قليلٌ من كثير الذكريات

جمال القيسي

أشكُر صحيفة "الرؤية"، صحيفتي ونافذتي التي أطلُّ منها منذ سنوات على أصدقاء وصديقات كُثر. هؤلاء الذين كلما تزايدت رسائلهم الإلكترونية لي أتأكد أني لا أرقم على ماء؛ ففي زمن عدم القراءة، جميل أن يقرأ لك أحد، ولكن الأجمل أن يناقشك هذا القارئ الصديق في ما كتبت.

ثمَّة قارئ صديق مُشاكس من مسقط الحبيبة، يقول في بريد إلكتروني قبل أيام، إنه يتابع مقالاتي أسبوعيًّا، ولكنه حين يكتشف من العنوان أو السطور الأولى أن موضوع المقال سياسي يُكمله على مضض؛ لأنَّ مقالاتي السياسية مُقنعة جدا وتحبطه جدا، وتدفعه إلى اليأس من واقعنا العربي! ثم يطالبني هذا الصديق بالتركيز على النوع الآخر من أشكال مقالتي (يقصد المقالة القصصية والاجتماعية والساخرة).

سألته: مثل ماذا؟ قال: اكتب (لنا) عن الذكريات! أحب حديثك عن الذكريات.

دفعني هذا لأن أكتب:

هل استجلاب الذكريات وجلبها من مخبوء الذاكرة البعيدة حالة صحية وسليمة نفسيا؟

أعتقد أن الأمر مرتبط بالصورة التي نتعامل بها مع ذكرياتنا والأوراق المطوية من كتاب حياتنا؛ فإن كان رجع تلك الذكريات يأتي زاخرا بالإيجابية، ودافعا لحب ظروفنا تلك، وسنوات أعمارنا التي مضت، فإن البوح بتلك الذكريات واستحضارها في نفوسنا، وفتح تلك الصفحات لقراءتها ثانية، يجعلنا أكثر قدرة على التعامل مع الحياة كألبوم صور مفرحة حتى لو خلا أحد أفراد العائلة من هذا الألبوم! أو وجدنا ابتسامة الفقيد تطل علينا على ذلك النحو الذي يخترق وجداننا، ولا نملك له دفعا سوى التصبر إن عيل الصبر!

لا شيء يهوِّن من مصيبة الفقد أكثر من التعايش معها على أنها مرحلة غياب افتراضية. أجل. بالضبط كما يقول أفراد بعض المجتمعات للصغير الذي يسأل عن والدته التي ماتت إنها مسافرة وستعود قريبا.

أقول هذا رغم أنَّ الطبَّ النفسي الحديث يرفض مخادعة الصغير، ويؤكد على أن التصرف الواجب اتخاذه لسلامة الصغير النفسية أن يعرف بأنه صار بلا أم، وأن تتاح له رؤيتها وتوديعها!

هكذا يقول الطب النفسي في حالة الصغير، لكني أرى الحالة لا تنطبق على الكبار دائما؛ علينا أن نظل مقتنعين بأن فقيدنا مسافر سيعود (وأن نتواطأ أكثر فنتناسى أننا سنلحق به في سفره)!

كل ليلة أستعرض حياتي، مثل أي واحد منكم، أتوقف عند هذه المحطة أكثر من تلك، لاشك أن المرحلة الحالية هي أكثر ما يسيطر على أفكار وهواجس ومراجعات ما قبل النوم (80% حسب دراسات حديثة)، لكن حين تمتد فترة الوصول إلى حالة النوم أكثر، سينسحب التفكير إلى أدنى درجات السلم، وسنواتنا الأولى، صعودا إلى درجة العمر التي نحن فيها أو عليها من سلم الحياة.

طالتْ فترة وصولي لحالة النوم قبل ليال؛ فتذكرت وأظن أني كنت إيجابيا، وأقلب ألبوم صور، فتذكرت:

قبل 45 عاما وُلدت. في بيت بلا كهرباء، ولكن فيه مكتبة صغيرة. وصرت أكبر إلى جانب الشقيقات الثماني الجميلات الطيبات الرائعات. هن رفيقات العمر المتعب. أسقيهن ذوب مهجتي، وأبذل روحي في سبيل أن لا تغضب إحداهن مني. كل ليلة لا ينام قلبي دون أن أقول لكل أميرة فيهن: تصبحين على محبتنا يا سيدتي.. وحق هذا العمر يا سيداتي ما كانت لتكون حياتي وارفة بالأمل، من دون حضور أرواحكن الباهية النقية.
لولا رحيل شقيقتنا الحبيبة "بسمة" في بهاء الثلاثين من شبابها، لكان طعم الحياة لا يزال في قلبي كما هو يوم بدأت معكن رحلة الحياة. لكنها حاضرة بيننا بكل ألقها وبهجة حضورها وثقافتها.

مع شقيقات روحي بدأت الحياة. برفقتهن وظلالهن. وأصابتني منهن العدوى الحسنة في أشياء كثيرة؛ قلب رقيق. دمعة تسيل بسرعة. روح تخاف الوداع، ويعذبها غياب الأحبة. وسخرية وقوة انتقلت إلينا جيناتها من الوالد -رحمه الله- ومزاج عصبي من الوالدة. (ولك أن تتخيل زوجة ذات مزاج عصبي وزوج ساخر وقوي)! كانت "بسمة" الأقرب لنا ولي تحديدا؛ أول مرة وآخر مرة رأيت فيها دموع أبي كانت يوم رحيل بسمة صباح أربعاء.

بسمة علمتني القراءة والكتابة قبل دخولي المدرسة، وأدخلتني عالم المطالعة؛ لأنها كانت أمينة المكتبة الصغيرة في بيتنا. تلك المكتبة التي تركها لنا شقيقاي. الشقيق الأكبر "فهد"، جبل المحامل -أطال الله في عمره- غادرنا وطعن في صحراء الغربة سعيا في مناكب ليبيا، ولمّا يبلغ الثانية والعشرين، كما غادرني والشقيقات، بعد فهد بقليل، الشقيق ناصر -أطال الله في عمره- حيث يمَّم بوجهه وروحه المتمردة صوب إيطاليا للدراسة، ولما يبلغ التاسعة عشرة. ومن بعد سفرهما تفرغت وبسمة لالتهام الكتب. كتب كتب كتب. ليل نهار.

وبعد سنوات طويلة، أضفت للمكتبة 4 كتب من تأليفي. 3 مجموعات قصصية ورواية.. سأظل أتمنى لو قرأتها بسمة تحديدا.

حين أضيف أمي إلى شقيقاتي الثماني؛ أتأكد أنني كنت أعيش بين 80 امرأة؛ حيث تتفوق أمي على عشرات النساء في رقة القلب، وفيض حنان القلب، وسرعة انفلات الدموع، والحنين إلى الماضي كيفما كان.

*****

ما رأيك يا صديقي.. هل يكفي هذا القليل من كثير الذكريات؟

تعليق عبر الفيس بوك