب منه سيجارته، ودعسها تحت قدميه قائلاً له: افعل هذا في بلدك!

لم أسمع في حياتي أن رجلاً أو امرأةً اعتنقا الإسلام بسبب موعظة مؤثرة عن الدين، فكل ما سمعت أنهم اعتنقوه طائعين، مقتنعين بسبب المعاملة التي لمسوها من المسلمين، والأخلاق التي رأوها منهم. أما ما يحدث من فوضوية عارمة (لبعض) السياح العرب فهي تكريس لما يسوقه الإعلام الغربي من فوضوية، وترف، وبذخ، ولهو عن العرب..!! وفي الجانب الآخر: التطرف، وعدم التسامح، والتحجر الفكري، والوحشية..!! صورتان تقعان على طرفين متقابلين إلا أن ما يجمعهما واحد: العبيثية والغلو!

انظر إلى المتاحف في الدول التي يرتادها السياح العرب أو المعارض، أو الفعاليات الثقافية، فلا تكاد ترى سائحاً عربياً إلا الندرة من المهتمين، ذلك لأن البعض لم يأت هذه البلاد ليتعرف على ثقافة أهلها، وعن القيم الرفيعة التي تسببت في نماءها وازدهارها فينقلها إلى بلاده بشتى الطرق.. لا لم يأت لكي يتعلم وإنما جاء لكي يتنسم الهواء البارد، و "يغير الجو"!

اسمع ما قاله مرشد سياحي تركي لسياح عرب على سفينة في نهر البوسفور، كلمات يخجل منها العربي، ويندى لها جبينه، قال لهم عند مرور السفينة قبالة قصر مهند ونور: "هذا المسلسل ما نجح عندنا يا جماعة، بس عيب يا جماعة، حرام والله، عيب عليكم يا جماعة، شرحت لكم عن قصر طولمه باهتشة أضخم قصر عثماني ولا أحد أتى من مكانه، شرحت لكم عن قلعة محمد الفاتح الذي غير مجرى التاريخ ولا أحد أتى من مكانه، شرحت لكم عن قصر مهند ونور الكل أتيتم من أماكنكم، ارجعوا لأماكنكم لا تنقلب بنا السفينة" كلمات مخزية، تلخِّص ما وصل إليه الاهتمام العربي بالقشور، والانبهار بكل ما يلمع، وليس غريباً أن نرى بطلا المسلسل -الذي لم ينجح في تركيا- وهما يدعيان في بعض الدول العربية ويكرمان على نجوميتهما، وفي الحقيقة يكرمان على نشر التفاهات في البيوت العربية!

شاهدت مثل هذا الموقف ورأيت السياح العرب وهو يخرجون سراعاً من بطن السفينة إلى سطحها ليشاهدوا قصر مهند ونور المهجور والمحطم النوافذ؛ فحز منظرهم في خواطرنا!

إن الفضل -بعد الله- في انتشار الإسلام في أكبر الدول الإسلامية الآن كإندونيسيا وماليزيا والصين والهند وباكستان وأفغانستان والجمهوريات الروسية، وكل دول وسط وجنوب إفريقيا، يعود إلى الأخلاقيات العالية التي اتصف بها التجار المسلمون الأوائل، وطبقوها بأسمى معانيها في تعاملاتهم مع مواطني تلك الدول حتى بهروا بها، وشغفوا بروعتها، فانشرحت صدورهم للإسلام.. وها هم بعض الأحفاد يعكسون الصورة الجميلة التي نقلها أجدادهم؛ فإذا بتلك البلدان المسلمة قبل غيرها تضيق بسلوكياتهم، ولا تستحسن أخلاقياتهم؛ فتهرع إلى الحدود لتضييق أبوابها، وإلى القوانين لتشديد بنودها، لا تكترث للمردود المادي، والبذخ، والسرف، بل تكترث لمكتسباتها الحضارية، ومنجزاتها الثقافية!

هذا ما صدَّروه وأكثر، فلا تسألني عما استوردوه فذاك أعجب وأغرب، فقد برهنوا على صدق مقولة ابن خلدون في مقدمته: "أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره، وزيه، ونحلته، وسائر أحواله، وعوائده"؛ فإذا بهم يستوردون أغنياته ورقصاته، وقصات شعره وملبوساته، وكل ما انحط من قيمه، ليتباهوا بها على أنها قيم "الإنسان الحضاري" وأيقونات "الإنسان العصري"!

ولا تسألني ماذا ينتجون..؟! فتلك قصة تطول روايتها، لكن نهايتها غير مفرحة!

ثقافة سائدة لم تسعفنا على أن نبادر لإصلاح واقعنا ونحن ننظر إلى الدول التي تقدمت في مجالات كثيرة، بل اكتفينا بتفريج الهم فيها، وتركنا العلم والآداب وصحبة الماجدين..!! لقد برهنا على صدق مقولة أنه "تاريخ ضائع" وأنه لا بادرة منا لاستعادته، بل سعى البعض -للأسف- فوق ذلك إلى تشويهه بنقله من "الضائع" إلى "الصائع".. ثقافة لم تكتف فئة بممارستها في بلداننا بل نقلتها للآخر على مرآى منه ومسمع حتى تحرك لسان حال الآخر هازئاً بما تحدث به شاعرنا: يا أمة ضحكت من جهلها الأمم!!

تعليق عبر الفيس بوك