سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟(6)

د. صالح الفهدي

ثقافة العمل

حين حاول مذيع محطة الـ(BBC) أن يجس نبضَ العامل الألماني في أحد المصانع الألمانية ليرى كيف ستكون ردة فعله، أخرج هاتفه النقال فأخذ يكتبُ رسالةً نصية، وعلى الفور لمح العامل الألماني مشهداً غير مألوف في ثقافة العمل الألمانية، بل ومستنكراً، فتوجه إليه طالباً منه ألا ينشغل بالهاتف في عمله، وأن يركز على عمله. ورد هذا المشهد في برنامج وثائقي عنوانه (Make Me A German) يستهلُّ بقول إحدى الألمانيات وهي تنتقدُ ما يدور في إحدى بيئات العمل البريطانية: "كنتُ في إنجلترا في مهمة عمل تبادلية، وكان الموظفون في المكاتب يتحدثون طوال الوقت عن أشياء خاصة بهم.." ماذا لو أُرسلت هذه الموظفة إلى بلدٍ عربي..؟!! أخبرني أحد المسؤولين عن مؤسسة تتعامل مع الألمان: "لقد بدأ الألمان يتأثرون سلباً بثقافة التأجيل والتسويف من كثرة ما يسمعون كلمة بُكرة عندنا..!".

القيمة العملية التي حركت العامل الألماني ليلفت نظر البريطاني (وهو في الحقيقة مذيعٌ تقمَّص دور العامل لكي ينقل للمشاهد واقع ثقافة العمل الألمانية على حقيقتها)، هذه القيمة هي الإخلاصُ في العمل، ومنحه الوقت الخاص به، والإضرارُ بها يعني ممارسة الغش والتدليس والتحايل واستلام راتب غير مُستحق..! وهي في ديننا تندرجُ في قول رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام: "من غشنا فليس منا".. الغش هنا لا يعني الفساد في السلعة، وإنما هو أشمل إذ يعني الفساد النفسي..!

وفي دراسة أُجريت على المجتمع الألماني حملت سؤالاً أساسيا: لماذا يعملُ الألمان ساعاتٍ أقل (عن الأمريكيين واليابانيين) ولكن بإنتاجية عالية؟ كانت الإجابة التي تحصَّلت عليها الدراسة: الإخلاصُ في العمل..! وسر ذلك في الآتي:

أنَّ الألمان في عملهم لا يُركزون انتباههم في أي موضوعٍ لا يخص العمل، ويجتهدون لإنجاز أعمالهم بصورة دؤوبة، فلا وقت لديهم للقيل والقال، والشائعات، والتظاهر بالعمل حين يمر المسؤول، ومطالعة مواقع التواصل الاجتماعي، والأحاديث التي لا تمت بصلة للعمل، وكثرة الكلام المنمق مع المسؤولين؛ فهذه جميعها في ثقافة العمل الألمانية غير مقبولة من زملاء العمل قبل المسؤولين الألمان..! يقول أحد العاملين في ألمانيا: "الألمان يعملون بجهدٍ شديد، ويلعبون بجهدٍ شديد"؛ ولذلك ترى اللاعب الألماني قد تميز بالصلابة والقوة والجهد حتى نهاية المباراة..! مشهده في الملاعب الرياضية يعكس ثقافة العمل لديه القائمة على التركيز الشديد، وحصر الجهد للعمل..!

كما أن ما يميز ثقافة العمل الألمانية دقتها في القوانين والأنظمة المتعلقة بالعمل وإنجاز المشاريع حتى لا يكاد يفوتها شيءٌ من الإجراءات والأنظمة التي يتوجبُ الالتزام بها في مشروعٍ من المشاريع بما في ذلك العقوبات المترتبة على التأخير..! هذا التوجه يعكس تحرُّزَهم من الوقوع في الغموض، أو اللبس، أو السير في المجهول. كما يعتبرون أن الدقة في المواعيد من الأخلاقيات العالية لديهم، لذلك فإن كل شيء عندهم محدَّد سلفاً؛ وقته ومكانه والهدفُ منه. هذا فضلاً عن أنَّ ما يُميِّز ثقافة العمل الألمانية الاتصالات المباشرة والصريحة بين الرئيس والمرؤوس، كما أن الطباع الحادة التي قد يبدو عليها الموظف الألماني وصراحته تعكسُ مدى جديته في العمل، لكنها لا تنسجم مع ثقافات أُخرى كالثقافة العربية التي تقومُ على التراتبية والهرمية والمجاملة في أغلبها..!

وإجمالاً؛ تُوصف ثقافة العمل الألمانية من غير الألمان بأنها: دقيقة المواعيد، موضوعية، عملية، منضبطة، مركزة الأهداف، عالية الجودة، موثوق بها، منظمة للغاية، مبدعة...إلخ. هذه الصفات مكَّنتْ ألمانيا من قيادة الاتحاد الأوروبي وحفظ وحدته من التفكك.

... إنَّ بناء ثقافة العمل في أي وطنٍ من الأوطان يتطلَّبُ تكاملاً من مؤسسات المجتمع؛ فالبيت الذي يتربَّى أبناؤه على عاملة منزلٍ تنجزُ وحدها أعماله من الألف إلى الياء لا يعزز ثقافة العمل في الأبناء منذ الصغر، بل يعزز فيهم ثقافة التواكل، والمحسوبية، والخمود..! والمدرسة التي تتعامل مع الدروس التعليمية وكأنها "لقم طعام" تحشوها في الأفواه لا تربي طلابها على ثقافة العمل، والجامعة التي تعتمدُ على المنهج النظري في التعليم لا تربطُ منتسبيها بالواقع العملي فيظهرُ في الكتب مجرد نظريات وفرضيات وحالاتٍ لا تتعلق بالواقع..!

إننا نفتقدُ إلى أُسس ثقافة العمل، نحفظُ الآيات والأحاديث التي ترفعُ من قيمة العمل، وتُعلي من قيمة العامل ولكن لا نطبقها..لماذا؟ لأننا لم نرسخ المبدأ الأصيل في أنفسنا وهو الذي كان الصحابة -رضوان الله- عليهم يطبقونه وهو: أنهم لا يتجاوزون آية لحفظ آيةٍ أُخرى حتى يعملوا بالأولى..! أمَّا نحن فكل ما يهمنا ختم القرآن دون التدبر فيه، وحفظ الآيات من أجل التحجج بها حتى نتحدث عن ثقافة العمل في الإسلام..هذا كل ما نفعله!

... إنَّ السببَ الكبير وراء نهضة الصين -كما هو وراء نهضة اليابان، وقد ذكرتُ ذلك سابقا- هو في تجديد القيم الكونفوشية (نسبة إلى الفيلسوف الصيني كونفوشيوس)، وفي هذا يقول (Daniel Burstein) و(Arne de Keijzer) مؤلفا كتاب "التنين الأكبر: الصين في القرن الواحد والعشرين "(إصدار المجلس الوطني للثقافة والعلوم بالكويت، سلسلة عالم المعرفة، 2001، ترجمة شوقي جلال) يسأل وانج شويبنج رئيس بنك الصين: ما هو جوهر فلسفة الصين الحديثة؟ وعلى الرغم من إحاطته المعرفية العالمية ونظرته الشبابية، إلا أن إجابته عن السؤال الذي أثاره هو بنفسه هي الإجابة التقليدية "الكونفوشية". وفي موقعٍ آخر في ذات الباب يقول المؤلفان: "والملاحظ أن الأديان والمعتقدات الصينية والأجنبية -على اختلاف شاكليتها وألوانها- تحقق رواجاً وذيوعاً في بحثها عن القيم التي يمكنها التصدي لمظاهر الأنانية والفساد والتكالب على جمع المال. ولقد أعادت دور العبادة جميعها ودون استثناء فتح أبوابها خلال الأعوام الأخيرة ويؤمها ليس كبار السن فقط (على نحو ما كانت عليه الحال في السبعينيات أو الثمانينيات) بل يؤمها كذلك الشباب ومحبو موضات العصر والنخبة المثقفة وطبقة رجال الأعمال. وبدأت تزدهر معتقدات الإسلام والبوذية والطاوية...وغيرها من الأديان الشعبية" ويضيف المؤلفان: "وسوف يطردُ نمو وانتشار الدين خلال العقود القادمة ذلك أن دور الدين ليس مقصوراً فقط على ملء فراغ أخلاقي، بل إنَّ الحكومة التي سخرت منه يوماً وقالت إنه مخدر للشعوب، ترى اليوم أن الممارسات الدينية السوية -عن طريق تحسين الأخلاقيات الإجتماعية والشخصية- يمكنها أن تدعم وتعزز بناء أمة اشتراكية، ما دامت تعاليم الدين تضمنت جرعة من الروح الوطنية"..

الحكمة هنا ليس أن تؤمن بالمبدأ ولكن أن تطبقه "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل" (مقولة تنسب للحسن البصري رحمه الله)، وإلا ما فائدة الإيمان إن لم يتحول إلى منهج حياة؟!

أخبرتني إحدى المتطوِّعات في جماعة شبابية عن مسابقة طُرحت للشباب، يشارك بعدها الفائزون في تظاهرةٍ عالمية بإحدى الدول. المسابقة هي عبارة عن عمل بحوث نظرية حول التنوع الغذائي..! فقلت لها: لماذا بحوث؟! لما لا تكون الفكرة عملية؛ عبارة عن زراعة المشاركين في المسابقة مربعاً بسيطاً من الأرض بنوعٍ من أنواع الزراعة التي يصلحُ زراعتها، وتقديم ذلك كمشروعٍ واقعي، موثق الخطوات؟ وهنا تكونون قد حققتم عدة أهداف؛ منها: شجعتموهم على العمل، ودفعتموهم لإجراء تجربة واقعية، وحفَّزتموهم ليتعلموا بصورة صحيحة، وجعلتموهم يطعمون أنفسهم من غرس أياديهم، ونشرتم في المجتمع ثقافة العمل الزراعي...!

يبدو أنَّنا لم نُحسن توظيف تعاليم ديننا بالصورة (العملية) الصحيحة من أجل تغذية ثقافة العمل؛ وذلك بربطها واقعياً بالحياة، وإنما أبقيناها مجرد تعاليم تُحفظ ثم تصب في ورقة الامتحان..!! الأمر الآخر: أنَّ هناك من يُثري بطرقٍ مفاجئةٍ، بفسادٍ، أو رشوة، أو استغلالٍ وهذا ما يدفع آخرين إلى انتهاجٍ طريق الإثراء السريع متبعاً نفس الطرق؛ إذ يُلاحظون ذلك فلا يتقبلون أُسس ثقافة العمل لأنهم يرون متناقضاتها في الواقع..! الأمر الثالث: أن القدوات من العصاميين لا يُعرف عن كفاحهم، والمبادئ التي انتهجوها، والخبرات التي اكتسبوها، والمفاهيم التي ساروا عليهم، حتى تقدم للأجيال في المدرسة، والمجتمع والإعلام والمؤسسات المعنية بتنمية الإنسان.

تعليق عبر الفيس بوك