الأقانيم الثلاثة لثورات العرب: الدين والدولة والأصولية

قراءة في كتاب"أزمنة التغيير: الدين والدولة والإسلام السياسي"لرضوان السيد

محمد طيفوري[1]

توزعت حقول اهتمامات المفكر اللبناني رضوان السيد الأستاذ بالجامعة اللبنانية على التأليف والتحقيق والترجمة، فأعماله الفكرية تشغل مجالات علمية مختلفة، وتسعى إلى ربط حقول معرفية متباينة ومتنوعة من منطلق التكامل بين العلوم والتجسير المعرفي. فقارئ رضوان السيد يجد نفسه محلقًا في أجواء ليست في الحسبان لكثرة غزارتها ودقتها، فهو المنتقل سريعا من بحث جدلية الإصلاح والتجديد إلى مقاربة واقع ومستقبل حركات الإسلام السياسي رجوعا إلى الخصيصة السياسية للفقيه وتاريخ المعارضة في الإسلام.. عالم متكامل من الرصانة والتمكن ومراجعة الأحكام أيضا أولا بأول.

هذه المشارب الفكريّة لا تتعدد وتتنوع إلا لتجتمع وتتوحد من جديد في بوتقة المشروع الفكري لرضوان السيد، أو بصيغة أدق تنصهر مع بعضها لخدمة أطروحته الكلية حول الفكر الإسلامي القديم والفكر العربي المعاصر المتفردة، لأستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية، المتّسمة بالجمع بين الحسنيين أي التكوين المزدوج ما بين جامعة الأزهر بمصر وجامعة توبنغن الألمانية.

من أهم مباحث أطروحة السيد قوله النوعي في الدولة العربية القائم على تأسيس مفاهيمي قل نظيره في الساحة الفكرية العربية، وفي ذلك يقول في كتابه "سياسات الإسلام المعاصر": "إن المدخل العملي لقراءة مسألة الدولة أو النظام السياسي الحديث عند العرب يقتضي قراءة أركيولوجيا المصطلح السياسي قراءة دقيقة ومعاينة المسألة في السياق ذاته، وذلك لكشف طبيعة العلاقة بين الاسم والمسمى في المدى والمجال المحللين.. فهاتان العمليتان: الكشف المصطلحي، والتوازي المؤسسي ضروريتان لفهم طبيعة فكرة الدولة العربية، والفكر السياسي العربي، والخطاب السياسي العربي ومواقع السلطة في المجتمع"[2].

وكذا تحليله لقضايا الإسلام المعاصر، وبالأخص موضوع حركات الإسلام السياسي الذي ازدادت مركزيته ضمن اهتماماته البحثية وانشغاله الفكري بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001. أما بداياته فتعود إلى أواخر الثمانينيات على إثر قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، ثم مقتل السادات على يد حركة الجهاد عام 1981؛ إذ كان لا بد من مساوقة تلك المشكلات الصاعدة بجهود دراسية حسب تعبير رضوان السيد.

سُنة حافظ عليها المفكر بتوالي إصداراته حول الموضوع، ومن ضمنها الكتاب - طي الحديث في هذه الورقة - الموسوم بعنوان "أزمنة التغيير: الدين والدولة والإسلام السياسي" الذي كان عنوانا لأخر هذه الأعمال؛ التي طرح فيها السيد رؤيته - في ظل متغيرات الساحة العربية بعد الثورة - على امتداد صفحاته التي نيفت عن 300 صفحة. رؤية استطاعت أن تنسج خيوطقضايا وأسئلة اللحظة الراهنة بكل تعقيداتها على امتداد العالم العربي المتغير، وتقدمها في قالب سجالي ونضالي في ذات الآن.

جاءتهذه الرؤية مفصلة في ثلاثة أبواب، وردت معنونةعلى التوالي بعناوين: "الإسلام والدولة في الأزمنة الحديثة"، "الصراع مع الدولة الوطنية.. ومع العالم"؛ "قضايا التغيير والنهوض ومشكلاتهما"، مع تمهيداختار له عنوان "ما بعد الصراع على الإسلام"وخاتمةاستشرافية "في الإمكانات والممكنات".

تستمد الرؤية التي يطرحها السيد راهنيتها بالنسبة للباحثين والمهتمين بالموضوع من أمرين أساسيين؛ أحدهما أسلوب التنجيم الذي جاءت به فصول الكتاب، فهو لم يؤلف دفعة واحدة بل بشكل متقطع يساير فيه كاتبنا تطورات الأحداث في المشهدين العربي والإسلامي. والآخر قدرة المؤلف على الدخول في زحام التفاصيل بحثا عن التأصيل والتأسيس المفاهيمي لوقائع وأحداث قلما نتساءل عن أصولها وسياقاتها المعرفية والتاريخية.

وترجع أهمية الكتاب - في نظري - إلى ثلاثة أسباب: أحدها كون الدراسات التيتناولت حركات الإسلام السياسي بعد الثورات ما تزال قليلة جدا، وما صدر منها إلى الآن تغلب عليه السمة الانطباعية والانفعال تأثرا بالأحداث والوقائع. أما السيد فقد تناول هذه الحركاتبعمق تحليلي متعدد المستويات؛ وهو بهذا يسجل له السبق مع قلة قليلة من الباحثين ممن تناولوا بجدية جوهر ما جرى في المنطقة. والثاني: أن رضوان السيد تمكن من صهر ثلاثة موضوعات إشكالية شغلت بال الكتاب والمفكرين العرب والأجانب على حد سواء لعقود من الزمن في كتاب واحد تحت مسمى أزمنة التغيير، ألا وهي: "الدين"، "الدولة"، "الإسلام السياسي". أما السبب الثالث والأخير والأهمفهو ما عبر عنه الكاتب في استهلال مؤلف الذي عنونه بما بعد الصرع على الإسلام حين قال: "هذا الكتاب كتاب سجالي ونضالي: كتاب سجالي لأنه يعنى بمساجلة الإسلام السياسي في أصوله ودوافعه وتياراته وتحويلاته للمفاهيم، خلال ستة عقود وأكثر. وهو كتاب نضالي لأن همه الثاني طرح بدائل لإخراج التفكير الديني والممارسة الدينية من الأفق المسدود للعلائق بين الدين والجماعة، وبين الدين والدولة، وبين الإسلام والعالم".

لا بد من التنبيه إلى احتراز منهجي قبل مناقشة مضامين الكتاب، يتعلق بصعوبة الإحاطة بكل ما تضمنه الكتابمن أفكار، خاصة وأن سمتي الدقةوالتكثيف سائدة فيالقضايا التي تناولها هذا الأكاديمي اللبناني في هذا العمل المائز. على هذا الأساس اخترنا أننتولى الكتاب من خلال نقطتين محوريتين؛ نجمل في الأولى المآزق العديدة التي شهدها العالمين العربي والإسلامي، والتي حرص المؤِلف على تفصيلها على مدار أبواب المؤلَف،على أن نتوقف في النقطة الثانية عند البدائل التي يطرحها السيد في كتابه السجالي والنضالي في ذات الآن كمخرج لتلك المآزق التي تحيط بالعرب دولا ومجتمعات بعيد الثورة.

أولا: مأزق عقد ومسائل قرن

بدءا نشير إلى أن ما يطرحه السيد من أزمات في موضوعات كان الانشداد إليها يتم في كل مرة يبرز فيها حدث ذو بعد هوياتي أو تكون له تداعيات سجالية فكرية،فيختلط فيها السياسي بالهوياتي والثقافي.

وقد عبر عن هذه المآزق الثلاثة - التي نبحثها في هذه النقطة -، منذ البداية مؤكدا أن المشكلات برزت بين التوجهات الإسلامية، وبين دعاة الدولة الحديثة، وصار من الضروري العودة لمراجعة الأساسيات: لجهة معنى الدولة الحديثة وشروطها، ولجهة القيم الإسلامية الكبرى والتأسيسية، وقابليتها لدعم مشروع الدولة الحديثة أو معارضته.

يمكن إذن أن نجمل تلك الأزمات في ثلاثةمآزق أساسية (الحركة الأصولية، التيار القتالي، الدولة الوطنية)، والتي شكلت محور المساجلات التي دخل فيها العالمين العربي والإسلامي، ساسة ومفكرينوشعوبا طوال ما يقرب من قرن من الزمن،وانشغل معهم بها جزء لا يستهان به العالم الغربي(ساسة وصناع قرار، باحثين ومفكرين) بالخصوص.

1. مأزق الأصولية: صراع الشرعية والمشروعية

تعود بدايات ظهور الإسلام الصحوي أو الإحيائي كما يحلو لمفكرنا أن يطلق عليه، إلى أواسطالعشرينات من القرن المنصرم،كردة فعل وصرخةاحتجاج على التغريب والاستعمار من ناحية، وعلى "التقليد الإسلامي الرسمي" الممثل في المؤسسات الدينية العريقة من ناحية أخرى، وعلى الدولة الوطنية الظاهرة والمتكونة في حقبة ما بين الحربين العالمين من ناحية ثالثة.

تعاظم نفوذ الحركة الإحيائية لعوامل موضوعية وأخرى ذاتية، فأما الموضوعية فتحدد في سببين رئيسين: أحدهما، انحصار المؤسسة الدينية التقليديةوحيادها السلبي في القيام بالأدوار المنوطة بها داخل المجتمع،والآخرمنافسة هذه الحركة للأنظمة الاستبدادية القائمة في الدول العربية على الشرعية والمشروعية معا. في حين تحدد الذاتيةفي المنزع للعودة إلى الدين تحت وطأة هواجس وأشكال وعي تنصب في اتجاهين اثنين: اتجاه الخوف على الهوية التي يمثلها، واتجاه الإحساس بالذنب لما اعتبر ابتعادا عن الدين، وتأويلالوقائع القرنين الأخيرين باعتبارها برهانا لا يرد على ضرورات التغيير باتجاه استرداد الأصول والعودة إليها وإتباع الدين الصحيح.

أفضى كل هذا إلى عودة قوية وربط متين بين الشأن الديني والشأن السياسي، ما منح الحركة الإحيائية جرعة زائدة من الشرعية؛ خصوصا أن أولويتها ليست مسألة التقدم والنهوض بل حفظ الهوية وصونها. فهي تتأمل الجديد الغربي بالأساس، لأول وهلة باعتباره ابتداعا ثم تشكك بعده في مشروعيته وضرورته، وبخاصة إذا لم تستطع أن تجد له أصلا نصيا أو اجتهاديا، معلنة بذلك قطيعة تاريخية مع كل تراكمات الحركة الإصلاحية السابقة التي كانت تسارع إلى الاعتراف بالجديد، ومحاولة ترشيده بالتأسيس على المصلحة المعتبرة أو مقاصد الشريعةالإسلامية.

إن تلك العودة والربط بين الديني والسياسي بحسب رضوان السيد هي أخطر ما حملته الحركة الإحيائية في مشروعها بل يراها البلاء الأعظم. فهي تحيل الدولة دينا أو مؤسسة لخدمته، فيدخل الدين عمليا في خدمة هذا الفريق أو ذاك، سعيا لتخليده في السلطة مثلما فعل الحكام العرب من طريق اعتلاء حتميتي القومية العربية والاشتراكية.

في الطرف الآخر من الصورة، يقدم السيد الأخطار التي تشكلها هذه الدولة على الدين، وهي: من جهة ادعاء امتلاك الدين نظاما كاملا في السياسية والاقتصاد؛ ومن ثانية القول بتطبيق الشريعة من أجل تصحيح النظام العقدي والتشريعي أو إكماله، وإحقاق نظريته السياسية والاقتصادية؛ ولجهة ثالثة وأخيرة استخدام الدين في الصراع على السلطة بحيث يقول هذا الطرف للمواطن انتخبني لأن ديني أصح أو أفضل.

يعمد الكاتب في نقطة مثيرة إلى المقارنة بين التيار الإحيائي والتيار الشيعي بعنوان: "ولاية الفقيه وولاية المرشد"،مذكرا بداية بأن الحركة الإحيائية عند السنة ظهرت وتطورت خارج المؤسسات الدينية، بينما ظلت المؤسسة الدينية الشيعية ذات مرجعية قوية حتى في تلك الحركات والجمعيات؛ لأن بعضها نشأ في قلبها، بينما حاول البعض الآخر التلاؤم معها أو التظاهر بذلك حتى لا يصدم مشاعر العامة المطمئنة إلى مؤسسة الفقهاء/المراجع.

وانتهى إلى أن الإحياء (سواء في شكله السني أو الشيعي) يستبطن فكرة أو مبدأ الدولة الدينية؛ لأنه يجعل من الدين أساسا للمشروعية في المجتمع والدولة. بيد أن المشروع الإحيائي هذا عندما تبلورت معالمه العقائدية انتهت قيادته لدى أهل السنة إلى تنظيم ومرشد، بينما انتهت قيادته لدى الشيعية إلى ولي فقيه.

يرفض السيد أطروحة الحل الإسلامي بمقولاتها الثلاث التي يطرحها الإحيائيون،فهي تحمل في نظره تهديدا لشرعية المجتمع وتوليفته المتنوعة، وتشمل في طياتها افتئاتا على الدين نفسه من ناحية. ومن ناحية أخرى لم يرد في النصوص، ولم يتعين في التجربة التاريخية للمسلمين ما يقول بذلك أو يقتضيه أو يفيده. ويستدل في هذا الصدد بقول فقهاء ومتكلمي أهل السنة بأن الإمامة ليست شأنا تعبديا، أو من حقوق الله، أو من أصول الدين؛ بل هي شأن مصلحي وتدبيري، يقوم به الناس كما يفهمون مصالحهم. وعليه فالإدعاء بأن الدين يحوي نظاما كاملا لإدارة الشأن العام تكليف للدين بما لا يطاق.

2. مأزق الجهادية:أزمة تحويلات المفاهيم

يحرص الكاتب طي تحليله ونقده لتيار الإحيائي على مقارنته بالتيار الجهادي (التيار العنفي القتالي)، لتأكيد وحدة المنشأ والأصل المشترك لظاهرة الصحوة الإسلامية التي تفرقت فيما بعد شيعا وجماعات.

ويؤصل لظهور هذا التيار لا إلىموجة الجهاديات التي انطلقت منذ سبعينيات القرن الماضي، بل تعود أصوله حسب رضوان السيد إلى موجة الصحوة الإسلاميةفي بدايات القرن الماضي، والتي أفرزت ثلاثة أقطاب أساسية: القطب الشيعي، القطب الإخوانيوالقطب السلفي. هذا الأخير استكان ردحا من الزمن في أحضان دولة عبد العزيز آل سعود (المملكة العربية السعودية) قبل الخروجللمواجهة والظهور على واجهة الأحداث إبان فترة الحرب الباردة.

وجد هذا التيار - أو بالأحرى التيارات -نفسه بين أحضان الغرب إبان فترة الحرب البادرة في جبهة موحدة ضد الاتحاد السوفياتي المعادي للدين، بيد أن هذا التحالف الظرفي سرعان ما تحول إلى عداء وصراع بتأسيس "الجبهة الدولية للجهاد ضد الصليبين واليهود"التي وجهت أعمالها ضد الغرب في مرحلة أولى، قبل أن تنقلب بعدها إلى الداخل العربيوالإسلامي مصنفة الجميع ضمن فسطاط الكفر وخارج الملة والدين.

في مقارنته بين الإحيائيين والجهاديين، يرى السيد أنهم سواسية فكلا التيارين يقول بفقدان الشرعية في دولنا أو في دولنا ومجتمعاتنا معا. لكن الفارق الأساسي بينهما يتجلى في كون الجهاديين تأصيليين، بينما الإخوان تنظيميون؛ إذ الشرعية عند الجهادي تجد أصولها ونصوصها في الكتاب والسنة، وهو يريد ضرب الدولة القائمة ثم فرض نمط العيش الإسلامي وفق منظوره وكما يفهمه. بينما الشرعية لدى الإحيائيين لا ترتكزفي الفكرة بل في التنظيم، وهكذا ففي المجتمع شرعية باقية من نوع ما تمثل في تنظيم الجماعة.

في خضم نقاشه هذا، يثير الكاتب مسألة في غاية الدقة تتعلق بالفاصل الجوهري بين التيارين، والذي يحدد قوة هذا التيار عن ذلك، وتتعلق بقدسية التنظيم إذ هو الطرف الوحيد في المجتمع الذي يحتضن الفكرة بكاملها في اعتقاد منتسبيه من الإحيائيين. بينما تتفتت الحركات الجهادية تبعا للاختلاف في دقائق النصوص وتفاصيل الفتاوى؛ لأن مضمون النص وفكرته أهم من الإطار والشكل التنظيمي، بينما قد تختلف تكتيكات الإخوان واستراتيجياتهم لكن تنظيمهم يبقى عصيا على التفتت، لأن الحزب أو الحركة أقوى من الفكرة أو بعبارة أخرى أن الفكرة لا تقوم إلا بالتنظيم.

هنا إذن تظهر قوة التيار الإحيائي الكامنة في التنظيم، وكذا قدرته على الاستمراريةوالصمود في مواجهة كل العقبات والتحديات التي قد تعترض مشروعه، على النقيض من التيار العنفي الذي سبق للمؤلف أن نبه إلى أن أطروحته إلى زوال في كتابه "الصراع على الإسلام" حين يماثل بينها وبين الحركات العنيفة التي عرفها اليسار المحلي والعالمي.

بالرغم من كل ذلك يبقى التيار العنفي مأزقا لا بد من مواجهته، خصوصا وأن بعضا من شباب هذا التيار- حسب رضوان السيد - يعتبروننا مسلمين أقل من اللازم بكثير؛ وهم مقبلون على أسلمتنا على طريقتهم، وفي ذات الآنيعملون على استعداء العالم تجاه الإسلام والمسلمين على السواء.

3. مأزق الدولة:أزمة في الشرعية

يُولي الكاتب مسألة الدولة في العالم العربي الإسلامي اهتماما بالغا بدءا بتحييد المفهوم، إذ يؤكد أن تجربة الدولة عنده ترتبط بالأزمنة الوسيطة، مع حفظ أصولها وتطوراتها المحدودة بالزمان والمكان. مع رفض مطلق لبقاء الفكر الإسلامي أسير سردية فضائل دولة الراشدين ومساوئ السلطة في ديارنا.

يعود أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية إلى الجذور الأولى لبدايات الصراع بين أرباب السيف وأصحاب القلم بحثا عن التأصيل لها، لكن الأساسي في أطروحة المؤلف هو تلك العودة التفصيلية إلى الدولة منذ القرن التاسع عشر؛ أي الدولة من المنظور النهضوي. فالتفكير الإسلامي في الدولة - من وجهة نظره - مرت بأربع مراحل أساسية:

أولا؛ دولة المؤسسات والمصالح العمومية مع الطهطاوي والتونسي.

ثانيا؛ الدولة المدنية والحكم المدني في الإسلام مع عبده وعبد الرازق.

ثالثا؛ الدولة الدينية والخلافة الإسلامية والإمامة العظمى مع رشيد رضا والإحيائية الإسلامية.

وأخيرا؛ الصحوة الإسلامية والنظام الإسلامي الكامل.

تولد عن المرحلة الأخيرة اضطرابات شديدة وصراع بين الدولة القائمة (النظام السياسي) ذات الطابع العسكري الاستبدادي والأمني القمعي وأصحاب المرجعيات الدينية، ما أفضى إلى مواجهة ثنائية جعلت أصحاب هذه المرجعيات في صف ضد الدولة والمؤسسات الدينية التقليدية في صف أخر.

لقد كان لهذا الأمر، ولطبيعة المواجهة بين الطرفين بالغ الأثر على علاقة الدين بالدولة من ناحية، وعلى ظهور الأصوليات الراديكالية الدينية من ناحية أخرى. ما أثر - وبشكل سلبي - على تبين أي رؤية استشرافية واضحة لعلاقة الدولة بالدين في العالمين العربي والإسلامي.

ثانيا: مدارات الإصلاح بعد الثورة

يحرص رضوان السيد طيلة أبواب الكتاب على إبراز الجانب النضالي في عمله، من خلال قوته الاقتراحية الصادمة - في بعض الأحيان - بسبب المنسوب الزائد من الجرأة والشجاعة الذي تتضمنه أولا، وقدرته الرصدية والتشخيصية لواقعنا العربي والإسلامي بعد الثورات العربية ثانيا.

هذا النضال لا ينحصر عند كاتبنا في تقديم الحلولالسريعة والجاهزة فقط بل يتجاوزه إلى إشراك القارئ معه في متوالية من الأسئلة؛ استنكارية أكثر مما هي استفهامية، الداعيةإلى التفاكر بصيغة النحن تمهيدا لما سوف يطرحه من رؤى وحلول من قبيل: لماذا قامت الثورات في أصلها؟ هل قامت لإكمال الدين أو تطبيقه؟ أم قامت لتحسين إدارة الشأن العام وإصلاحه؟ ما كان الإسلام ولا كانت شريعته سائدة في مجتمعات المسلمين ومعروفة في العالم منذ آماد كما هو عليه الأمر اليوم، فلماذا هذا الخطل الذي يستمر في الرؤى والمفاهيم، وهو خطل يشكل خطرا على الدين وشريعته، وعلى مجتمعاتنا وسلامتها الدينية والقيمية والإنسانية.

وهكذا، وعودة إلى مدارات الإصلاح التي ينتخبها الكاتب لتجاوز مأزقنا نجدها تتقاطع في مدخلين رئيسيين: يتعلق الأول بالإصلاح السياسي الذي يوليه الأولوية على أنيمهد للثاني ألا وهو الإصلاح الديني.

1. الإصلاح السياسي:مدخل التغيير المعمر

يباشر الكاتب مقاربته التحليلية، من معاينة الواقع الملموس أو "المشهد الراهن" ولا يفوته أن يسدل الستار على "المشهد العربي الإسلامي"، بكشفه على واقع آخر قابل للتحقيق، بعد أن هبت رياح الثورات التي حمل لواءها شباب كان كل مطمحهم وآمالهم إصلاح الشأن العام وتغيير واقعهم المعيش، لتتجسد فيه "الكرامة، الحرية، الديمقراطية، العدالة الاجتماعية..." وغيرها من القيم الإنسانية المثلى.

من هذا المنطلق يرى الكاتب أن المدخل التغييري في العالم العربي بعد عقود من الاستبداد والطغيان والفساد هو الإصلاح السياسي، بغيةتتمة استنقاذ مشروع الدولة الوطنية العربية من العسكريين والأمنيين الذين اغتصبوه عقودا من الزمن، والذي بدأته حركات التغييرالشبابية بالعديد من الأقطار، وهو المشروع الوحيد والضروري لحياة العرب الحاضر ومستقبلهم.

يرى مفكرنا أن فشل تجربة الدولة الوطنية وقصورها في العالم العربي كان جزءا من الأزمة (المأزق) الذي ولد الراديكالية. فالاستبداد ضيق المجال السياسي مما دفع الشباب "المتدين جدا" إلى الخروج للهوامش وساحات القتال.

على هذا الأساس يصر أن الإصلاح السياسي هو البوابة لكل تغيير في العالم العربي، خصوصا بعد نسائم الثورات العربية التي حمل مشعلها شباب بوعي جديد يقطع مع جيل الهزائم المتوالية منذ خروج الاستعمار. وغاية هذا الإصلاح في الدول والأنظمة العربية هو التطوير في اتجاه صون المصالح الوطنية وتحسين شروط العيش، والعمل على حل المشاكل الاقتصادية والسياسية والإستراتيجيةالمتراكمة داخليا (محليا ومركزيا) وخارجية (إقليميا ودوليا).

ولا سبيل لتحقيق ذلك إلا بتقوية فكرة الدولة ودعم أسسها وتجديد هياكلها، أملا في تصحيح المسار السياسي، وصون المصالح العامة للأمة والتطور نحو الأفضل. أكثر من ذلك يرى مفكرناأن الإصلاح السياسي شرط ضروري وجسر عبور صلب ومتين نحو الإصلاح الديني، وانتظام العلاقة بين الدين والمجتمع والدولة.

2. الإصلاح الديني: مدخل الاستقرار المثمر

يقر رضوان السيد بأن الإصلاح الديني سيكون رديف الإصلاح السياسي، متى تم هذا الأخير وفق الضوابط التي يلزم أن تتوفر فيه، إذ تحققه سيسمح بقيام إصلاح ديني، تقوده نخبة من العلماء ممن تحرروا تماما من أوهام الإسلام السياسي في الاستيلاء على الدولة باسم الشريعة. فالإسلام السياسي من منظور الكاتب لم ولن يشكل أبدا اتجاها جديا للإصلاح، فهو في الأصل مجرد انشقاق. علاوة على حمله مشروعا مستحيلا لإقامة دولة دينية تفسد الدين بإدخاله في بطن الدولة الطاحن.

إن الإصلاح الديني الذي ينشده مفكرنا يحتاج أولا لجهد كبير لأنه يتطلب وعيا فائقا وهادئا وعقلانيا لا تتيحه اللحظة الثائرة الراهنة (اللحظة الثورية). ويحتاج ثانيا إلى نهوض فكري بعيد المدى لا تبدو النخب المتعينة في المشهد قادرة على الاضطلاع به، فالأمر بحاجة إلى حركة نقدية جادة لمسألة "تحويل المفاهيم" والتي مارسها الإحيائيون لأكثر من نصف قرن. لعل ذلك يساعد على اجتراح تفسير تقدمي للدين في علاقته بالهوية وإدارة الشأن العام.

يتفرد طرح رضوان السيد حول الإصلاح الديني في رفضه للإصلاح الديني، الذي يطلبه كثيرون، ودخلت فيه كثرة كاثرة من المفكرين العرب تشبها واقتداء بتجربة الإصلاح البروتستانتي. بل يعيد اتجاهات البوصلة إلى ما حاوله مسلمون عرب وغير عرب منذ حوالي القرن من الزمان، ليسترشد بها ويواصل على هديها ما بدأه هؤلاء بحثا عن اجتراح تأويل مستنير للإسلام.

مطمح هذا الإصلاحوغاية غاياته وضع حد للصراع داخل الإسلاموالمجتمعات المسلمة والدول الإسلامية، وهو بذلك يستمر على أطروحته التي قدمها قبل حوالي العقد من الزمن في كتابه "الصراع على الإسلام" أملا في أن تفضي محاولاته البحثية الجامعة بين الوصف والتحليل من ناحية، والسجال والمجادلة من أخرى إلى تحقيق التغيير المثمر المنشود في "أزمنة التغيير".

عنوان الكتاب: أزمنةالتغيير: الدينوالدولةوالإسلامالسياسي.

المؤلف: رضوان السيد.

الناشر: هيئةأبوظبيللسياحةوالثقافة،دارالكتبالوطنية.

سنة النشر: 2014.

عدد الصفحات: 320.



[1] كاتب وباحث مغربي، جامعة محمد الخامس أكدال - الرباط، المغرب taifouri87@gmail.com

[2] رضوان السيد: سياسات الإسلام المعاصر، ....، ص 76.

تعليق عبر الفيس بوك