"الدين في السياسة: جوانب دستورية وأخلاقية".. لمايكل بيري

كتاب "الدين في السياسة.. جوانب دستورية وأخلاقية" للباحث والمفكر الأمريكي مايكل بيري، مُقسَّم إلى ثلاثة فصول ومقدِّمة، وفي نهاية كلِّ فصل ملحق يضم فقرات توثيقية لقوانين معمول بها في الولايات المتحدة أو معتبرة عالمياً يستند إليها الباحث في أطروحته.

يتناول المؤلف في كتابه علاقة السياسة بالدين في إطار الصياغات الدستورية والقانونية، ضمن دساتير الديمقراطيات الغربية، ذات النظم الليبرالية التعددية؛ فعلى خلاف الدول التوتاليتارية التي اتجه عددٌ منها إلى الصدام مع الأديان وحظرها، سعتْ الديمقراطيات الليبرالية إلى احتواء الديانات في إطار صياغات قانونية ودستورية لا تتعارض مع النهج التعددي؛ إذ إنَّ جَدَل العلاقة ما بين الدين والسياسة، يُعتبر أحد أهم المجالات التي ظهرت فيها الكثير من التنظيرات في مختلف المجتمعات العالمية التي تشهد حراكًا فكريًّا وسياسيًّا مستمرًّا، بما فيها المجتمعات الغربية التي يفترض أنها حسمت أمرها، باللجوء إلى خيار العلمانية الليبرالية.

والتساؤلات الملحَّة التي يُحاول الكاتب مايكل بيري الإجابة عنها في أطروحته تدور حول الكيفية التي تم من خلالها احتواء الدين والأخلاق في السياسة وما كانت المحددات الضابطة له، وهل من عوائق كانت قائمة أثناء التأسيس أو ما زالت فاعلة في مرحلة ما بعد التأسيس، لاسيما وأنَّ الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص تشهد في الوقت الراهن تنامياً مستمراً للتيار الديني الأصولي؛ مما أعاد النقاش مجدداً عن الجوانب الأخلاقية والسياسية والمجتمعية لقضية الدين والسياسة والعلاقة بينهما.

أحمد الزعبي

يُناقش المؤلف في هذا الإطار مجموعة من الأسئلة الكبرى؛ من بينها: ما هي الحرية الدينية التي يحميها القانون الدستوري للولايات المتحدة؟ وأي دور يمكن للطرح الديني أن يؤديه في السياسة والدستور الأمريكيين؛ سواء في النقاش العام بشأن الخيارات السياسية المراد اتخاذها، أو باعتباره قاعدةً لخيار سياسي؟

ويُحاول بيري الإجابة عن هذه التساؤلات من خلال تعرُّضه لحالة الولايات المتحدة الأمريكية، والتي يخصص الكتاب لدراستها؛ حيث يرى أنَّ قضية الدور الحقيقي للدين في السياسة والدستور والفضاء العام في الولايات المتحدة، قضية مركزية وحاضرة في سياسة الولايات المتحدة؛ مُرجعًا ذلك إلى كون مواطني الولايات المتحدة هم الأكثر تديّناً في ديمقراطيات العالم الصناعي المتقدم، إضافة إلى ما بين الأمريكيين المؤمنين من اختلاف على قضايا دينية أساسية عديدة، في الوقت الذي يعيشون فيه في بلد تعددي لا يعرف النظام الواحد.

ويذهبُ الكاتب إلى أنَّ الخيارات السياسية، التي يعنيها في كتابه بصفة أساسية هي تلك التي تمنع أو تتحيز ضد نوع أو آخر من السلوك البشري بناءً على الاعتقاد بأن هذا السلوك هو سلوك غير أخلاقي؛ فيشير في هذا الإطار كنموذج، إلى أن قانونًا يمنع الإجهاض هو مثال نموذجي عن نوع الخيار السياسي الذي يقصده، وقانونًا آخر يمنع المثلية الجنسية كسلوك جنسي هو مثال آخر.

ويقول إنَّ الأطروحات الدينية التي تعنيه بصفة أساسية هنا هي أطروحات مفادها أن نوعًا أو آخر من السلوك البشري؛ مثال: الإجهاض أو المثلية الجنسية كسلوك جنسي، هو سلوك غير أخلاقي.

جدل دور الدين

أمَّا عن سؤال: "أي دور يمكن للطرح الديني أن يؤديه في السياسة والدستور الأمريكيين؟"، فيخصِّص له المؤلف الفصل الأول من الكتاب؛ حيث يطرحه في ضوء قاعدة "عدم التأسيس" والتي يخصص جزءًا من الفصل لعرض التفسيرات الأكثر عقلانية لها. ويخلص إلى أنها تتمحور حول منع الحكومة من أن "تؤسس" لدين ما، بما يستدعي عدم تقديمها أحكاماً قيمية إيجابية أو سلبية عن الأديان أو الممارسات الدينية أو المعتقدات الدينية؛ باعتبارها كذلك (أي بوصفها دينية).

وفي ظلِّ هذه القاعدة، يتساءل المؤلف: أيُّ دور مناسب (مسموح به) دستوريًّا للدين أن يؤديه، إذا وُجد هذا الدور أصلاً في سياسة الولايات المتحدة؟ وعلى وجه الخصوص: هل يكون المشرّع أو أي موظف رسمي آخر، أو حتى أي مواطن عادي، قد انتهك قاعدة "عدم التأسيس" إذا عرض طرحاً دينياً في نقاش عام عمّا يمكن تبنيه كخيار سياسي؟

فعلى سبيل المثال: هل يكون المُشرِّع قد خرق قاعدة عدم التأسيس إذا عرض، في نقاش عام عن وجوب أو عدم وجوب، الاعتراف القانوني بالزواج المثلي، طرحًا دينيًّا مفاده أن المثلية الجنسية كسلوك جنسي هي سلوك غير أخلاقي؟

وهل يكون الخيار السياسي منتهكًا لقاعدة "عدم التأسيس" إذا كان مبنيًا، ولو بشكل جزئي، على طرح ديني مفاده أن الإجهاض سلوك غير أخلاقي؟

وفي مقدِّمته التأسيسية، يقول الكاتب إنه لو كان قليلٌ من الأمريكيين مؤمنين متديّنين، فإنَّه من المحتمل أن تكون مسألة الدور المناسب للدين في السياسة مسألة هامشية بالنسبة للسياسة الأمريكية؛ لأنَّ الدين سيكون حينئذ هامشيًّا بالنسبة إليها، غير أن معظم الأمريكيين يعتنقون دينًا فعلاً.

وفي هذا الإطار، يقول بيري إنَّ مُواطني الولايات المتحدة هم من أكثر المواطنين تدينًا، أو الأكثر تدينًا، في ديمقراطيات العالم الصناعي المتقدم. ويستدل على ذلك بعدد من استطلاعات للرأي أُنجزت مؤخرًا، قالت إن أغلبية عظمى -أي حوالي 95 في المائة من الأمريكيين البالغين- "يعلنون إيمانهم بالله"، وإن 70 في المائة من الأمريكيين البالغين هم أعضاء في كنيسة أو في معبد يهودي.

ويضيف بأنه واستخلاصاً من هذه النتائج، فإنه إذا كان هناك، بين الأغلبية الواسعة من الأمريكيين الذين يؤمنون بدين، إجماع على أغلب القضايا الدينية، فإنَّ قضية الدور المناسب للدين في السياسة، تدفع عددًا أقل بكثير من الأمريكيين للانخراط في النقاش حوله، لأن القليل من الأمريكيين يخشون أن يكونوا عرضة لعقائد دينية خارجية.

ويذهبُ المؤلف إلى أنَّ الأمريكيين المؤمنين ليسوا على توافق تام بخصوص الدين في السياسية والاختلاف القائم يكون على قضايا عديدة، بما في ذلك عدة قضايا أساسية دينية أخلاقية. وبما أن الولايات المتحدة هي بلد متدين، وفي الوقت نفسه بلد تعددي (الآن أكثر من أي وقت مضى)، فإن قضية الدور الحقيقي للدين في السياسة ليست هامشية على الإطلاق، بل هي قضية مركزية وحاضرة في سياسة الولايات المتحدة.

ويقصد بيري بالطرح "الديني" هنا طرحًا يعتمد -إلى جانب أشياء أخرى- على معتقد ديني، طرحًا يفترض مقدمًا الصحة في معتقد ديني، ويعتبر أن هذا المعتقد هو أحد منطلقاته الأساسية.

ويقول الكاتب إنَّ الاعتقادَ بأنَّ الله موجود -"الله" بمعنى الحقيقة المتعالية التي هي المصدر والأساس والنهاية لأي شيء آخر- هو معتقد "ديني"، كما هي حال الاعتقاد فيما يتعلق بطبيعة الله أو فعله أو إرادته. مثلاً: في قضية الإجهاض، ينطلق الطرح الديني في تحريمه من أساس مفاده أنَّ الله نفخ الروح في الجنين البشري. وفي تحريم العلاقات المثلية ينطلق الافتراض من أن الله أوحى بأنَّ كلَّ سلوك جنسي مثلي هو سلوك غير أخلاقي. أما الطرح العلماني فيتجه إلى التعليل والبحث عما هو "خير" لأنه كذلك، بغض النظر عن حكم النصوص، أما الطرح الديني فيما يتعلق بمتطلبات راحة الإنسان يعتمد على ما "أوحى" به الله.

ومن وجهة نظر الكاتب، فإنَّ الخلاف حول الدور المناسب للأطروحات الدينية في السياسة يشمل نقاشين: نقاشًا حول الدور المناسب دستوريًا للأطروحات الدينية في السياسة، ونقاشًا ذا علاقة، ولكنه مختلف، حول الدور المناسب أخلاقيًّا لهذه الأطروحات.

فإلى جانب المسألة الدستورية، هناك المسألة الأخلاقية: أن لا يخرق أي تصرف ما أي قاعدة دستورية لا يعني أن هذا تصرف مقبول من الناحية الأخلاقية. إن الشرعية الدستورية تستلزم اللياقة الأخلاقية ناهيك بأن تساويها.

ويُتابع الكاتب أنَّه حتى لو لم ينتهك المواطنون ولا المشرّعون أو الموظفون الرسميون الآخرون، قاعدة عدم التأسيس عند عرضهم أطروحات دينية في نقاش سياسي عام، أي نقاش عام حول الخيارات السياسية التي يجب تبنّيها؛ سيبقى هذا السؤال مطروحًا: بأخذ كل الاعتبارات في الحسبان، هل من المناسب أخلاقيًا بالنسبة إلى المواطنين وعلى وجه الخصوص المشرّعين والموظفين الرسميين الآخرين، أن يقدموا مثل هذه الأطروحات في نقاش سياسي عام؟

وعلاوةً على ذلك، لا تستلزم عدم الشرعية الدستورية عدم اللياقة الأخلاقية، ناهيك بأن تُساويها. فأن يخرق تصرف ما قاعدة دستورية، لا يستلزم أن هذا التصرف، بغض النظر عن عدم دستوريته، تصرف غير مناسب أخلاقيًّا.

ويخلُص بيري -في هذا الإطار- إلى أنَّه حتى لو انتُهِك خيار سياسي، وإذا لم يوجد طرح علماني مقبول يسانده، فإن هذا السؤال يبقى مطروحًا. بغض النظر عن قاعدة "عدم التأسيس"، هل من المقبول أخلاقيًّا بالنسبة إلى المواطنين والمشرّعين والموظفين الرسميين الآخرين أن يعتمدوا على طرح ديني في أثناء اتخاذهم قرارًا سياسيًّا حتى إذا لم يوجد، في نظرهم، طرح علماني مقنع، أو حتى مقبول، يسند هذا الخيار؟

ويُشير الكاتب في هذا الإطار إلى كتاب سابق له تناول فيه هذه القضايا والتساؤلات، وهو كتاب بعنوان "الحب والسلطة: دور الدين والأخلاق في السياسة الأمريكية".

ويلخص الكاتب ما يريد قوله في كتابه في مسألتَيْن أساسيتَيْن، وهما: الأولى: مسألة دستورية الطرح الديني في السياسة في ظل قاعدة عدم التأسيس. والثانية: مسألة العلاقة بين الأطروحات الأخلاقية المبنية على الدين والأطروحات الأخلاقية العلمانية.

القانون الدستوري للحرية الدينية

وقد حَمَل الفصل الأول من الكتاب هذا العنوان اللافت، ويناقش قضية حرية الدين التي يحميها القانون الدستوري للولايات المتحدة.

ويقول الكاتب إنَّ أهدافه الأساسية من وراء كتابة هذا الفصل؛ أولاً: عرض ما بدا له أنه التفسير الأكثر عقلانية للمعنى العام للقاعدتَيْن الدستوريتَيْن الأساسيتَيْن فيما يتعلق بالدين، وهما قاعدة الممارسة الحرة، وعلى وجه الخصوص، قاعدة عدم التأسيس. وبعد ذلك، واعتمادًا على تفسيره لدلالات قاعدة عدم التأسيس، يقدم طرحًا عن الدور المسموح به دستوريًّا للأطروحات الدينية أن تؤديه في سياسة الولايات المتحدة، وعلى وجه الخصوص الأطروحات الدينية في ما يتعلق بأخلاقية السلوك البشري.

ويتناول بيري -في هذا الإطار- بعضَ القضايا المتعلقة بالحريات الدستورية المختلف فيها فيما يخص الممارسة الدينية العامة أو العلنية، مثل الصلاة في المدارس الرسمية، وإظهار الحكومة للرموز الدينية، والدعم المادي الحكومي للتعليم الديني.

وفي الفصلين الثاني والثالث، ينتقل من قضية المسألة الدستورية وموضع الدين من السياسة في إطار الدستور، في الولايات المتحدة، إلى المسألة الأخلاقية.

ولعلَّ القضية الأهم التي يناقشها الكاتب هي قضية الحريات الدينية في المجتمع الأمريكي، وكيف كفلها الدستور الأمريكي. ويثير في هذا الإطار نقطة مهمة، وهي كلمة "الدينية" في عبارة "الحريات الدينية في الدستور الأمريكي"، فيشير إلى أنها قد لا تعني حرية المعتقد لدى البعض؛ فكلمة "الدينية" تشير إلى ضرورة إيمان الإنسان بدين معيّن، بينما هناك فئات وشرائح داخل المجتمع الأمريكي تنتمي إلى فئات "الملحدين" و"اللا دينيين".

ويقول في ذلك: إنَّ هذه القضية تطرح عددًا من الإشكاليات، حول قضية الحريات داخل المجتمع الأمريكي؛ وعلى رأسها: قضية السلوك غير المقبول مجتمعيًّا؛ هل يكون من حق صاحبه، أن يكون مُصانًا بموجب الدستور، أم لا؟!

وقضية الإلحاد مثلها في ذلك -لدى الكاتب- مثل قضية السلوك الجنسي المثلي، وقضية الإجهاض؛ فهو يتساءل عن مدى قدرة النظام القانوني والدستوري والمنظومة التشريعية في الولايات المتحدة، على ضمان حقوق مثل هذه الفئات.

ويُشير بيري إلى أنَّ هناك مستويَيْن من مستويات الحديث عن الدين في هذا الإطار؛ هما:

- المستوى الأول : مدى تدخل الدين في التشريع في الولايات المتحدة؛ بمعنى: هل يجوز أن يُمنع المثليون والفتيات الراغبات في الإجهاض، من ممارسة هذه "الحقوق"، بسبب أن الإجهاض والمثلية الجنسية، تخالفان الدين أم لا؟

- المستوى الثاني: المستوى المجتمعي لذلك الأمر؛ فالمثلية والإجهاض تخالفان القناعات الدينية لغالبية المجتمع الأمريكي، ولذلك يرى البعض أنه لا يجوز تقنينهما.

وفي حقيقة الأمر، فإنَّ الكاتب في هذا الإطار، يناقش ما يقول إنه قضية مثيرة للجدل داخل الولايات المتحدة، ربما صاحبت عمر القانون الدستوري الأمريكي، وحتى بعد أن حسمها القانون، بمنح هذه الفئات "حقوقها".

الدين في النقاش السياسي العام

ويُعتبر هذا الفصل تطبيقيًّا على الأسس المبدئية والأسئلة التي تناولها الكاتب في الفصل الأول من الكتاب؛ فهو يتناول فيه محتوى الجدل الدائر في المجتمع الأمريكي، بمختلف دوائره، القانونية والسياسية والفكرية...وغيرها، حول هذه القضايا.

وقد حَمَل الفصل الثاني من الكتاب عنوان "الأطروحات الدينية في النقاش السياسي العام"، وفيه يستنتج أنه باعتبار الأطروحات الدينية قضية أخلاق سياسية، فإنَّه ليس مسموحًا بها فقط، بل من المهم -كذلك- أن تُعرض، حتى يمكن اختبارها في النقاش السياسي العام.

ويتناول الكاتب هذه النقاشات في رؤى عدد من المفكرين الأمريكيين، واختار في هذا الإطار أطروحات اثنَيْن من أهم المساهمين في النقاش حول الدور المناسب أخلاقيًّا للدين في السياسة؛ هما: كنت غرين والت، وجون راولز. ويقول إن كليهما دافع عن موقف وصفه بأنه أقل مواءمة للتعبير عن الأطروحات الدينية في النقاش السياسي العام من الموقف الذي دافع هو عنه في هذا الكتاب.

ويبيِّن بيري سببَ عدم اتفاقه مع موقف غرين والت، وجون راولز؛ حيث يدافع كل منهما عن موقف أقل مواءمة للتعبير عن الأطروحات الدينية في النقاش السياسي العام من الموقف الذي يدافع عنه مايكل بيري.

وتطرح قضية الإجهاض إشكالية كبرى فيما يتعلق بالجانب الأخلاقي حول قضية دور الدين في رسم التشريعات، وتحديد الحدود والمحرمات داخل المجتمع الأمريكي؛ فبالرغم من أنَّ الإجهاض، قد يراه البعض حرية شخصية؛ إلا أنَّه مُرتبط بأمر قد يحد من اندفاعة هؤلاء في إقناع المجتمع بما يرونه.

فالإجهاض قد يعني إزهاق روح إنسان آخر، وهو الجنين، وهو أمر -أي إزهاق روح إنسان آخر- متعارف على أنه أمر لا أخلاقي، وهو ما يثير قضية أخرى يسمّيها الكاتب بالأطروحات الدينية المتعلقة بقيمة الإنسان؛ فكيف يتم التعامل في قضية، تتضارب فيها قيمة طرفَيْن كلاهما يتمتع بصفة الإنسانية.

قضية أخرى أثارها غرين والت في هذا السياق، وهي المتعلقة بالتناقضات التي تقع أحيانًا بين حقوق طرفَيْن متساويَيْن، وهي أن المشرع الأمريكي الذي يتم انتخابه، من المفترض أنه يمثل كل جمهور ناخبيه أمام الدولة، ويسعى لتحقيق مصالحهم، وبالتالي فقد يواجه وضعًا صعبًا لكن يُفترض عليه أن يعالجه، وهو تناقض مطالب ناخبيه منه. فهو قد يكون منتخبًا من مجموعة من القساوسة الذين يرفضون الشذوذ الجنسي ويحرمون الإجهاض من زاوية دينية، وقد يكون من بين جمهور ناخبيه أيضًا، بعض الشواذ والمنحرفين اجتماعيًّا وأخلاقيًّا.

الدين كقاعدة للخيار السياسي

الفصل الثالث من الكتاب حمل عنوان "الأطروحات الدينية كقاعدة للخيار السياسي"، وميَّز فيه الكاتب بين نوعَيْن أساسيَّيْن من الطرح الديني فيما يتعلق بأخلاقية السلوك البشري.

الطرح الأول -وفق الكاتب- هو طرح ديني خاص بقيمة الإنسان. والثاني: طرح ديني يتعلق بخيرية البشر.

ثم طرح فكرة مفادها أنه بتبنّي خيار سياسي فيما يتعلق بأخلاقية السلوك البشري، يستطيع المواطنون والمشرّعون والموظفون الرسميون الآخرون الاعتماد على طرح ديني مفاده أن كل البشر، وليس مجرد بعضهم (مثل البيض الذين لهم أولوية وأفضلية داخل المجتمع الأمريكي)، مقدسون حتى وإن لم يوجد، في نظرهم، طرح علماني مقنع يدعم القول إن كل البشر مقدسون.

وينقل الكاتب عن المفكر رونالد دروكن، أنه على الرغم من أن مصطلح "مقدس"، غالبًا ما يستعمل بمعنى "تأليهي"؛ فهو غير مستعمل بهذا المعنى على الدوام؛ حيث يمكن -من وجهة نظره- استعمال المصطلح "مقدس" أيضًا بمعنى غير ديني، أي علماني.

ثم يحاول الكاتب أن يبرهن على أنه عند القيام باختيار سياسي فيما يتعلق بأخلاقيات السلوك البشري؛ لا يجوز للمواطنين والمشرّعين والموظفين الرسميين الآخرين الاعتماد على طرح ديني في ما يتعلق بمتطلبات مصلحة الناس، أو ما يطلق عليه الكاتب مصطلح "خير البشر"، إلا إذا كان هناك، في نظرهم، طرح علماني مقنع يصل إلى النتيجة نفسها التي وصل إليه الطرح الديني بشأن تلك المتطلبات.

ويقول بيري إنَّ الخلاف السياسي الراهن في الولايات المتحدة، حول أخلاقية السلوك الجنسي المثلي، الذي يوجد في صلب النقاش حول وجوب أو عدم وجوب الاعتراف القانوني بالزواج المثلي أو على الأقل يمنح القانون الزيجات المثلية نوعًا من المركز القانوني المشابه للزواج هو إطار أساسي للنقاش حول الدور الصحيح للدين في السياسة.

ويُشير الكاتب إلى أنه استعمل هذا الخلاف لكي يبيّن الطرح الأساسي الذي يرمي إليه من وراء كتابة هذا الفصل، وهو أنه بتبنِّي خيار سياسي فيما يتعلق بأخلاقية السلوك البشري؛ حيث لا يجوز للمشرّعين أو الآخرين الاعتماد على طرح ديني إلا أن يصل، في نظرهم، طرح علماني مقنع إلى النتيجة نفسها بشأن متطلبات تحقيق مصلحة المواطنين.

كما يشرح بيري في الفصل الثالث أيضًا، قضية أن أي طرح -سواء أكان دينيًّا أم علمانيًّا- يقضي بأن كل السلوك الجنسي المثلي، هو سلوك غير أخلاقي يتعلق في الأساس بمتطلبات المصلحة العامة.

وحول سؤال: هل هناك طرح علماني مقنع بأن كل السلوك الجنسي المثلي سلوك غير أخلاقي؟ يجيب الكاتب بيري بأنه من خلال ما طرحه الفيلسوف جون فينيس، الذي حاول أن يضع قاعدةً أخلاقية علمانية، يدعم من خلالها المعتقد الديني التقليدي الذي مفاده أن كل سلوك جنسي مثلي، حتى ذلك السلوك الجنسي المثلي الذي هو جزء وتعبير عن علاقة دائمة وغير تعددية لـ"حب وفي"، هو سلوك غير أخلاقي.

ومن ثَمَّ يقول بيري إنه لا يجب الاعتماد على الطرح الديني، بأنَّ كلَّ سلوك من هذا القبيل هو سلوك غير أخلاقي كقاعدة لخيار سياسي، ناهيك عن أن يكون خيارًا سياسيًّا قسريًّا، أي مفروضًا بقوة القانون على المواطنين.

لقد وضع هذا الكتاب من يقف بين كل الذين لا يؤمنون بالدين من جهة، وعدد من المؤمنين من جهة أخرى، كثيراً من غير المؤمنين بالدين في موقف يريدون فيه تهميش دور الخطاب الديني في النقاش السياسي العام، وهؤلاء هم المخاطبون الأساسيون في طرح بيري، خاصة في الفصل الثاني والذي مفاده أنه ليس فقط مسموحًا به، بل من المهم أن تعرض الأطروحات الدينية المتعلقة بأخلاقية السلوك البشري في النقاش السياسي العام.

أما غير المؤمنين بالدين، فهم أيضًا المخاطبون الأساسيون في طرح بيري الذي مفاده أنه في تبنّي خيار سياسي فيما يتعلق بأخلاقية السلوك البشري، يستطيع المشرّعون والآخرون الاعتماد على طرح ديني مفاده أن كل البشر مقدسون حتى لو لم يوجد طرح علماني مقنع يساند الادعاء حول قداسة البشر.

والمؤمنون المسيحيون هم المخاطبون الأساسيون، في طرح بيري، الذي مفاده أن في تبنّي الخيار السياسي المتعلق بأخلاقية السلوك البشري، خاصة الخيار السياسي القسري، ينبغي على المشرّعين والآخرين أن يعتمدوا على طرح ديني يتعلق بمتطلبات راحة الإنسان إلا إذا توصل طرح علماني إلى النتيجة نفسها التي توصل إليها الطرح الديني فيما يتعلق بهذه المتطلبات.

------------------

- الكتاب: "الدين في السياسة: جوانب دستورية وأخلاقية".

- المؤلف: مايكل بيري.

- ترجمة: عربي ميقاري.

- الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2014.

- عدد الصفحات: 220 صفحة.

تعليق عبر الفيس بوك