لبنان ينتفض.. رائحة النفايات تختلط مع أزمات الفساد والطائفية وتهدد باستمرار الجمود السياسي

سيناريوهات التصعيد تهدد بقاء الحكومة وحل البرلمان

تظاهرات السبت تهز الطبقة السياسية "المنعزلة"

لا يعرف تمام سلام رئيس الحكومة اللبنانية، أن تصريحا أطلقه "لحظة تأثُّر" سيكون وبالا لا امتصاصا لغضب الشارع، بعد أنَّ اعترف بأن صريخَ الوجع والألم الذي حصل خلال أحداث أمس الأول، ليس ابن ساعته ولا هدفًا له، وأنه تراكم لقصور وتعثر وغياب تعيشه السياسة اللبنانية وتتحمله. حتى تلويح سلام بمحاسبة وملاحقة المسؤولين عن وحشية التعامل مع المتظاهرين لم ينم عن توجه فاعل نحو إقراره، إذ عَمد رئيس الوزراء إلى التفريط في لغة الاستدرار وهو ما بدا في تصريحات له بقوله "ما حدث أساء إلينا بعمق مشاعرنا وأحاسيسنا".

وفي حين تجمع ما يفوق الخمسة آلاف شخص من مختلف الأعمار، وسط ساحة رياض الصلح؛ يرفع أحدهم لافتة خط عليها عبارة "الزبالة زبالة لو حكمت البلد"، بينما كتب آخر "ما التقى فيهم ولا واحد يفرز ويستقيل"، وعلى الرغم من إعلانها "سلمية"، لم تنته تظاهرة "طلعت ريحتكم" كما بدأت؛ حيث حلت أصوات طلقات الرصاص الكثيفة، مكان قرع الطناجر والمعالق والأدوات النحاسية التي حملها المتظاهرون معهم إلى الساحة.

الرُّؤية - هيثم صلاح

والتطور في التعامل مع أزمة النفايات في لبنان، إلى المطالبة بإسقاط النظام، يكشف حجم النار المستعرة تحت رماد التراجع السياسي، والذي ترجمه العنف المتبادل في مواجهات ساحة "رياض الصلح". إلا أن ما يلفت الانتباه في الحالة اللبنانية، هو ردة الفعل الأولى عن أحداث السبت، والتي كانت متفاوتة بشدة من جانب مختلف القوى السياسية اللبنانية؛ ففيما استنكر معظمهم -بمن فيهم المتسببون بأزمة القمامة- استخدام قوات الأمن للقوة المفرطة في مواجهة المتظاهرين، كانت هناك بوادر صدام وشيك حول مطلب إسقاط الحكومة وتنظيم انتخابات برلمانية على أساس قانون انتخابي جديد مبني على الدائرة الوطنية الموحدة، لا على الانتساب الطائفي؛ مما يعني حال حدوثه تصدع أساس مهم من أسس المحاصصة الطائفية الناتجة عن اتفاق الطائف 1990.

فخروج المتظاهرين بالآلاف تلبية لدعوة من حركة "طلعت ريحتكم" التي تضم ناشطين في المجتمع المدني للضغط على الحكومة لإيجاد حل شامل لهذه المشكلة المزمنة منذ نهاية الحرب الأهلية في لبنان، يكشف حجم الفساد المستشري؛ سيما وأن الأنباء تشير إلى أنَّ المناقصة الأخيرة لشركات النظافة التي لم تعلن نتيجتها بعد يشوبها "فساد".. ونقلت وكالة الأنباء اللبنانية الرسمية أن مفوض الحكومة المعاون لدى المحكمة العسكرية القاضي داني زعني، أمر بفتح تحقيق في ما شهدته ساحة رياض الصلح التى وقعت بها الأحداث، دون أن تورد مزيدا من التفاصيل.

وعكست أحداث السبت عمقَ الأزمة التي تنتاب الطبقة السياسية اللبنانية الحالية، فهي طبقة تكاد تكون منعزلة عن ما يحدث لعموم اللبنانيين، ومؤسسات هذه الطبقة التشريعية والتنفيذية غير شرعية ومددت لنفسها مرتين، بخلاف عدم الاتفاق الأن على رئيس جمهورية يُنتخب ليشغل الفراغ المتزايد عن عام. وبين موائمات داخلية وحسابات خارجية، تجاهلت أو عجزت هذه الطبقة عن حل مشكلات المواطن اللبناني، وأبسطها مشكلة النفايات التي عبرت ولخصت في تفاعلها عمق الأزمة التي تعانيها الطبقة السياسية.

لم يكن هذا الحدث الأول من نوعه، وإن كان يمتاز بصفتين؛ الأولى أنه خارج المعادلات الطائفية أو القوى التقليدية مثل 8 و14 آذار. والثانية أن سقف المطالبة ارتفع باطراد سريع من مطالبة بحل مشكلة القمامة إلى مطالبة بإسقاط الحكومة إلى انتخاب برلمان وفق قانون يكسر معادلة الطائفية.

وبقراءة الواقع، تبقى التظاهرات والاعتصامات محصورة حتى الآن في نطاق بيروت، ولا تحظى بدعم من فريق أو حزب سياسي معين -اللهم إلا أفراد بصفتهم الشخصية- وهنا يتبقى سؤال مرهون بتمدد التظاهرات وثباتها عند مطالبها حتى لا ترتد الكرة كالعادة في لبنان إلى ملعب السياسيين وقادة الطوائف والأحزاب، وتخضع إما لآلية الاحتواء وتفريغ الفاعلية والمطالبات من مضمونها وينتهي الأمر عند قاعدة "لا غالب ولا مغلوب" الشهيرة التي هي إحدى تجليات اتفاق الطائف، أو كورقة ضغط توظف من جانب فريق سياسي لتسجيل انتصار على الفريق الأخر، وهو الأمر المعتاد في لبنان تجاه تحركات وفعاليات الشارع العفوية. أو إذا تجاوزت الحملة بيروت وشملت لبنان كله -أمر مستبعد لتشبث اللبنانيين في معظمهم بالطائفة سياسياً واجتماعياً- وأصرت على سقف مطالبها وحققته وبلورت التحرك العفوي في إطار تنظيمي عابر للطوائف وللأحزاب فستكون لبنان أمام مكون جديد في معادلة السياسة اللبنانية لم تغب إرهاصاته ومحاولات خلقه منذ 2011، خاصة فيما يتعلق بالأطر النقابية التي جرى فيها أكثر من محاولة على مدار السنوات القليلة الماضية لكسر معادلة المحاصصة الطائفية.

استقالة الحكومة

ويتبقى السيناريو الأقرب للواقع والناجز للجميع هو استقالة حكومة سلام وإنجاز قانون انتخابي جديد، وآلية الاثنين ستكون مرهونة بمدى الشد والجذب بين مكونات الطبقة السياسية اللبنانية المرتبط معظمها بمواءمات إقليمية، وكذلك ما بين وتيرة التفاعل بين الشارع اللبناني والطبقة السياسية، وإن يذكر هنا أن مظاهرات السبت الماضي على صداها الواسع لم يكن عدد المشاركين فيها يتجاوز 10 آلاف، فيما تجاوز تظاهرات 8 و14 آذار المؤسسة للتكتلين حاجز المليون لكل مظاهرة. وهو ما يعني أن التحرك الأخير في الشارع على خلفية أزمة النظافة وما آلت إليه من مطالب سياسية منها إسقاط الحكومة وانتخابات برلمانية على أساس قانون جديد، يحتاج إلى حامل سياسي أو تنظيمي يستطيع الدفع بهذه المطالب وخلق حالة من التوازن بين القوى السياسية اللبنانية التي يرى بعضها أنها تتقاطع مع هذه المطالب. وإن قطع بيان المعتصمين وحملة "طلعت ريحتكم" الطريق إلى ذلك كونهم رفضوا أن يستغل حراكهم من جانب أيٍّ من 8 أو 14 آذار.. مشيرين إلى "رد قاس" حال تكرار محاولة دخول وزيرين إلى مكان الاعتصام.

وتبقى في المقابل، فرضية التصعيد، وهي الفرضية الأسوأ حيث فض الاعتصام بالحل الأمني والذي ربما يكون مشاركاً فيه الجيش اللبناني، سيجعل الأمور تنزلق إلى مستويات من العنف تؤججها ظروف البلد المتعثر سياسياً وأمنياً. ولكن إذا ذهبت القوى السياسية إلى توليف حل يشمل تحقيق مطالب الاعتصام أو بعضها، والتي يتقاطع معها قوى سياسية لبنانية مؤيدة لإنهاء حالة التمديد الذاتي للبرلمان، وإجراء انتخابات وفق قانون جديد، يعني هذا بزوغ قوى جديدة في الشارع اللبناني استطاعت أن تحقق مطالب هامة وأتت على خلفية مطلب اجتماعي مثل حل أزمة النفايات، وفي ظل تدهور الأحوال المعيشية فأنه سيكون من غير المستبعد أن يتكرر ذلك فيما يخص الماء والكهرباء وغيرها من القطاعات والخدمات المتهالكة، هذا إن لم تنجح الطبقة السياسية في لبنان في تفريغ أو احتواء الحراك الحالي.

القمامة في لبنان

ولا تعتبر أزمة النفايات التي فجرت لهيب الشارع اللبناني، أزمة مستجدة، ومتتبعو القرارات الحكومية بشأنها منذ العام 1994 لا يتفاجأون بما آلت الأزمة إليه اليوم.

فمع بداية العام الحالي، تحديدا في يناير الماضي، صدر ما يعرف بالقرار رقم 1 عن مجلس الوزراء، يطالب فيه مجلس الإنماء والإعمار بمتابعة العمل بصورة موقتة في الخطة الحالية للنفايات المنزلية الصلبة، على ألا تتجاوز مدة تأمين الخدمات في المطمر 3 أشهر قابلة للتمديد لمرة أخيرة ونهائية لمدة 3 أشهر أخرى.

إلا أن المطمر ظل مفتوحا، فعمد أهالي المنطقة إلى الاعتصام مجددا، وإقفاله بالقوة لأسباب شرحوها مرارا، أبرزها استحالة تمديد عقد الطمر نظرا لبلوغ القدرة الاستيعابية للمطمر حدها الأقصى، وتعريض صحة سكان المناطق المجاورة للمطمر وسلامتهم للخطر بسبب الانبعاثات السامة، وتلوث مياه البحر جراء عصارة النفايات التي ترمى فيه دون معالجة، مما يهدد الثروة البحرية ويخل ببنود معاهدة برشلونة لحماية البحر الأبيض المتوسط التي وقعتها الدولة اللبنانية منذ عام 1976. أكثر من عشرين عاما إذا، والأزمة مستمرة، في بلد يقول أبناؤه إنهم لا يزالون "أحياء بالصدفة".

وقبل أيام، قال وزير الصحة اللبناني وائل أبو فاعور، إنَّ البلاد على شفا مواجهة "كارثة صحية كبيرة"، ما لم يتم إيجاد حل فوري للقمامة في لبنان.. وتكدست القمامة في شوارع لبنان منذ الشهر الماضي وسط شلل حكومي وعجز عن الاتفاق على حل بعد إغلاق مكب النفايات الرئيسي في بيروت.. في حين لجأ بعض السكان إلى حرق القمامة في الشارع، مما أرسل أدخنة سامة فوق سماء المدينة. وقال أبو فاعور إن هواء لبنان ومياهه وغذاءه مهددون بالتلوث، داعيا إلى خروج لجنة طارئة بتوصيات فورية.

وقبيل أيام، تسلم رؤساء بلديات تعلبايا والغزة وسعدنايل 14 شاحنة لجمع القمامة في البقاع وشمال لبنان، والتي هي جزء من جهود بلغت قيمتها 1.4 مليون دولار لدعم إدارة النفايات الصلبة بشكل أفضل في لبنان بتمويل من الوزارة الإتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية.وبالإضافة إلى شاحنات جمع القمامة، يشمل المشروع الداعم لإدارة النفايات الصلبة في البلديات ال 23 الأكثر حاجة توفير 215 صندوق جمع نفايات مصنوع من الفولاذ و1887 صندوق جمع نفايات مصنوع من البلاستيك. وتلقت بلديات بعلبك وقب إلياس واتحاد الفيحاء للبلديات (طرابلس والمينا والبداوي) أيضا نظام معلومات جغرافي(GIS) لمراقبة عمليات الشاحنات في جمع والتخلص من القمامة. وقد تم الآن توسيع المشروع ليشمل 41 بلدية إضافية في جميع أنحاء لبنان.

وقال القائم بالاعمال المؤقت لألمانيا كارستن ماير - ويفهاوسن: "إن تحسين إدارة النفايات الصلبة في البلديات المستهدفة أمر بالغ الأهمية في الوقت الذي تتعامل هذه المناطق مع الحمل الإضافي في إستضافة الآلاف من عائلات اللاجئين السورية"، مضيفا: "تعود أفضل الممارسات لإدارة النفايات بالنفع على صحة كل من المجتمعات المضيفة واللاجئة". وذكر أنه في المجموع "قدمت ألمانيا تمويلا بقيمة تجاوزت 20 مليون دولار لمساعدة عمليات اليونيسف في مجالات المياه والصرف الصحي والتخلص من النفايات الصلبة خلال عام 2015. وتواصل اليونيسف والحكومة الألمانية تقديم الدعم للاجئين السوريين والمجتمعات المضيفة اللبنانية التي تتأثر بوجود النازحين".

تعليق عبر الفيس بوك