المجتمع يُصادر الفكر!

علي المطاعني

في السابق، كان مقص الرقيب للصحفي أو الكاتب بالمرصاد، يحجب كل موضوع خارج عن السياسة الإعلامية، أو لا يتوافق مع توجهات الصحيفة أو مزاج مسؤول التحرير، وعدم الحرية في الكتابة يرجعه الكثيرون إلى مستوى الرقابة على الجرائد، وشاع عن الصحافة العربية أن مستويات الحريات بها ضئيلة بسبب هذه الممارسة وغيرها.

أما اليوم، فإنَّ الكاتب يتحسَّب لرقابة المجتمع، وماذا سيُقال عنه لو انتقد سلوكيات مجتمعية أو طالب بسن تشريعات أو فرض رسوم أو ضرائب لمصلحة البلاد؛ لذا تجده يتوجَّس من طرح هذه الأمور، تلافيا لردة الفعل المتوقعة وللأوصاف التي يمكن أن تطلق عليه في مواقع التواصل الاجتماعي التي ما أنزل الله بها من سلطان لوقعها وحجمها عليه، والكثير منها يؤسف عليه بأن يصل الحال بنا إلى هذه المستويات في التخاطب والتعاطي بعد خمسة وأربعين عاما من العلم والمعرفة.

فبعض التعليقات تتهمك بأنك مع أو ضد الحكومة أو تدافع عنها، في حين أنَّ الأمر ليس بهذه الصورة الضيقة عندما يكتب الكاتب، ويذهب البعض على غير فطنة بأساليب التخاطب إلى التخوين تارة، والتشكيك في قصدك تارة أخرى، في حين أنك تعبر عن وجهة نظر وتكشف وترشد إلى أفضل الحلول لمواجهة المشكلات والتحديات كإحدى مهام الإعلامي في المجتمع، بألا يكون إمعة وإنما له آراؤه وفكره الذي يقول "لا" عندما تتوجَّب، و"نعم" عندما يجب أن تكون.

... إنَّ استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بطرق غير مهذبة من المستخدمين في الهجوم على من يخرج عن سياق ما يرغبونه من تسيير الأمور وفق أمزجتهم، وأهوائهم ورفض كل ما يتعارض مع توجهاتهم ومصالحهم الضيقة، لا يعكس رأيا عاما يمكن القياس عليه أو الأخذ به في تحديد سياسات أو صياغة قرارات؛ لأنه لا يخضع لمؤشرات القياس المعروفة ولا يمثل النسبة والتناسب في البحوث والدراسات؛ لذا فإنَّ أي ضجة يجب ألا تهزنا عما نرغب في تنفيذه، أو التوجس مما يثار وعكسه على مجريات الأمور، ولا معارضة لما نكتب كإعلاميين لا يجب أن تثنينا عن مسؤولية النقد للمجتمع؛ فهذه ضريبة يجب تحمُّلها في سبيل توصيل رسالة الإعلام، وإحداث توازن في الرأي العام، بل على الإعلامي تشخيص الواقع وتنبيه الحكومة لما يجب أن تتخذ من سياسات وإجراءات لمواجهة التحديات بعضها يكون المواطن شريكا فيها وليس متفرجا عليها.

إلا أنَّه -وكما يبدو في هذه الحالة- أصبح المجتمع يصادر الفكر ولا يتيح التباين والاختلاف بين فئاته وشرائحه بكل احترام وتقدير، وهنا يظهر جمود فكري يشل حالة الحراك المجتمعي المطلوب في التعاطي مع المتغيرات الحياتية التي تفرض علينا أولا تغيير نمط التفكير نحو الأفضل، وإتاحة تعدد الآراء بدون تشنج وعصبيات وتكفير وتخوين...وغيرها من مثالب الجهل والتخلف والتسليم بالأزمات والظروف التي تمر بها الدول.

... إنَّ توجيه الآراء إلى وجهة واحدة تجعل المجتمع كالأعمى الذي يمشي بدون هدى، ويظل يفكر بمنطقية واحدة عقيمة ويأخذ ولا يعطي، يرغب ولا يقدم، يطلب ولا يعمل...وهكذا دواليك يحكم على نفسه بالتخلف والتراجع والركود.

فالمجتمع الحي والقادر على التفاعل الإيجابي يحترم الآراء في المقام الأول مهما بلغت قسوتها ووطأتها عليه، ويناقش بالحجج والأدلة الدامغة التي ترد على ما يثار وتقنع الآخر بما لديه، ليس بما يتلفظ به ويتفاعل مع المتغيرات بكل إيجابية ويثق كل الثقة بأن أي إجراءات تتخذ تعود في نهاية المطاف لصالحه، فلا داع لقصور في النظرالذي لا يوقعنا في المحظور.

فالكتَّاب والإعلاميون يحيدون عن انتقاد سلوكيات المجتمع وتصرفاته خوفا من الهجوم المباغت من مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي، والتوصيفات التي سوف ينعت بها فترى الكتابات بعيدة عن الواقع وتدور في فلك التنظير والمرئيات أكثر من نقد الواقع وهذه ظاهرة خطيرة تقلص من دور وسائل الإعلام الجماهيرية وتصحيحها لما نعايشه.

فأصبح الإعلامي ينأى بنفسه عن الإشارة إلى المجتمع ولو من بعيد على سبيل المثال فإذا كتب أن مجتمعنا غير إيجابي ولا يتفاعل مع المتغيرات الحياتية التي يشهدها العالم، أو طالب بفرض الرسوم إلى ما شابه ذلك، فالويل له من وابل من رصاص الكلمات ونيران مدافع السباب والشتائم التي سوف تنهال عليه من كل حدب وصوب، لذا ترى أن هناك تراجعا في الكتابات التي تقول للمجتمع هذا خطأ، أو تحمل إشارات توجيه فقط لكي يتعاطى مع المتغيرات بما هي عليه. وإذا تحدث -الكاتب- عن تقليص بعض المزايا كالإجازات مثله كمثل الكافر والعياذ بالله، وليس بأنه يعبر عن وجهة نظر التي يجب أن تُحترم من الآخرين؛ فالإعلام يجب أن ينتقد حالة المجتمع كما يتنقد أحوال الحكومة في إخفاقاتها أو ممارساتها الخاطئة فمواجهة الرأي العام من مهام الإعلامي الذي يقول رأيه مهما كان الثمن ويناقش بكل حيادية الأوضاع التي يمر بها وما تقتضيه متطلبات المرحلة.

بالطبع.. نحن نرى أنَّ من الأهمية المكاشفة وقول الحقيقة في كل شيء؛ سواء على الحكومة أو المجتمع الذي يتطلب أن يكون جاهزا لمناقشة ممارساته الاستهلاكية الخاطئة وطرق معالجتها مهما كان وقعها، ويجب أن يفهم كذلك أن ذلك في صالحه، فليس من العدل أن نوجه الحوار وجهة واحدة وباتجاه لا يخدم المصلحة العامة أو يلبي رغبات شخصية لا أكثر ولا نراعي متطلبات المرحلة، لمجرد أننا نرغب في أن نبتعد عن الألسنة الطويلة في المواقع الافتراضية، فنحن مسؤولون عن تشكيل الوعي في المجتمع بما هو إيجابي وسلبي أيضا فالإعلام هو الناقد الأكبر لأحوال المجتمعات والموجه إلى اتخاذ سياسات إصلاح الأوضاع.

ومن الأهمية كذلك بلورة الوعي في المجتمع ليقوم على احترام الآراء والحوار الإيجابي؛ فهذه إحدى السمات الحضارية للمجتمعات وبناء قيم مجتمعية أفضل بالمتغيرات الحياتية والتفاعل معها بشكل أفضل يخدم المصلحة العامة من خلال برامج تركز على هذه القيم حتى لا تفلت الأمور إلى الحضيض.

... نأمل أن يترفَّع البعضُ في الردود، ويرتقي الكثيرون في الحوار وكذلك الاطلاع الواسع على تجارب الشعوب وكيفية مواجهة المصاعب والتحديات؛ فهذه المتغيرات قادمة لا محالة، يجب أن نتهيَّأ لها آجلا أم عاجلا، ولا ندس رؤوسنا في الرمال كالنعام.

تعليق عبر الفيس بوك