"الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي".. لوائل حلاق

وُلد مؤلف الكتاب وائل بشارة حلاق في الناصرة في فلسطين عام 1955 من أسرة مسيحية، وتخرَّج في جامعة حيفا، ثم انتقل إلى جامعة واشنطن؛ للحصول على درجة الدكتوراه.. ويُعتبر وائل حلاق من أهم المتخصصين في الدراسات الإسلامية في جامعات الغرب اليوم.

وحلاق باحث كندي -من أصل فلسطيني- مختص بدراسات الفقه الإسلامي، وأبرز مُؤرخ للفقه وأصوله في حقل الإسلاميات الأكاديمية في الغرب اليوم؛ فقد درس في جامعة ماكجيل المرموقة في كندا بين عامي 1985 و2009، ثم انتقل إلى جامعة كولومبيا في نيويورك أستاذاً للإنسانيات والدراسات الإسلامية في قسم دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا وإفريقيا.

ألَّف حلاق عشرات الكتب والمقالات حول تاريخ الشريعة الإسلامية وفلسفتها وما يرتبط بها من علوم بشكل عام، علاوة على الفلسفة الإسلامية وما يرتبط بها من علوم بشكل عام، علاوةً على النظرية السياسية. وقد جعلت منه أعماله الجادةمرجعاً لدارسي الفقه وأصوله ونظرياته، خاصة في العالم الأنجلوفوني. ومن إصداراته السابقة: "الفقه والنظريات الفقهية في الإسلام الكلاسيكي والوسيط" 1995، و"تاريخ النظريات الفقهية في الإسلام" 1997، و"نشأة الفقه الإسلامي وتطوره" 2005، و"السلطة المذهبية: التقليد والتجديد في الفكر الإسلامي" 2007.

رُضوان السيد

تُمثِّل كتاباته مساهمة معتبرة في موضوعاتها؛ فهي تثير الذهن للتفكير في قضايا وأفكار قد تعتبر بديهيات أو مسلمات؛ فهو في أول مقالة أكاديمية له، يرفض المقولة الشائعة في الكتابات الإسلامية والاستشراقية على حد سواء؛ من أن "باب الاجتهاد قد أُغلق"، ويذهب إلى القول من خلال متابعة تاريخية ونصية إن هذه المقولة لا تمثل الواقع الفعلي في تاريخ الفكر الإسلامي، كما كان تحدي السائد والمسلَّم به في الأدبيات الغربية حول الإسلام مجالاً مفضلاً لحلاق للاشتباك مع الاستشراق.

الكتاب الذي نراجعه نُشر بالإنجليزية في نوفمبر 2013، ونُقل إلى العربية في أكتوبر 2014. ومحاولته هذه تُعتبر تجديداً في دراساته وبحوثه. وهي تشبه دراسات نقاد الأيديولوجيات الاستعمارية مثل إدوارد سعيد وطلال أسد، لكنها تتميز بالعمق المقارن الذي لم تعرفه بحوث الآخرين (وقارن بدراسة برتران بادي القديمة: الدولتان في الغرب والإسلام).

ويقول المؤلف في مقدِّمة كتابه إنَّ أطروحة هذا الكتاب بالغة البساطة: مفهوم "الدولة الإسلامية" مستحيل التحقق وينطوي على تناقض داخلي؛ وذلك بحسب أي تعريف سائد لما تمثله الدولة الحديثة؛ فحتى بداية القرن التاسع عشر -ولمدة 12 قرناً قبل ذلك- كان قانون الإسلام الأخلاقي -المعروف باسم الشريعة- ناجحاً في التفاعل مع القانون المتعارف عليه والأعراف المحلية السائدة، وغدا القوة القانونية والأخلاقية العليا التي تنظم شؤون كل من الدولة والمجتمع. وكان هذا القانون نموذجياً (Paradigmatic)؛ بمعنى أنَّ المجتمعات والسلالات التي حكمها قد قبلته كنظام مركزي للقواعد العامة والعليا. وكما يقول جون رولز، فإن الشريعة كانت قانوناً أخلاقياً أنشأ "مجتمعاً جيد التنظيم" وساعد على استمراره.

لكن -ومع بداية القرن التاسع عشر، وعلى يد الاستعمار الأوروبي- تفكك النظام الاقتصادي-الاجتماعي والسياسي، الذي كانت تنظمه الشريعة هيكلياً؛ أي أنَّ الشريعة نفسها أُفرغت من مضمونها الأخلاقي والقيمي، واقتصرت على تزويد تشريعات قوانين الأحوال الشخصية في الدولة الوطنية الحديثة بالمادة الخام. وحتى في هذا النطاق الضيق فقدت الشريعة استقلالها ودورها كفاعل اجتماعي لمصلحة الدولة الحديثة، وأضحت الحاجة إليها مقتصرة على إضفاء الشرعية على مشروعات الدولة التشريعية من خلال اشتقاق مبادئ معينة من الشريعة، وهي مبادئ أُعيد تشكيلها وإنتاجها لمواءمة ظروف العصر الحديث.

ويرى حلاق أنَّ لدى أغلب المسلمين رغبة بعودة الشريعة بشكل أو بآخر، لكن في سياق حديث، لكن ذلك ينطوي على معضلة. فقد قبل المسلمون بمن فيهم كبار مفكريهم، بالدولة الحديثة كأمر مفروغ منه، وكحقيقة طبيعية. وهم يرون أن الدولة القومية، وهي ظاهرة حديثة غير مسبوقة كعنصر تكويني من مكونات الدولة الحديثة، قد دشنت وأطلقت عبر الدستور الإسلامي (صحيفة المدينة)، الذي وضعه النبي محمد في المدينة المنورة قبل 14 قرناً. كما يعتبرون أن مفاهيم المواطنة والديمقراطية وحق الاقتراع من إنجازات المجتمعات الإسلامية المبكرة.

ويُواجه المسلمون اليوم تحدي التوفيق بين حقيقتين: الأولى هي الوجود الحقيقي للدولة وحضورها القوي الذي لا يمكن إنكاره، والثانية هي الحقيقة الديونطولوجية المتمثلة في ضرورة استعادة شكل من حكم الشريعة. ويزيد من صعوبة هذا التحدي أن الدولة في المجال الإسلامي لم تقم بالكثير في سبيل إعادة تهيئة أي شكل مقبول من حكم الشريعة الأصلي. وخير شاهد على ذلك، المعارك الدستورية للإسلاميين في مصر وباكستان، وفشل الثورة الإيرانية كمشروع سياسي وقانوني إسلامي، وخيبات أخرى مماثلة. مع ذلك تظل الدولة الحديثة التي لا تتعارض مع تطبيق الشريعة هي القالب المفضل للإسلاميين والعلماء المسلمين والإخوان المسلمين.

وإذْ يعتبر الإخوان المسلمون في وثيقة لهم عام 2011 أنه لا تعارض للدولة (المدنية أو القومية) مع الشريعة الإسلامية، فإنَّ الكاتب يرى أنَّ التناقض وارد بالتأكيد، وأن أطروحة كتابه توضح أن أي تعريف لدولة إسلامية حديثة، متناقض ذاتياً بصورة جوهرية، وأن المسلمين يمثلون اليوم نحو خُمس سكان العالم وهم يعيشون في العصر الحديث وهم جزء من مشروع الحداثة.

وأطروحة الكتاب هي أن ذلك التناقض الذاتي الأصيل في مفهوم الدولة الإسلامية الحديثة يقوم في الأساس على مأزق الحداثة الأخلاقي. وعلى الرغم مما للسياسة والاقتصاد من ارتباط وثيق بهذا التناقض، فإنهما ينبعان من هذا المأزق الأخلاقي؛ مما يعني أن حل تلك التناقضات كقضايا أخلاقية يفضي بالضرورة إلى حل المشكلات السياسية والاقتصادية. إن التناقضات الجوهرية في أي مفهوم لدولة إسلامية حديثة، بحكم التأثير القوي للدولة الحديثة، لا تلتقط الطيف الكامل لما يوصف بـ"أزمة الإسلام الحديث" فحسب، بل تنطوي أيضاً على الأبعاد الأخلاقية لمشروع الحداثة في عالمنا من البداية إلى النهاية. وعلى هذا الأساس -يقول حلاق- فإنَّ هذا الكتاب هو مقال في الفكر الأخلاقي أكثر من كونه تعليقاً على النواحي السياسية أو القانونية.

ويوضح الكاتب أنه لشرح أطروحته، يجب عليه أولاً أن يصل إلى وصف ما يسميه "حكماً إسلامياً نموذجياً" و"دولة حديثة نموذجية"، وهو ما سيتناوله الفصلان الأول والثاني على التوالي؛ فالفصل الأول وعنوانه "مقدمات"، يرسم حدود مفهوم "النموذج" لأنه مفهوم مركزي في الأطروحة الكلية للباحث. يرسم الفصل الأول مفهوم "النموذج" كما سيجري استخدامه بوصفه مفهومًا مركزيا في أطروحة الكتاب الكلية.

ويسعى الفصل الثاني -وعنوانه "الدولة الحديثة"- إلى تحديد خصائص الشكل الذي يمثل الصفات الجوهرية للدولة الحديثة. ويقول حلاق إنه سيقوم بتفكيك هذه الخصائص لأغراض تحليلية.ويصف الكاتب في هذا الفصل "الدولة الحديثة النموذجية" ويقوم بتفكيك خصائصها، معترفاً بالتغيرات المتزامنة والتنوعات المتلاحقة في تكوين تلك الدولة.

وفي الفصل الثالث -وعنوانه "الفصل بين السلطات: حكم القانون أم حكم الدولة؟"- يناقش الإرادة السياسية وحكم القانون في ما يخص مبدأ الفصل بين السلطات وتطبيقه، هادفاً من وراء هذه المناقشة إلى استعراض الأطر والبنى الدستورية لكل من الدولة الحديثة والحكم الإسلامي، وتسليط الضوء على الاختلافات الدستورية بين نظامَي الحكم هذين.

أما الفصل الرابع، فهو بعنوان "القانوني والسياسي والأخلاقي"، ويسلط الضوء على الاختلافات الدستورية بين نظامي الحكم في الدولة الحديثة والحكم الإسلامي.واعتمادًا على هذه الاختلافات، يستكشف الباحث معنى القانون وعلاقته بالأخلاق. ويؤكد هذا العرض الفلسفي أساسَ الاختلافات النوعية بين المفهوم الأخلاقي للدولة الحديثة والحكم الإسلامي. ويتحول في الجزء الثاني من الفصل الرابع إلى عرضٍ ذي طابع سياسي. وستتعزز هذه التباينات القانونية-الأخلاقية بفعل التباينات السياسية كاشفةً عن مجالٍ آخر من عدم التوافق بين الدولة الحديثة والشريعة.

والفصل الخامس -بعنوان"الذات السياسية والتقنيات الأخلاقية لدى الذات"- ينتقل من المستوى الكلي إلى المستوى الجزئي، ومن أنظمة التفكير والسياسة إلى عوالم الذات والذاتية. ويرى الكاتب في هذا الفصل أن الدولة القومية الحديثة والحكم الإسلامي يميلان إلى إنتاج مجالين مختلفين من تكوين الذاتية، وأن الذوات التي ينتجها هذان المجالان النموذجيان تتباين تباينًا كبيرًا؛ الأمر الذي يولد نوعين مختلفين من التصورات الأخلاقية والسياسية والمعرفية والنفسية والاجتماعية للعالم. وتلك الاختلافات العميقة بين أفراد الدولة القومية الحديثة ونظرائهم في الحكم الإسلامي إنما تمثل التجليات المجهرية المصغرة للاختلافات الكونية المادية والبنيوية والدستورية، وكذلك الفلسفية والفكرية.

والفصل السادس -بعنوان "عولمة تفرض حصارها واقتصاد أخلاقي"- يبحث الأشكال الحديثة للعولمة ووضع الدولة في هذه الأشكال المتعاظمة القوة. ويحاجج حلاق في أن الأشكال الحديثة للعولمة ووضع الدولة في هذه الأشكال المتعاظمة القوة، يكفيان لجعل أي صورة من الحكم الإسلامي إما أمرًا مستحيل التحقق، وإما غير قابل للاستمرار على المدى البعيد هذا إذا أمكن قيامه أصلًا. وبعبارة أخرى، يصل المؤلف إلى نتيجة مفادها: إذا جرى أخذ كل العوامل في الحسبان، فإنَّ الحكم الإسلامي لا يستطيع الاستمرار نظرًا للظروف السائدة في العالم الحديث.

أما الفصل السابع والأخير -وعنوانه "النطاق المركزي الأخلاقي"- فيبحث مآزق أخلاقية حديثة، مع الإشارة إلى أسسها المعرفية والبنيوية، بصفتها تؤسس لأصل الأزمات الأخلاقية التي واجهتها الحداثة في كل صورها الشرقية والغربية. ويتفحص الكاتب هذه المآزق الأخلاقية الحديثة مع الإشارة إلى أسسها المعرفية والبنيوية بصفتها تؤسس لأصل الأزمات الأخلاقية التي واجهتها الحداثة في كل صورها الشرقية والغربية.

ويحاول الباحث في أطروحته إثبات استحالة فكرة الحكم الإسلامي في العالم الحديث، وهي ناتجة بصورة مباشرة عن غياب بيئة أخلاقية مؤاتية تستطيع أن تلبي أدنى معايير ذلك الحكم وتوقعاته؛ فمن الضروري ربط هذه الاستحالة الأخلاقية بالسياقات الإشكالية الأكبر التي أفرزتها مشكلات الحداثة الأخلاقية. وبناء على ذلك، يزعم حلاق أن هذه الاستحالة هي مجرد تجلٍ آخر لمشكلات أخرى عدة، ليس أقلها شأناً الانهيار المطرد للوحدات الاجتماعية العضوية، ونشأة أنماط اقتصادية استبدادية، إضافة إلى ما هو أكثر أهمية من ذلك، ألا وهو الدمار الشامل للموائل الطبيعية والبيئة.

ويقول حلاق إنَّ الفرضية التي ترى أن مفهوم الدولة الإسلامية الحديثة مستحيل التحقق ومتناقض ذاتياً تنطوي على سؤالين مضمرين يجب أن نتناولهما من البداية. أولاً: إذا كانت هذه الحالة غير متصورة؛ فربما يتساءل المرء عن الكيفية التي حكم بها المسلمون أنفسهم في ضوء الحضارة العظيمة التي صنعوها والإمبراطوريات التي بنوها، وعن شكل الحكم الذي مارسوه. ثانياً: في ضوء هذه الاستحالة، ما هو نمط الحكم السياسي الذي يتبعه المسلمون في الحاضر، ويحتمل أن يتبعوه في المستقبل؟

ويضيف الباحث بأنَّ الجزء الأخير من سؤاله المتعلق باستشراف المستقبل ليس في صلب أطروحته وهو مجال بحث كتاب آخر لمؤلف آخر.

ويرى حلاق أنَّ النخبة القومية -بعد الاستعمارية- قد حافظت على هياكل القوة التي ورثتها من التجربة الاستعمارية. وكقاعدة عامة، فإنها غالباً ما اتبعت السياسة الاستعمارية نفسها التي حاربتها أثناء الحقبة الاستعمارية بعدما نالت بلادها ما يطلق عليه اسم الاستقلال؛ فقد ورث هؤلاء من أوروبا دولة قومية جاهزة بكل هياكل القوة المكونة لها، لكن لم تكن التكوينات الاجتماعية القائمة قد تهيأت لها على النحو المناسب. فالمفهوم النموذجي للمواطن الذي لا تقدر دولة على الاستمرار من دونه، ظهر بشكل بطيء.

كما أنَّ الفراغات السياسية الباقية بعد انهيار البنى التقليدية لم تملأ بشكل مناسب. لذلك فإن الدولة القومية لم تستقر في العالم الإسلامي، كما يدل على ذلك قيام الجمهورية الإسلامية في إيران؛ حيث أخضع جهاز الدولة مبادئ حكم الشريعة وشوهها؛ مما أدى إلى فشل كل من الحكم الإسلامي والدولة الحديثة كمشروعين سياسيين. ولم يكن الوضع أفضل في دول إسلامية أخرى؛ لأنَّ التنظيم السياسي الذي سارت عليه هذه الدول كان ولا يزال سلطوياً وقمعياً. كما أن اقتباسها الشريعة كنمط حكم لم يكن جاداً في الالتزام بالشريعة الأصلية. وبعبارة أخرى، فإن هذا الفشل ظهر في كل المستويات تقريباً.

وبناءً على ذلك، يقول حلاق إنه مضطر إلى رفض التجربة الحديثة في العالم الإسلامي باعتبارها فشلاً سياسياً وقانونياً ذريعاً، لا يمكن تعلم دروس منه عن كيف يمكن للمسلمين حكم أنفسهم بطريقة مناسبة؛ لأن دولهم لم تستجب كما ينبغي لأي تحد حقيقي. فالشريعة التي تظهر دائماً في دساتيرهم بوصفها أحد مصادر التشريع أو مصدره الأساس، ميتة مؤسسياً ومساء استخدامها سياسياً. وهو يرى أنه إذا أخذنا الدعوة المعاصرة إلى عودة الشريعة على محمل الجد، فإننا لا يمكن أن ننظر إلى الممارسات القانونية والسياسية المعاصرة على أنها جديرة بالاهتمام، كنموذج أو مجال خطابي يمكن أن نتعلم منه. فالدولة الحديثة في العالم الإسلامي ليست مصدراً للإلهام، كما أن ما يطلق عليه اسم شريعتها هو في حالة رثة. ويقترح حلاق غض الطرف عن التجربة الإسلامية الحديثة وشريعتها وإخراجها من الاعتبار، والتركيز على ما عنته الشريعة للمسلمين على مدار اثني عشر قرناً قبل الحقبة الاستعمارية عندما كانت ظاهرة نموذجية. ويقول إن ممارسات تطبيق الشريعة في الدولة الإسلامية الحديثة لا صلة لها بأطروحته ولا يمكن اعتبارها -ويجب عدم اعتبارها- مقياساً لفهم الشريعة وتقويمها والحكم عليها كنموذج سابق على العصر الحديث.

لكنَّ الباحث يعود إلى السؤال السابق: كيف إذن حَكَم المسلمون أنفسهم على مدار 12 قرناً من تاريخهم قبل الاستعماري؟ فإذا كانت أطروحته هي أن دولة إسلامية حديثة مستحيلة التحقق فسيترتب على ذلك حكم بأنه لم يوجد قط أي شكل للحكم في التاريخ الإسلامي قبل العصر الحديث، مما يستدعي استبعادها فيما بعد حتى كإمكانية مفهومية. ويقوم هذا الاستبعاد على حقيقة أن أصل الدولة الحديثة أوروبي حصرياً، ولا يمكن لهذه الدولة بحكم طبيعتها أن تكون إسلامية في ضوء الأصل الجغرافي والنظامي والمعرفي للدولة الحديثة. بيد أن هذا الاستبعاد يحدده أيضاً اعتبار غير تاريخي، ألا وهو أنه كان يوجد اختلاف نوعي بين "الدول" النموذجية الأولية قبل الحديثة وأشكال الحكم الإسلامية قبل الحديثة. إنَّ النظر إلى هذه الأشكال الإسلامية، كما فعل بعض علماء السياسة؛ باعتبارها تنتمي إلى مجموعة غير متمايزة من "الدول" قبل الحديثة، لا يعتبر انخراطاً في ظنيات غير قائمة على أسس علمية فحسب، بل يدل أيضاً على غياب الوعي بالقوى النموذجية المحفزة التي أعطت شكلاً ومضموناً لما يطلق عليه المؤلف صفة "الحكم الإسلامي".

ويرى حلاق أنَّ الكفاح السياسي والقانوني والثقافي لمسلمي اليوم ينبع من غياب الانسجام بين تطلعاتهم الأخلاقية والثقافية من جهة، والواقع الأخلاقي للعالم الحديث من جهة أخرى، وهو واقع لا بد لهم من العيش فيه، وإن كانوا لم يصنعوه بأنفسهم. ويسعى الكتاب في مجمله لإثبات هذا الزعم، فالغرب، أي أوروبا وأمريكا، يعيش على نحو ما براحة أكبر في حاضر يحتل موقعه في سياق سيرورة تاريخية صنعها هو بنفسه. فهو يعيش مرحلة شكلتها مبادئ عصر التنوير، والثورات الصناعية والتكنولوجية، والعلم الحديث، والقومية، والرأسمالية والتراث الدستوري الأمريكي-الفرنسي، وهذه كلها منتجات نشأت عضوياً وداخلياً في الغرب. وقد حذا العالم حذو الغرب في ذلك أو شعر -على الأقل- بالضغط من أجل أن يفعله. ويرى حلاق أن ليس هناك بالفعل تاريخ آخر غير التاريخ الأوروبي-الأمريكي، بل ليس ثمة تاريخ أوروبي قبل عصر التنوير. وربما أُنقذت بعض الشرائح الثانوية من التاريخ السابق؛ مثل: الديمقراطية اليونانية وأرسطو والماغنا كارتا وخلافه. لكنها تظل أموراً فرعية، إن لم تكن أداة للإملاءات التي تفرضها السردية التاريخية الحديثة وأداة لتقدم "الحضارة الغربية". ويضيف الكاتب بأنَّ إفريقيا وآسيا مستمرتان في كفاحهما من أجل اللحاق بالغرب، ولا تكتفيان بالتخلي عن مزايا البناء على تقاليدهما وتجاربهما التاريخية التي شكلت هويتهما، بل تنجران أيضاً إلى حروب مدمرة وفقر ومرض وتدمير للبيئتين الأخلاقية والطبيعية. فالحداثة -التي تحدد المؤسسات ويحدد مفكرو الغرب الحديث القوي خطابهما المهيمن- قد أجحفت بحق ثلثي سكان العالم الذين فقدوا تاريخهم، وفقدوا معه طرائق وجودهم العضوية؛ فالرأسمالية والنزعة التصنيعية ودمار البيئة الطبيعية، هي من آثار ما يُوصف بالتقدم، وما يتبع ذلك من تفكك للبنى العضوية والاجتماعية والأسرية. فانهيار الأسرة والجماعة التقليدية خلق فرداً متغرباً ومتشظياً ونرجسياً، وهو جزء لا يتجزأ من المشروع الحديث. ولا يوجد شك مطلقاً في الآثار الكارثية للمشروع الحديث على العالم الطبيعي الذي نعيش فيه، وهو مشروع غير مسبوق، ويعتبر "المقياس النهائي للإنسان"، وأكثر ما يضر الرجل والمرأة في العصر الحديث.

ويعتبر حلاق أنَّ التبعات الأخلاقية لهذا المشروع التدميري وتداعياته الأخرى معرفية في الجوهر، حيث إنها تترك آثارها على فلسفاتنا وعلوم اجتماعنا وعلومنا وتقنياتنا وسياستنا وكل ما نفعله. والإصرار على تقويم "مشروع الدمار" هذا على أساس أدبي وأخلاقي يعني التوغل بصورة معرفة عميقة في السياسة والاقتصاد والقانون وأشياء أخرى كثيرة. ويرى الباحث أنه لا يمكن تجاهل المسؤولية الإنسانية الأخلاقية حتى بمعايير عصر التنوير، فما بالك بنظائرها من المعايير الإسلامية. إن تقهقر الأمر الأخلاقي إلى مرتبة ثانوية وفصله بصورة عامة عن العلم والاقتصاد والقانون وما إلى ذلك، كان في جوهر المشروع الحديث؛ وهو ما أدى بنا إلى تشجيع أو إهمال الفقر والتفكك الاجتماعي والدمار البغيض للأرض نفسها التي تغذي البشرية وتوفر لها كلاً من الاستغلال المادي والقيمة. فقد أصبحت الدولة في هذا المشروع واحداً من أهم الفاعلين.

ويرى حلاق أنه يجب البحث عن مصادر أخلاقية في تقاليد أخرى... مصادر ربما تساعد في مغامراتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقانونية. هذا البحث قد شغل باحثين ومفكرين آخرين سابقاً؛ مثل: ألسدير ماكنتاير وتشارلز تايلور وتشارلز لارمور، الذين ركزوا على التراث الأوروبي أو اليوناني من أفلاطون وأرسطو وتوما ألاكويني، بينما يركز حلاق على المصادر الأخلاقية الإسلامية.

ويبحث حلاق نموذج الحكم الإسلامي بعد عرضه لنموذج "الدولة الحديثة"، ويعتبر أن الشريعة هي الشعار المميز لذلك النموذج الإسلامي؛ فالشريعة شكلت قانوناً أخلاقياً وتشكلت به وهو ما يفسر أهميتها بالنسبة للباحث كمصدر أخلاقي للمشروع الحداثي، أي ما يعادل أرسطو والأكويني في طرح ماكنتاير. فالشريعة كانت نظاماً أخلاقياً شكل فيه القانون بالمعنى الحديث أداة وطريقة خاضعتين للمنظومة الأخلاقية العامة ومنشبكتين فيها، لكنها لم تكن غاية في حد ذاتها. فالقانوني في الشريعة أداة للأخلاقي وليس العكس. وبحكم كونها نظاماً مركزياً، كانت الشريعة هي المقياس الذي يجري على أساسه تقويم النطاقات الفرعية، كما أنها حددت حلولها بدرجة كبيرة حول تلك النطاقات. ففي المجالات الفكرية، حددت أولويات من وضع الشريعة بنية التعليم الإسلامي. ونطاق الشريعة هو الذي خلق مجالات مثل اللغة وعلومها والتفسير والمنطق والبلاغة والجدل ونظرية المعرفة وطورها وصقلها، بل إنَّ الرياضيات والفلك -اللذين أصبحا أسس العلم الأوروبي الحديث في مرحلة مبكرة- تطوَّرا بدرجات مذهلة استجابة لدوافع شرعية. وفي المجال العملي، فإنَّ الحياة الاقتصادية -على ما فيها من اضطراب- لم تخضع لأحكام الشريعة التقنية فحسب، بل كذلك لمنظومة واسعة النطاق من أخلاق الشريعة. فالمجال الاقتصادي كان ملتزماً الشريعة، لأن المجتمع، وهو موضوع الشريعة وغايتها وأساسها، كان شرعياً. وعلى الرغم من أن الحكم السياسي أقل التحاماً بالمجال الاجتماعي منه بالاقتصادي، فقد كبحته ثقافة ومجتمع لم يعرفا أو يقبلا بصفة عامة أي شيء غير الشريعة ومنظومتها الأخلاقية. لا يعني ذلك بالطبع أن الوضع النموذجي للشريعة قد ضمن حياة مثالية؛ فالشريعة كغيرها من النماذج اضطرت للعيش في مجتمع مضطرب كان بحاجة دائمة لأشكال معينة من النظام والتنظيم، شأنه شأن أي مجتمع آخر. وقد عرف هذا المجتمع، الفلاحَ المرهق بالضرائب والمجرم والمرابي الوقح والزوجة التعيسة المهانة. وكأي مجتمع آخر، كان للمجتمع الإسلامي نصيب من البؤس. فقد كان له من غَزَوهُ واحتلوه، كما كان له متمردوه ونشالوه ولصوصه وقطاع طرقه، بل وقضاته الفاسدون أحياناً. لكن المثال الأخلاقي الإسلامي كان مهيمناً دائماً بلا منازع، واستمرت خطاباته وممارساته النموذجية في تأكيد نفسها بالإنتاج المستمر لنظام معين؛ فالنجاح الدائم والكامل ليس من حظ أي مجتمع، ولكن الفاعلية النموذجية للاتجاه الأخلاقي أمرٌ ليس محلَّ شك. فلطالما سعى النموذج إلى تحقيق تلك الغاية الأخلاقية ففشل أحياناً ونجح في أغلب الأحيان، وذلك بالتحديد ما جعله نظاماً أخلاقياً. وقد ارتكز النظام في مجمله على مفهوم الجهاد، ذي السمعة السيئة اليوم، نظراً لتعريفه بصورة حصرية مؤخراً على أساس فكرة كارل شميت الشائعة عن السياسي. فالجهاد في الأساس، هو بذل الجهد الذي لا غنى عنه من أجل تحقيق الغاية الأخلاقية.

ويقول حلاق إنه يقوم بتعريف العلاقة بين الذات المسلمة الحديثة والشريعة؛ ذلك النظام الذي كان في عزه نظاماً أخلاقياً وقانونياً وثقافياً ونفسياً عميقاً في آنٍ معاً. ومن الواضح أن لمسلمي العصر الحديث الحق والفاعلية القادرة كي يزعموا لأنفسهم ذاتية علمانية، تعترف بالإسلام كانتماء ديني اسمي دون أن يستتبع ذلك نظاماً معيناً من الممارسات والفروض يشير لها حلاق باسم "تقنيات الذات"؛ فمشروع العلمنة هذا قد جرب وجرى تبنيه في الأرباع الثلاثة الأولى من القرن العشرين، لكن ثمة أدلة طاغية على فشل هذا المشروع بدرجة كبيرة، كما ظواهر أخرى مثل إخفاق الناصرية والاشتراكية والصعود اللاحق للإسلام السياسي بعد ستينيات القرن العشرين.

ويرى حلاق أنَّ الإسلام السياسي لا يتعلق بالعدالة الاجتماعية والمقت القوي لممارسات الدولة الغربية السياسية والعسكرية في العالم الإسلامي فحسب، فهو حركة أخلاقية -مهما تسيست- تقدم نقداً للظلم الاجتماعي والفساد السياسي والهيمنة السياسية الغربية، بالمعنى الأخلاقي، على الرغم من افتقادها الوضوح الفلسفي إلى الآن. وإذا استخدمنا منظومة شميت، فإنَّ الأخلاقي بالنسبة للإسلاميين هو النطاق المركزي المعلن، ذلك أن النطاقات الأخرى، بما فيها الاقتصادي والسياسي، "تُحل في إطار النطاق المركزي لأنها تُعتبر ثانوية، لا تُحل بصورة تلقائية إلا إذا حُلت مشكلات النطاق المركزي".

ومن هنا، تعود أهمية المصادر الأخلاقية للحكم الإسلامي النموذجي، بمعنى النموذج الملتزم بالشريعة والموجه أخلاقياً على هذا الأساس. فكما أن الغرب الحديث عول ولا يزال على خمسة قرون من التجارب والتراث، وعلى عصري النهضة والتنوير والفكر الليبرالي، فإن المسلمين اليوم يتحدون تلك السردية التقليدية ويطورون بصورة متزايدة تاريخهم الخاص -كممارسة أخلاقية خطابية- بطريقة تزودهم بمصدر خاص بهم. ولا يعني هذا أن أيًّا من خطاباتهم الأساسية تدعو إلى استعادة الشريعة بصورتها ومؤسساتها وممارساتها التقليدية وتفسيراتها التقليدية للعالم؛ فهذه الأشياء قد ذهبت بلا رجعة، بل يعني أنَّ المسلمين لا يزالون يجدون في تاريخهم -كما يجد الغرب في عصر التنوير- مصدراً يستطيعون البناء عليه لمواجهة تحديات المشروع الحديث، وهو مشروع ثبت فشله حتى في حل المشكلات التي صنعها بنفسه. إنَّ المقارنة بين الشريعة والتنوير لا تفي بالطبع بكل الأغراض، لكنَّ الشريعة -بوصفها نطاقاً مركزياً للأخلاقي- لا تمثل فقط ندًّا للتنوير وللنطاق الأخلاقي الناتج عنه، بل تملك أيضاً إمكان أن تكون ينبوعاً أخلاقياً هادياً إلى أبعد الحدود.

ويعتبر حلاق أنه على الرغم من تعطيل الشريعة مؤسسياً في العصر الحديث -بما فيها نظرياتها التفسيرية ومحاكمها وممارستها الخطابية ونظمها التعليمية ومجمل علم اجتماعها المعرفي- فإنَّ كثيراً من كوامنها النفسية والروحية لا يزال حيًّا؛ وهو ما يفسر بقاءها في الذاكرة بوصفها مصدراً أخلاقياً. وفي حين حلت القوانين الغربية محل قانون العقود الإسلامي والمعاملات التجارية وقانون العقوبات...وغيرها، فإنَّ أركانَ الإسلام وتأثيراتها العميقة لم تُستبدل. ولا تزال تلك القوانين/الأركان تحدد كون المرء مسلماً. وعليه، يُحدد حلاق عموماً المصادر الأخلاقية في ضوء تقينات الذات المتوافرة بغزارة في خطابات وممارسات أركان الإسلام؛ حيث نأت الدولة الحديثة عن منظومة الأركان التي بات يُنظر إليها باعتبارها تنتمي إلى المجال الخاص. لكنَّ حلاق يعتقد أنَّ هذا المجال يغطي ما هو أوسع من المجال العام. ومن هنا، فإنَّ البناء على تقنيات الذات لا يتضمن بأي طريقة استعادة مؤسسات الشريعة قبل العصر الحديث ولا لممارساتها أو حتى نظامها التعليمي. فهو مشروع أخلاقي من الطراز الأول، ومحاولة للبناء على الذات التاريخية من أجل التوجه الأخلاقي. مشروع يهدف إلى إيجاد فضاء أخلاقي للذات المسلمة في العالم الحديث، وهي ذات لا تقل اغتراباً عن نظيرتها الغربية جراء الحداثة. وعلى هذا الأساس، فإن استعادة المصادر الأخلاقية الإسلامية تمثل مشروعاً حداثياً بقدر الحداثة نفسها. وهي كمشروع حديث ما بعد الحداثة تفترض الحداثة وتحاول أن تتجاوزها، لكنها تظل حداثة على الرغم من ذلك.

ويقول حلاق إنَّه سيشكك في هذا المشروع كثيرٌ من المعلقين، خصوصاً من اعتاد منهم على التراث الليبرالي الغربي وقيمه، وسيتهمونه على الأقل بخطيئة الماضوية؛ فالمشروع الليبرالي لا يحتكر الحقيقة وتبني الأساس الأخلاقي الإسلامي يعني البناء على تصور للعالم يؤكد قيم الإرشاد الأخلاقي وفاعليتها النموذجية والعملية. وهي ليست محاولةً لإرجاع شريط المشروع الحديث إلى الوراء، بل محاولة لاستعادة القيم العليا والشاملة التي حددت الإسلام وطرائق حياته على مدار ألف عام، خصوصاً وأنَّ تلك القيم لا تزال توفر إجابات للمشكلات البيئية والاجتماعية والنفسية-الروحية التي ضربتها الحداثة.

 

الاستشراق الفقهي

ويقدِّم حلاق نقدًا قاسيًا للحداثة الغربية ولمفهوم الدولة الحديثة، مستدلاً في طرحه بكبار فلاسفة الغرب في العصر الحديث، على اختلاف مرجعياتهم ومذاهبهم الفلسفية والدينية، أمثال إمانويل كانط، وفريدريك هيجل، وفريديريك نيتشه، وماكس فيبر، وكارل شميت، وتيودور أدورنو، وميشال فوكو، وجون رولز، وبيير بورديو، وتشارلز لارمور، وجون كراي، ومايكل وولتزر، وتشارلز تايلر. ويلخص نقده للحداثة وتمظهرها في مفهوم الدولة الحديثة في أنها غيرت سلطة الإله كما كانت رائجة في العصر ما قبل الحداثي إلى سلطة الدولة والمؤسسات، لدرجة أنها أصبحت إلهًا بدورها، "إن الدولة أصبحت إله الآلهة...لا إله إلا الدولة".

كما سَعَى حلاق -على الخصوص- إلى تقويض إرث المستشرق جوزيف شاخت؛ حيث إنَّ الاستشراق الفقهي لا يزال أسيرَ كتاباته رغم قدمها، بل يعتقد حلاق أن شاخت أسَّس "حلقة إبستمولوجية مغلقة"، لم يخرج منها الخطاب الاستشراقي برغم تغير مناهجه واهتماماته. ويقف حلاق عند مدرسة "المراجعين الجدد" من خلال أحد أبرز رموزها، وهي باتريشيا كرون، التي أعادت بناء أطروحة شاخت في الجذور الرومانية للفقه الإسلامي، مبيناً هشاشة القاعدة المعرفية التي تستند إليها.

ويربط حلاق بين هذا الخطاب المتعلق بالفقه والمنظور السائد للإسلاميات السياسية الوسيطة؛ باعتبار "القانون الإسلامي" صياغة سياسية لشكل الدولة الدينية الشمولية في الإسلام التي تربط عضوياً بين العقدي والسياسي (اعتبرت كرون مثلاً أن الفقه اخترعه الخلفاء الأمويون تأثراً بالقانون الروماني!).

يرفض حلاق النظر إلى الفقه باعتباره مدونة قانونية بالمعنى الحديث للعبارة، كما يرفض اعتباره الأساس المعياري للكيان السياسي، مبيناً استحالة بناء تصور إسلامي بهذا المعنى للدولة على عكس ما تسعى إليه تيارات الإسلام السياسي في مشروعها لأسلمة الدولة القومية الحديثة.

ويعتقد حلاق أن مصدر الخلل في تفكير الإسلاميين المعاصرين هو عدم إدراكهم لطبيعة ونظام اشتغال الدولة القومية، التي تشكلت على أساس تركة الحداثة والتنوير.

الدولة -وفق هذا النموذج- تعكس رؤية كاملة للعالم هي رؤية النزعة الإنسانية القائمة على فكرة الاستقلالية والتميز؛ أي اكتفاء الإنسان بذاته، والفصل بين الواقع والقيم، وإسناد القيمة المعيارية للأشياء إلى التواضع الاجتماعي والحرية الفردية، أي ذاتية الإنسان الراشدة غير المقيدة بأي سقف مطلق أو مفارق.إن هذه الرؤية تختلف جذرياً عن الرؤية الإسلامية القائمة على مفهوم الأخلاق الموضوعة وحياً وتنزيلاً، والمتجاوزة لذاتيات البشر وأهوائهم والمؤسسة على قيم ومقاصد عليا ثابتة تكرس مُثل العدل والرحمة والتضامن.

بَيْد أن حلاق ينطلق من هذا التصور ليرفض استنتاج وجود بنية قانونية ترتبت على هذه المعايير المطلقة.. معتبراً أنَّ النسق الإسلامي يغلب عليه البُعد الأخلاقي، وليست الالتزامات والإكراهات سوى "آثار عرضية" للرسالة الدينية التي تحدد الأحكام وفق السياقات الاجتماعية زماناً ومكاناً مع الاحتفاظ بمسؤولية التأويل الحر والاجتهاد المفتوح.ومن هنا جمع النسق الإسلامي بين موضوعية المعايير الأخلاقية التي هي المقومات الثابتة في المنظومة الشرعية، واختلاف وتنوع سي

تعليق عبر الفيس بوك