"جندي من مسكن".. تقنيّات سرد السيرة الذاتية وجماليات الفيلم التسجيلي

د. آسية البوعلي*

· على سبيل التقديم

علاقتي بشرطة عُمان السلطانية لا تتعدى علاقة القارئ الذي يتابع أخبار الشرطة في الصحف المحلية،وعلاقة المثقف الذي يتابع مجلة "العين الساهرة" بوصفها نافذة تسمح بإطلالة عريضة على موضوعات الشرطة وأخبارها الداخليّةوالخارجيّة،فضلاً عن ملاحق المجلة التي تتعلق بمخاطبة الطفلتجاه قوانين المرور احترامها ومبادئ السلامة وتجنّب الأخطار. كما لا تتعدى هذه العلاقة علاقة المواطن العادي في ذهابه إلى الجهات المعنيّة بمراكز الشرطة لإنهاء أمور بعينها كتجديد جواز سفر أو بطاقة شخصية أو رخصة قيادة أو ملكية سيارة...إلخ.لم يحدث أنني تعاملت مع الشرطة بشكل مباشر كأن تستوقفني سيارة الشرطة في الطريق لمخالفة ما.. المرة الوحيدة التي تواصلت فيها مع الشرطة بشكل أكثر قربًاحين تعرض منزلي للسرقة، والحق يقال: إنني لمست من رجال الشرطة بمركز الوطية بمختلف رتبهم كل الاحترام والتعاطف والإخلاص والتفاني في البحث عن اللص، مع تحفظيالكامل لذكر الأسماء خوفًا من أن أنسى اسمًا.

جندي من مسكن .

قرأت في إحدى الصحف المحليةعن صدور كتاب "سيرة جندي من مسكن: شهد الذاكرة " لمعالي الفريق الأول مفتش الشرطة والجمارك (المتقاعد) سعيد بن راشد الكلباني، سارعت لشرائه إيمانًا مني بأن التجارب الطويلة لكبار المسؤولين المتقاعدين تستحق التدوين بأي شكل من الأشكال، وأن خلاصة هذه التجارب هيموضع إفادة وتثقيفللقارئ من الأجيال القادمة سواء كان قارئًا عاديًا أم متخصصًا في المجال.

مرة أخرى في 24 أغسطس 2015م قرأتعرضًا عن الكتاب الذي اقتطف منه مقاطع مطولة فضلاً عن بعض الأسئلة الموجهة للكلباني صاحب السيرة والتي تلخصت في الإجابة عن دوافعه للتدوين،والمراحل الزمنيّة التي استغرقها الكتاب.

وفي 26 أغسطس مررت على أكثر من موضعيتضمّن إعلانًا يختص بالجلسة الحواريّة التي ستعقد حول الكتاب (والتي عقدت بالفعل) بفرع غرفة تجارة وصناعة عمان بمحافظة الظاهرة. لا أقلل من قيمة ما نشر فالأول يمنح الفرصة للقارئ كي يتعرّف على موضوع الكتاب عبر مقتطفاته، والثاني يفسح المجال لمقابلة صاحب السيرة عن قرب.

لكن بحكم أنني قرأت الكتاب المذكور أعلاه قراءة واعية،والذي صدر عنبيت الغشّام للنشر والترجمة، مؤسسة التكوين للخدمات التعليمية والتطوير، مسقط سلطنة عُمان2015م.والكتاب هو من الحجم الكبير، صادر بنسختين: واحدة بغلاف عادي وأخرى بغلاف مقوى، الكتاب عبارة عن215 صفحة وملحق للصوريتكون من 47 صفحة.راجعه وحرره وصاغهالكاتب: محمد بن سيف الرحبي ـــ فإنني أقول بعد هذه القراءة: إنّ الكتاب أقيم وأعمق مما نُشر عنه فهو لا يعد مجرد حكي عن سيرة ذاتية كما أنّه ليس رصدًا لتاريخ الشرطة ومكوّناتها من قبل عصر النهضة المباركة إلى ما بعده فحسب، بل أهميّة الكتاب تكمن في نقاط بعينها سأطرحهاإجمالاً حيث لا مجال للتفصيل، وأتمنى من مختبر السرديات الذي يعقدبشكل دوري من قِبَل بيت الغشامأن يخصص حلقة من حلقاته للخوض في هذه النقاط والتي تتمثل في التالي:

الكتابلا سيما في فصله الأول (صفحة 12 - 52)والذي ورد بعنوان "الأقدام تكتشف خطواتها"جمع بين تقنيّات سرد السيرة الذاتيةوجماليات الفيلم التسجيلي. بمعنى القارئ لهذا الفصل يجد ذاته أمام كم هائل من العناوين الفرعيّة وكل عنوان يقدم مقطعًا فنيًّا متكاملاً من حيث الموضوع والحركة والسكون... إلخ مما يشعر القارئ أنّه إزاء مفردات (عناوين فرعيّة) تتعلق بتراثنا وعاداتنا وتقاليدناوتحت كل عنوان يجد المعلومة التثقيفيّة التي تتعلق بالعنوان، لكن في الوقت ذاته هناك جمال فنّي يتعدى الرصدلمعلومة ما، ويتعلّقبالكلباني الطفل والمراهق في مواضع أخرى،حيث يتأرجح الكلباني في تلك المواضع بين الحضور والغياب فتارة نجد الكلباني جزءًا لا يتجزأ من العنوان الفرعي ويلعب دورًا رئيسيًا فيه وتارة أخرى لا نجد له حضورًا فعليًا، وكأنه توارىفي زاوية ما، ليحكي لنا عن المشهد بكل تفاصيله وكأننا إزاء فيلم تسجيلي.لا بد من القول هنا: إنّحرفية محمد الرحبي في صياغة هذا الفصل كانت جليّةفي قدرتها على إضفاء الصبغة الفنيّة تلك التي خرجت بالسيرة من الذاتية (الشخصيّة) إلى الموضوعية(العامة) لتنطبق على أي مواطن عُماني عاصر معطيات الحياة لفترة ما قبل النهضة وما بعدها.هذا مع الوضع في الاعتبار أنّ هذه الحرفية كانت لها قدرتها علىالرسم الكاريكاتوري لمشاهد بعينها لم تخل من عمق دلالي.

الكتاب في فصله الثاني(صفحة 54- 88) والذي ورد بعنوان "في مصنع الرجال" ينتقل بنا نحوفن السيرة الذاتية البحتة، وهو ما يتضح من السرد بضمير المتكلم الوارد بصيغة الجمع أحيانًا وبصيغة المفرد في أحايين أخرى كما يتجلى في مطلع الفصل حيث يقول الكلباني : "أنا عسكري لا أدري لماذا لم أحلم بوظيفة أخرى غير الجندية؟ أن أكون عسكريًا... وفقط . " ص 54.وفي موضع آخر يرد " أكاد لا أصدق نفسي أنني سأبلغ حلمي الذي تمنيته طويلاً"ص 55فمن ضمير المتكلموالمواقف المختلفة التي مرّ بها الكلباني (الجندي) والتي تتعلق به كذات، يقدم لنا الفصل سردًا عن شخصية الكلباني عبر مراحل نموه ونضجه التدريجي. فإذا كان الفصل السابق قدّم الكلباني وما حوله في علاقة تأثر وتأثير، فإنّ هذا الفصل اتخذ من تقنيات السرد لا سيما التقريب Zoom Inليركز على الكلباني بشكل مكبر، مما نتج نوعًا من العلاقة الحميمةالتي جمعت بين القارئ والشخصية التي يقرأ عنها.

الكتاب في فصله الثالث والذي ورد بعنوان "عسكري بصيغة أخرى" ( صفحة 90- 141) وفي فصله الرابع الوارد بعنوان "صرت مفتشًا" ( صفحة 144-200) القارئ لهذين الفصلين أول ما يسترعى انتباهه في الفصلين الدقة المتناهية في رصد المعلومة أسماءً وزمنًا وموضوعًا.وكما يقول محمد الرحبي في مقدمته للكتاب "في بعض الفصول تدخلت، وفي بعضها الآخر لم أجد إلا متعة المتابعة، خاصة في الجوانب الإدارية والتنظيمية " ص 6- 7. فالسؤال الذي يتبادر إلى الذهن مباشرة من أين لمعالي الكلباني بكل هذا الزخم من المعلومات المدونة وبتلك الصيغة الدقيقة في الرصد؟لو افترضنا أنّمعاليه يمتلك ذاكرة حديديةفلابد وأن تخونه الذاكرةولو مرة واحدة. لم يكن أمامي كقارئة للفصلين سوى أن استنتج استنتاجين لا ثالث لهما: إمّا أن يكون الكلباني محتفظًا بالمستندات والوثائق والمدوّنات الرسميّة التي سمحت له بهذا النوع من التدوين الذي كان أقرب إلى الدراسة أو البحث، أو أن يكون الفصلان تمّت صياغتهما أو على أقل تقدير مراجعتهما من قِبَل الجهات المختصة. في الحالتين أرى عدم الإشارة في هوامش الفصلين إلى مصادر ما دُون إجحافًا لحقهما من حيث الأهمية البحثية والمعلوماتية.فالفصلانرغم شكلهما البحثي أو الدراسي، ورغم أهميتهما في اختزال الزمن بالنسبة لأي باحث عن معلومة تخص شرطة عُمان السلطانية،وهو أمر لا يدرك أهميته سوى المشتغل في الدراسات والبحوث، فإنّ تجريدهما من المصادر والمراجعوقف حائلاً دون الاعتماد عليهماكمرجع أكاديمي.إذ لا يغيب عن الوعي إذاما هم باحث ما بإقامة دراسة نقدية أو أدبية تتعلق بفن السيرةفباستطاعته الاستعانةبما ورد في الكتاب منجانب السيرةالتي تخص الكلباني، بينما فيما يتعلق بالمعلومات التي وردت في الفصلين والمتعلقة بشرطة عٌمان السلطانية فالأمر يختلف تمامًا، حيثلا يعد الكلبانيهنا (مع كل الاحترام والتقدير) مصدرًا علميًا، فالرتب العسكريّة والمسميّات الوظيفيةمهما بلغدرجة رفعتهما لا تمثلان مصادر يعتد بها في أي دراسة أو بحث..وأعلم أن هناك مَنْ سيرد عليَّ بالتعليق: لكن الكتاب في الأصل ليس بحثًا ولا دراسة.. وردي هنا:هناك مجهود كبير بذل في هذا الجانب - سواء بقصد أو دون قصد - فلماذا هُدر؟!

وآخر هذه النقاط أنّالقارئ للكتاب برمتهيلاحظ أنّ هناك خيطايربط هذا الكتاب من أوله إلى نهايته، هذا الخيط هو الكلباني الإنسان؛وقد تعددت صور هذا الإنسان لتأخذ زوايا شتى سأعرض جزءًا منها:الكلباني هو ذلك الطفل الذي يلعب ويتعلم القرآن ويُضرب من والده أحيانًا، وهو ذلك الشاب المتحمل والصابر على كل الصعاب لتحقيق حلمه، وهو ذلك الجريح الذي يبتلع آلامه في صمت، وهو الرجل العسكري الذي يمتص أحقاد الآخرين، وهو ذلك الشخص الذي لا ينسى معروف وجميل الآخرين عليه،وهو المفتش العام والأب الحاضن لكل من عمل معه، وهو الراقي في فكره الذي يدعو إلى الترفع عن الصغائر في العمل،وهو ذلك الرومانسي المقدر لقيمة اللقاء الجمعي للمتقاعدين من بعد فراق سنين، وهو الوالد المعتني بعائلته، وهو...وهو... خلاصةهذه الصور.

رغم عدم معرفتي بالكلباني معرفة شخصيةولميحدث ليأن قابلته ولو مرة إلاأنّه إنسان جميل في مجمله، وشخصيّة شيقةتستحق التحليل والقراءة عنها.

* مستشار العلوم الإنسانيّة بمجلس البحث العلمي

تعليق عبر الفيس بوك