حياة رغم كل شيء (2)

عهود الأشخريَّة

استكمالا لما بدأت به من حديث عن سِيَر أشخاص عاشوا حياة صعبة، لكنهم رغم ذلك تغلبلوا عليها وأسَّسوا الكثيرَ من الأعمال التي طوَّرت مجالات معينة أثَّرت بشكل إيجابي في العالم، أواصل هنا الحديث عن العلوم التي يقوم فهم العالم على أساسها كالكيمياء والفيزياء والرياضيات...وغيرها، وفي الحديث عن العلم والعلماء أُعطي المجال هنا للعالم الإنجليزي البارز إسحاق نيوتن الذي لم تكن حياته سهلة رغم أنه كان عبقريا منذ طفولته حتى وإن لم يظهر هذا الشيء منذ الصفوف الدراسية الأولى، لكن الناحية الأخرى من حياته كانت بائسة جدا؛ فقد توفي والده الذي كان يعمل مزارعا قبل ولادته بثلاثة أشهر، ووالدته تزوجت وهو في الثانية من عمره ولم تأخذه للعيش معها في بيتها الجديد؛ مما خلَّف آثارا نفسية لدى نيوتن الذي بدأ يفهم الحياة من حوله شيئا فشيئا، هذه الآثار أدت إلى تفكيره بأن يحرق بيت أمه وزوجها بسبب الاضطرابات النفسية التي وصلت إليها حالته، والضغط النفسي الذي سببه له التفكير في موت والده وغياب أمه عنه، لكنه استطاع أن يتجاوز كل هذه الأعراض النفسية وبدأت تظهر عبقريته في الفيزياء والرياضيات وصاغ قوانين الحركة وقانون الجذب العام، وأيضا أثبت نيوتن أن حركة الأجسام الأرضية والسماوية يمكن وصفها وفق مبادئ وأساسيات الحركة والجاذبية، وقام بالكثير من الدراسات التي طورت العلم هذا؛ لأنه استطاع أن يتغلب على قسوة الحياة من خلال استخدامه لعقله في سبيل العلم والمعرفة والبحث.

وانتقالاً إلى عالِم آخر كان له شأن كبير في تطور علم الفيزياء وهو ستيفن هوكينج الذي أصيب بمرض التصلب الجانبي وهو مرض مُميت كما حدَّده الأطباء في ذلك الوقت، هكذا بدأت رحلة هوكينج مع الإعاقة وهو في بداية العشرين من العمر؛ حيث جعله المرض مقعدا لا يمكنه الحراك، ومن ثم بسبب مضاعفات هذا المرض أصبح غير قادرا على النطق أو تحريك ذراعه أو قدمه، وهذا يعني تعطله عن الحركة نهائيا، لكنه في الحقيقة لم يستسلم لهذا المرض، واستطاع رغم قسوته عليه أن يتفوَّق على العلماء في مجال الفيزياء بطريقته الخاصة؛ بأن يجري كل الحسابات في ذهنه.. وهكذا تغلب هوكينج على تعاسة المرض، وأصبح من أهم علماء الفيزياء، وأثبت الكثير من النظريات، كما عمل على تطوير النظرية النسبية لآينشتاين، وعمل أيضا بمعية جيم هارتل -وهو معاونه من جامعة كاليفورنيا- على تطوير نظرية اللاحدود في الكون، وهذا الأمر الذي غيَّر بعض التصورات القديمة التي تصف لحظة الانفجار العظيم عن نشأة الكون وفصَّل هذه النظرية التي سميت لاحقا بـ"الانفجار العظيم".

وفي مجال الأدب، لابد من الحديث عن الكاتب الروسي العملاق فيودور ميخائيلوفيتش دوستويفسكي، والذي أثر تأثيرا عميقا في أدب القرن العشرين، وأسس المذهب الوجودي وفهم الطبيعة البشرية وحللها من خلال كتاباته. لكن كيف كانت حياته؟ لقد كان دوستويفسكي الثاني من سبعة أطفال للأب ميخائيل وماريا دوستويفسكي، الأب ميخائيل كان جراحا متقاعدا ومدمن خمور سريع الانفعال، في منطقة تحتوي على مقبرة للمجرمين ومحمية للمجانين ودار أيتام للأطفال الذين تخلى عنهم أهاليهم، وكل هذه التفاصيل بدأت تنطبع في ذهب الطفل دوستويفسكي الذي أصيب بالصرع منذ أن كان في التاسعة من عمره، ومنها بدأت تزوره نوبات الصرع على فترات متفرقة من حياته، نعود إلى الأب مخائيل الذي كان تصرفه استبداديا مع الأبناء حيث كان حين يعود من الخارج وينام؛ يأمر الأبناء بأن يقفوا حوله بصمت حتى يطردوا الذباب من قربه، مرت أحداث حياة دوستويفسكي حتى توفيت والدته بمرض السل، وأُرسل إلى أكاديمية الهندسة الحربية، وهنا بدأ بتعلم الرياضات والأدب. وفي العام 1843، أكمل دوستويفسكي ترجمة رواية لبلزاك، لكنها لم تلق أيَّ اهتمام أو القليل منه. ومن هنا، كَتَب روايته الأولى في العام 1845 عن الفقراء وأصبح كاتبا معروفا وهو في الرابعة والعشرين من عمره. لكن المعاناة لم تنتهِ هنا، بل استمرت عندما تم سجنه والحكم عليه بالإعدام بسبب انتمائه إلى إحدى الجماعات التي تعني بالتفكير المتفتح، لكن الحكم تغير ونفي إلى سيبيريا. ورَغم كلَّ ذلك لم يتوقف دوستويفسكي، بل واصل أعماله التي تعد اليوم من أهم الأعمال العالمية.

وأيضًا هناك ألكسي مكسيموفتس بشكوت -المعروف بمكسيم جوركي- الذي توفي والده وعمره أربع سنوات وقد عاش في بيت جده وجدته، جده الذي كان قاسيا، غليظ القلب والطباع، ويحمل عداء لجميع الناس لدرجة أنه كما يظن في الاستعانة بالله لتدمير حياة الناس وإزالتهم من طريقه، كان الجد يضرب جوركي دون سبب وفي أوقات كثيرة، في الصف الثالث حصل غوركي على شهادة تفوق وكان سعيدا بها وحين أعطاها لجده ولم يفتحها حين بدأ يتمتم بكلمات معناها أن يجب على جوركي أن يخرج للعمل حتى يحصل على طعامه؛ لذا فقد اضطر جوركي للعمل في تجميع الورق من البيوت ويبيعها حتى انتقل للعمل في حانوت، ومن ثمَّ عمل في غسل الأطباق ومن عمل متعب إلى آخر أكثر تعبا حتى انتهت طفولته بهذه الطريقة، بعدها بدأ جوركي بتثقيف نفسه حيث كان يحب المطالعة منذ الصغر، لكنه حُرم في طفولته منها حتى كتب رسالته المشهورة "الأم"، والتي عالج من خلالها الكثير من القضايا الواقعية، وكتب أيضا الكثير من الأعمال المهمة منها رواية الطولة ومسرحية الحضيض وقصيدة أنشودة نذير العاصفة. وبالطبع هذه الأعمال لها قيمتها في الأدب الروسي على نحو خاص والعالمي.

هذه الأسماء بالطبع -على سبيل المثال وليس الحصر؛ حيث إنَّ هنالك الكثير من الذين أثروا في العالم في مجالاتهم الخاصة عن طريق وعيهم بأنَّ هناك سببا ليتغلبوا على قسوة الظروف- من المؤكد أن لديها إيمانًا دائمًا بأنَّ هناك ما يستحق الحياة على هذه الأرض... فماذا سنفعل نحن؟

Ohood-Alashkhari@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك