تغريبة بني هلال الكبرى "الشامية الأصلية".. المخيال الجمعي وسمات الهوية الحضارية

 

حميد الحجري

 

تغريبة بني هلال.. سيرة شعبية تحكي هجرة هذه القبيلة العربية من نجد إلى بلاد المغرب العربي. ومادتها الأساسية روايات شفوية تنوقلت عبر قرون، واشترك في صياغتها رواة متعددون، فاعتورتها تغييرات كبيرة جدا لم تبق من أصلها التاريخي سوى أطياف باهتة. وعلى الرغم من فقدانها قيمتها التاريخية، لا تزال لها قيمة كبيرة في إضاءة سيكولوجية الجماعة وهويتها الحضارية.

وقد صدرتْ منها نسخة جديدة عن منشورات الجمل في 2014 في 622 صفحة من الحجم الكبير، دون تحقيق للأسف الشديد، ودون أدنى إشارة إلى النسخة أو المخطوطة التي اعتمدت في إصدارها. بل إنَّها لم تشتمل حتى على فهرس لفصول التغريبة، وخلت من علامات الترقيم كلها -تقريبًا- باستثناء النقطة التي تأتي على فترات متباعدة. وإذا كنا نلتمس العذر لمثل هذه الإصدارات غير المحققة في بدايات القرن العشرين، لشح الموارد المالية وندرة الكفاءات العلمية، فإنها غير مقبولة في منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. فالباحثون المتخصصون في الأدب العربي -بمختلف فروعه- كثر، ولا أحسب أن الوصول إليهم أو التعاقد معهم عسير على الناشر الجاد.

وأول مشكلات هذه النسخة غير المحققة أنها تتألف من واحد وعشرين جزءًا (الجزء في التغريبة يناظر الفصل في أي كتاب آخر)، بينما كتب على صفحتها الأولى أنها تشتمل على ستة وعشرين جزءًا. وهو خطأ لم تقع فيه حتى النسخة غير المحققة من التغريبة التي صدرت في بدايات الربع الأخير من القرن الماضي -على أقل تقدير- عن مطبعة الأندلس في بيروت، والتي تفوقت على النسخة الحالية باحتوائها على فهرس بأجزاء التغريبة، وبخلوها من كثير من الأخطاء الطباعية التي وقعت فيها النسخة الحديثة، وإن كانت القديمة لا تخلو أيضًا من الأخطاء الطباعية والإملائية.

ومشكلة أخرى تقع فيها النسخة الحديثة وتسلم منها النسخة القديمة، وهي أنَّ الأجزاء تقطع قبل انتهائها، وينقل ما تبقى من الجزء المقطوع إلى الجزء التالي. بل إنه في عدة مواضع انتهى الجزء في منتصف قصيدة، وبدأ الجزء التالي بتكملة القصيدة، على نحو لا يتناسب أبدًا مع طريقة توزيع الأجزاء التي كانت تطبع مستقلةً في السابق كما يظهر من نسخة مطبعة بيروت، ولا يتناسب كذلك مع اختصاص كل جزء بعنوان يتضمن أبرز الأحداث التي يشتمل عليها.

فضلاً عن كتابة الشعر المربع بطريقة لا تراعي خصوصيته ويظهر فيها كأنه فقرة نثرية. والشعر المربع هو ما يبنى على مقاطع، يتكون كل منها من أربعة أشطر: تأتي الثلاثة الأولى بقافية مشتركة، ويقفلها الشطر الرابع بقافية تخالف قافية الأشطر الثلاثة، وتوافق قافية قفلات المقاطع الأخرى. وهو مأخذ طباعي سلمت منه النسخة القديمة أيضًا.

وبمقارنة سريعة بين النسختين، يظهر أنَّ محتواهما تقريبًا متطابق مع بعض الزيادات والنواقص في العبارات وفي بعض القطع الشعرية، ومعظم الاختلافات تكون بالزيادة في النسخة القديمة.

وإذا تجاوزنا هذه الملاحظات -وغيرها مما يتصل بتحقيق الكتاب وطباعته- ودلفنا إلى التغريبة نفسها، ألفينا أنفسنا بصدد حكاية شعبية تمعن في المبالغات، على نحو يجعلها أقرب إلى عالم الخيال والأسطورة، وإن كانت تتأسس على جذور واقعية. ولا نبعد عن الصواب إذا قلنا إن تلك المبالغات لا تعكس مجدًا يقبع وراءها بقدر ما تعكس أوهامًا بالمجد ناشئة عن ضيق أفق وانغلاق على الذات. بل هي -بشكل أو بآخر- إعادة إنتاج -على مستوى الأدب الشفهي- لتاريخ الفتوحات العربية الإسلامية التي أسقطت عروشًا كبرى، واكتسحت شعوبًا عديدةً، وبسطت نفوذها على مساحات شاسعة من حضارات العالم الوسيط، ولكنها سرعان ما وقعت في أفخاخ الفتن الداخلية، فتراجعت الخطوات الكبيرة التي خطتها على طريق اكتساب المعارف الإنسانية الكبرى وتطويرها، وانكفأت على نفسها تجتر معارفها الذاتية التي تحفظ لها شعورها الموهوم بالفرادة والتميز.

وتحكي التغريبة هجرة قبائل بني هلال من نجد -بفعل القحط والمجاعة- إلى بلاد المغرب العربي مرورا بالعراق والشام ومصر، مبرزةً البطولات/المعجزات التي يجترحها أمراء بني هلال وفرسانهم، وانتصاراتهم العظيمة على خصومهم من أمراء المناطق التي يعبرونها والقبائل والشعوب التي تقطنها. وعلى الرغم من الأحداث التفصيلية الكثيرة جدا، تخضع التغريبة لهيكل عام واحد: ينزل بنو هلال بأعداد غفيرة جدًا بإقليم ما، فينصبون خيامهم ومضاربهم، ويطلقون إبلهم وأنعامهم على مراعيه، فيفزع سكان ذلك الإقليم، ويتنادى أمراؤه إلى تبادل الرأي والمشورة، ويستقر رأيهم على مواجهة بني هلال بأمرين لا ثالث لهما: إما أن يدفعوا العشر من أموالهم وأنعامهم ونسائهم، وينعموا بالرعي والاستقرار، وإما الحرب. ولا يكون لأمراء بني هلال وفرسانهم -بعد تداول الرأي والمشورة- سوى خيار الحرب، التي إما أن تكون مواجهة مباشرة يحسمونها بسيوفهم وبطولاتهم العجائبية، وإما أن تجمع بين الحيلة والمواجهة المباشرة. ومعظم الحيل التي تحسم المعارك إنما يضطلع بها الفارس الصنديد أبو زيد الهلالي ذو البشرة السمراء، ولا تقل في تأثيرها العجائبي ومفارقتها للواقع عن بطولات الصدام على أرض المعركة. ومن تلك الحيل: استخدامه البنج في تخدير الخصوم، واستخدامه حجر المغناطيس في كسر الأقفال، وتغيير هيئته بحيث تكون بشرته بيضاء ناعمة كالحرير، وإجادته جميع اللهجات الأجنبية، وغير ذلك. وتنتهي المعركة بانتصار ساحق لبني هلال، يتوجونه بتعيين أمير على ذلك الإقليم يكون تابعًا للأمير العربي: حسن الهلالي سلطان بني هلال.

هذا الإطار السردي العام يحكم تقريبًا جميع أحداث هجرة بني هلال في جزئها المشرقي: الجزيرة العربية، والشام، ومصر.

وفي الجزء المغربي من التغريبة: تونس وأقاليم المغرب العربي الأخرى، يبقى الهيكل العام السابق حاضرًا تقريبًا كما هو، إلا أنه بعد انتصار بني هلال فإنهم يستولون على الإقليم وينصبون أنفسهم حكامه والقائمين على شؤونه.

وفي الجزء المغربي، بعد أن استقر بنو هلال وتربع أمراؤهم على عروش المدن والأقاليم المغربية، تسلك السيرة منعطفًا مفاجئًا يتمثل في الاقتتال بين أمراء بني هلال، وتنازعهم على الأموال والنساء والمراعي، وتأخذ الدهشة القارئ لحجم الخيانات التي ارتكبها أمراء بني هلال بعضهم ضد بعض، والتي أسفرت عن مقتل قياداتهم: الأمير حسن، والأمير أبي زيد، والأمير دياب، ومقتل العديد من أبنائهم، إما غيلةً بحيل متنوعة، وإما بطرق بشعة. ولم يقتصر العرب على خيانة بعضهم بعضًا في صراعاتهم وحروبهم الداخلية، بل إنهم خانوا أيضًا غيرهم من الملوك الذي آووا بعض الهاربين منهم، وأحسنوا إليهم.

... إنَّ الجزء المغربي من تغريبة بني هلال مختلف إلى حد بعيد عن الجزء المشرقي، فبينما يتأسس الجزء المشرقي على إبراز الجوانب المشرقة لهذه القبيلة العربية، من خلال سلسلة من الوقائع العجائبية التي تدخل في عداد الأساطير، يبرز الجزء المغربي أوجهًا مظلمة كثيرة لأمراء بني هلال: كظلم الرعية، والتنافس المحموم على الموارد والنساء، واللجوء إلى الغدر في حسم الصراعات، من خلال سلسلة من الوقائع لا تخلو هي الأخرى من العجائبية.

وإذا كان الأدب الشعبي يمثل -فيما يمثل- خزان القيم الثقافية التي تعتد بها الجماعة، فإن القارئ ليتعجب كيف يسجل العرب على أنفسهم هذا الكم الكبير من وقائع الغدر والخيانة في إطار سيرة شعبية خيالية لا تبالي كثيرًا بمدى واقعية الأحداث التي تسوقها، ألم يكن بإمكان الراوي -أو الحكواتي الذي اضطلع بالدور الأساسي في صياغة هذه السيرة- أن يحذف تلك الوقائع المشينة أو يخفف من بشاعتها على أقل تقدير؟

... إنَّ الإجابة عن هذا السؤال تقتضي منا نظرتين: الأولى تاريخية، والثانية سيكولوجية.

وعلى المستوى التاريخي، يبدو لنا الجزء المغربي من التغريبة أكثر اتصالاً بوقائع التاريخ من الجزء المشرقي، في إطاره العام لا في أحداثه التفصيلية. فهجرات بني هلال من نجد إلى العراق والشام ومصر تمت على فترات زمنية طويلة، وحركتها دوافع اقتصادية وسياسية متعددة ومتداخلة. بينما ارتبطت هجرتهم إلى تونس بحادثة تاريخية معروفة، وهي استقلال المعز بن باديس الصنهاجي البربري (398-454هـ) حاكم تونس عن الخلافة الفاطمية وإعلانه الولاء للخليفة العباسي في بغداد، مما أغضب الخليفة الفاطمي المستنصر بالله (487-427هـ) وأثار حنقه الشديد. وقد كان بنو هلال في تلك الأثناء يستقرون في صعيد مصر في القسم الشرقي من النيل تحت إمرة الخليفة الفاطمي الذي فرض عليهم إقامة جبرية ومنعهم من عبور النيل باتجاه المغرب العربي. وبدافع الانتقام من حاكم تونس المعز بن باديس، شجع الخليفة الفاطمي قبائل بني هلال على عبور النيل باتجاه تونس والجزائر...وغيرها من بلاد المغرب، ومحاربة قبائل صنهاجة وزناتة وغيرها من قبائل البربر التي كانت تحكم الشمال الإفريقي. وعلى الرغم من الفروقات الكبيرة جدًّا بين التاريخ الرسمي وتغريبة بني هلال في تصوير هذه الحقبة، فإننا لا نعدم صلات -وإن كانت واهية- بينهما، كما يرى أحد الباحثين المتخصصين في التغريبة، الذي يقرر أن "الجزء الأدبي الشعبي المدون يقترب من وقائع التاريخ في مختلف النواحي في أسباب الهجرة الجماعية، وفي الشخوص الرئيسية، فمعظم قادة التحالف الهلالي مذكورون في التاريخ، ثم في وجهة الهجرة شمالًا ثم غربًا نحو بلاد المغارب"، بينما الجزء الشرقي من التغريبة "يبتعد عن الحقيقة التاريخية، حينما يقدم لنا مدنًا عربية ذات سيادة مستقلة، يحكمها يهود ونصارى ومجوس لها ارتباطات روحية قوية، وعمق ديني ممتد خارج البلاد العربية، وعرضت علينا أممًا وأقوامًا مجاورين بلاد العرب مر بهم بنو هلال وحاربوهم وفتحوا بلادهم، وكأن المهاجر الهلالي في منتصف القرن الحادي عشر قد حل محل الفاتح العربي المسلم في القرن السابع".

وبسبب الجذر الواقعي الذي يتأسس عليه الجزء المغربي من التغريبة، ظهرت تلك الجوانب المظلمة المتعلقة -في معظمها- بالصراع المرير بين أمراء بني هلال في تنافسهم على السلطة في موطن استقرارهم الجديد. وهي جوانب لا يخلو منها أي تاريخ فعلي لأي أمة من الأمم.

أما الجانب السيكولوجي المرتبط بهذه المسألة، فيعود إلى العمى الأخلاقي الناشئ عن تمركز جماعة من الجماعات حول نفسها، وانغلاقه على ذاتها في مواجهة الآخر المختلف، وهي سمة شبه عامة في سيكولوجيات معظم الجماعات، إلا أنها أكثر حدةً في الجماعات ذات النزعات الدينية أو القومية، وفي الجماعات البدائية التي لم تأخذ بنصيب وافر من التعليم كما هو شأن قبائل بني هلال. وفي سياق نفسي كهذا -حيث الآخر المختلف لا قيمة له- لا تأبه "الذات" بنظرة "الآخر" إليها، بقدر ما تعنى بنظرتها إلى نفسها؛ فتعمد -بطريقة لا واعية- إلى تضخيم أفعالها المتصلة بمفاهيمها للمجد كالكرم والشجاعة والشدة وسعة الحيلة وغيرها، ولا يهمها مطلقًا إذا بدرت منها سلوكيات قد ينتقدها الآخر كالغدر والخيانة. فضلاً عن أن الخيانة إذا كانت موجهة ضد الخصم، وتؤدي إلى انتصار الذات، فإنما هي محل فخر وتبجيل. لذلك احتفظت التغريبة ببعض تلك الجوانب السلبية في صراعها مع نفسها ومع الآخر المختلف.

ولو عدنا إلى التاريخ الرسمي، لوجدنا ابن خلدون وقد انتقد -على نحو لاذع- هجرات بني هلال إلى مصر والشمال الأفريقي، التي عملت -كما يرى- على تخريب أوجه الحضارة التي كانت قائمة فيها، في سياق انتقاده للعرب بشكل عام: "وانظر إلى ما ملكوه (أي العرب) وتغلبوا عليه من الأوطان من لدن الخليقة كيف تقوض عمرانه، وأقفر ساكنه، وبدلت الأرض فيه غير الأرض: فاليمن قرارهم خراب، إلا قليلاً من الأمصار، وعراق العرب كذلك قد خرب عمرانه الذي كان للفرس أجمع، والشام لهذا العهد كذلك. وإفريقية والمغرب لما جاز إليها بنو هلال وبنو سليم منذ أول المائة الخامسة، وتمرسوا بها لثلاثمائة وخمسين من السنين قد لحق بها وعادت بسائطه خراباً كلها، بعد أن كان ما بين السودان والبحر الرومي كله عمراناً تشهد بذلك آثار العمران فيه من المعالم وتماثيل البناء وشواهد القرى والمدر.

وإذا كان بعض الكتاب يرى أن تغريبة بني هلال -وهي مجموع الروايات الشفوية التي احتفظت بها الذاكرة الجمعية- قد سعت إلى إبراز جانب البطولة الملحمية الموهومة على حساب الحقيقة التاريخية، فإننا نرى أن التغريبة نفسها تشف بشكل واضح عن تلك النزعة التخريبية التي تحدث عنها ابن خلدون، فكل ما فيها من أحداث إنما يدور على الحروب والصراعات: إما مع الآخر المختلف، وإما بين مكونات الذات نفسها، ولا نلمس فيها أي أثر من آثار التفاعل مع الحضارات القائمة في تلك الأقاليم، في أي جانب من جوانب الحضارة المختلفة كالبناء والإعمار والعلوم والمعارف والحرف والصناعات.

وإذا كان العرب المهاجرون من بني هلال لم يعنوا بالعلوم والمعارف -كما تعكس التغريبة- فإنهم اصطحبوا معهم على طول خط الرحلة علمهم الوحيد الذي ورثوه عن أسلافهم وهو الشعر الذي يحتل -على وجه التقريب- نصف التغريبة من حيث الحضور النصي، فكل شخصيات التغريبة ينظمون الشعر، وما من موقف يمر بأحدهم إلا ينظم فيه أبياتًا، وتتراوح الأبيات بين المقطوعات والقصائد الطوال، وكلها تمزج بين اللغة الفصحى واللهجات العامية، بل هي أقرب إلى الأخيرة، على نحو يجعل منها واحدةً من أقدم نصوص الشعر الشعبي التي وصلت إلينا. وقد نظم شعراء التغريبة على بحور: الطويل، والوافر، والرجز، والكامل. وأبرزها وأكثرها تكرارًا الطويل. وهذا البحر يعرف في الشعر الشعبي باسم "البحر الهلالي"، ويبدو أن حضوره الكبير في تغريبة بني هلال هو سبب هذه التسمية. وقد جاءت بعض القصائد مربعة على مجزوء الرجز أو مجزوء المتدارك.

وقصائد التغريبة ساذجة من الناحية الفنية، وليست أكثر من نظم للأحداث التي يمر بها أبطال التغريبة، وكلها -إلا فيما ندر- تستفتح بذكر الدموع، وإن كان السياق لا يناسب الدموع مطلقًا، على نحو يجعل من هذه الافتتاحية ملمحًا أسلوبيا أساسيا يدفع إلى التساؤل: أتشير هذه الدموع في مستهل كل قصيدة إلى معاناة بني هلال في هجراتهم المتوالية أم تشير إلى نمط عربي راسخ في التفكير وهو البكاء والتباكي على الأطلال؟

وإذا كانت القصائد قد مزجت بين الفصحى والعامية مع تغليب للأخيرة، فإن الفقرات النثرية مزجت بين الفصحى والعامية، مع تغليب للأولى.

ولغة التغريبة النثرية خفيفة لطيفة، مسجوعة بطريقة سائغة، تحسن التعبير عن مقصودها، فيستشعر القارئ ما تعبر عنه من سياقات مختلفة. ففي المعارك تحضر أهوال المعارك والمبارزات، وتنطق شجاعة الأمراء والفرسان. وفي القصور تبرز مظاهر النعيم والرفاه، ويصرخ جمال الأميرات والجواري. وبشكل عام، ينتقل قارئ الفقرات النثرية من جو إلى آخر بسلاسة كبيرة وجمال آسر.

وتعتمد الفقرات النثرية على كم كبير من التراكيب والمجازات التي تتكرر كما هي في السياقات المتشابهة، ففي سياق المعركة تحضر نفس العبارات، وفي سياق الحوار وتبادل المشورة تبرز نفس التراكيب، وفي سياق وصف القصور والجواري تظهر نفس الجمل والمجازات، مما يجعل منها عدةً تعبيرية جاهزة يستدعيها الراوي أو الحكواتي وفقًا لمتطلبات السياقات التي يعبر عنها.

وتدفعنا هذه الصيغ الجاهزة المكررة على نحو مبالغ فيه إلى التساؤل ختامًا: أتكون هذه التكرارات مجرد سمة أسلوبية تطبع الأدب الشعبي في مختلف نماذجه أم أنها مؤشر بالغ الدلالة على رتابة العقل العربي الذي ألغى خصوصيات الرواة المجهولين الكثر الذين أسهموا في كتابة هذه السيرة الجمعية، والذين بقيت -على الرغم من عملية التنميط الجمعي- بعض آثار من هنا وهناك تشير إلى تعددهم؟

تعليق عبر الفيس بوك