العم محمّد الجزائري... رحلت جسدًا، وبقيت روحًا خالدة!!

لميس الكعبي

عمّي الغالي، أخاطبك وكأنّك ما زلت حيًّا ... بالأمس كنت هنا شامخًا بيننا، واليوم رحلت دوننا، وغدًا ستبقى بين جوانحي نبراسًا إلاهيّا أركن إليه حين أجزع، وقلماً ماسيّا بين أوراقي أستند عليه حين أفزع...
صدمة كبيرة زلزلت أركاني، وزعزعت كياني ووجداني حين تناهى إلى مسامعي نبأ رحيلك أيّها الغالي ..عمّي محمّد الجزائري...
لقد كانت تربطني بهذه القامة الأدبيّة العملاقة علاقة مختلفة عن الآخرين... فهو؛ أوّلا زوج خالتي الغالية عواطف ..نهر الأحاسيس، والعواطف، وأب لأبنائها الغوالي؛ أحمد، ورغد، وريّا محمّد الجزائري. وهو ثانياً قدوتي المثلى، ومثلي الأعلى في عالمي الآخر..عالم الأفكار والأقلام ...عالم الكتابة، والرّواية، والصّحافة، والإعلام .
عمّي العزيز !
أكاد لا أتذكّر إلّا بعض التّفاصيل الصّغيرة الّتي نقشها الزّمن على سطح ذاكرتي منذ سني الطّفولة الأولى.. ومنها سأسرد قصّة علاقتي بك؛ فكلّ أصدقائك، وزملائك، ورفاق دربك قد تكلّموا عن الصديق الصّدوق، والرفيق الخلوق، والكاتب المبدع، والنّاقد المقنع، والصّحفيّ الألمع ...إلّا أنا فعلاقتي بك قد كانت خارج كلّ سياق ممّا ذكرت، وتأثيرها في النّفس باقٍ مهما عمّرت...
قصّتي أيّها الغالي قد بدأت حين كنت في أحد الأيّام ضيفة عليك في بيتك الجميل الّذي ملأته بكلّ نبْتٍ أخضر بليل، وزرعت بذلك فيّ عشق الخضرة والنّبات قبل أن تزرع عشق الحروف والكلمات..وكنت أرقب حلول الظلام لأقتحم عالمك الفريد الّذي استلب عقلي وروحي، وشدّني إليه، وزرع فيّ فضول اكتشاف أسراره...كنت أجلس أسترق النّظرات إليك من بعيد ... كنتَ تحبّ الهدوء التّامّ وأنت جالس على عرش مملكة إبداعك بكلّ تواضع، وبجانبك رفيق ظلمتك الأباجور تقطع به الظّلمة، وترسم بصيص نور، وتحت المكتبة سلّة مهملاتك وقد امتلأت بورق كتابتك المشطور... كنت تكتب بكلّ الحبّ، والصّدق، والتّفاني دون انقطاع . وحين يتراءى لك خطأ تسرع إلى الورق تفتّته، وتأخذ غيره، وتمزّق، وتأخذ..والعجلة في عالمك السّحريّ على نسق متوتّر سريع تلفّ، وتدور.. عندها كنت أتساءل عن الصّمت الرّهيب، والحبّ الأزليّ الّذي كان يسكن روحك الطّاهرة الجميلة، وتلك الابتسامة العريضة الّتي كانت تميّزه، وذلك الإبداع الّذي استمرّ وما يزال بلا انقطاع... وبعد بضع سنين غادرتَ بغداد بعيدا عن مكتبتك المشحونة كتباً من أعلى السّقف إلى أسفله ...ولا أتذكّر إلّا أنّك قد زرتنا مرّة في منزلنا بالبصرة الفيحاء. كنت تحمل بين يديك كتاب(خطاب العاشقين)..
وهنا يا فقيدي الغالي كانت اللّحظة الفارقة في حياتي امتلكتُ فيها نزرا يسيرا من عطائك الزّاخر الّذي أثرى الكثيرين داخل العراق، وخارجه...
في تلك اللّحظة بدأت قصّة عشقي لـ(عشتار)...ومعها بدأت أشعر بمدى عظمة حضارتي ...حضارة عشتار - ولذلك اتّخذتها عنواناً لصفحتي على مجلّة بيادر - وحضارة بابل الضّاربة عراقة في عمق تاريخ الحضارة الإنسانيّة قاطبة..ومع تلك اللّحظة الخارقة ابتدأ مشواري الإعلامي، وارتسمت معها مسيرة حياتي.. ومن تلك اللّحظة أيّها العزيز اتّخذتك قدوة إبداعيّة أفتخر بها في جميع المحافل المحلّية والدوليّة ...وإن كنتُ أنسى فلن أنسى لقاءك على قناة دبي في برنامج الدّكتورة بروين حبيب ...فقد كان ذاك اللّقاء سببًا لي لاقتحام المجال الصّحفي والإعلامي..ثم بعدها غادرتُ أنا بدوري العراق وقد عصفت الحرب بالبصرة الفيحاء، وتركتها خرابًا وخلاء ...غادرتها إلى السّلطنة الحبيبة لأتابع مسيرتي المهنيّة..

عمّي الحبيب، بعد ذلك عاود الاتّصال بيننا ...تواصل أعتبره وسام شرف على صدري؛ حيث كنت في مغتربك البلجيكي تتابعني على صفحات التّواصل الاجتماعي الذي كنت ناشطة فيه بشكل لافت خاصّة بعد أن فتحتَ صفحة على الانستغرام، وبقيت تتابعني باستمرار....
عمّي العزيز،
كلّما أتذكّر تعاليقك على صوري، أستشفّ منها مدى افتخارك بي ...لم تكن تعاملني بجفوة البعيدين عنك، بل كنت تعتزّ بي كفرد مميّز في عائلتك المميّزة ....عندها كنت أقول في نفسي : إنّ هذا التّقدير منك لا بدّ أن يزيد إصراري، ويثبّتني على أن أمضي قدمًا دون تردّد أو توقّف ....
لقد كنت بالنّسبة إليّ شخصا استثنائيّا، لك خصوصيّة، ومكانة في حياتي؛ فأنت المثال الذي تعلّمت منه حبّ الحياة، والعطاء، والاستمرار فيه سواء كإعلاميّ، أو صحفيّ، أو مذيع، أو معدّ برامج؛ فكلّ مبدع مؤمن برسالته عليه أن ينذر حياته برمّتها فداء لأهدافه...
أتذكر حين اكتشفت بالصّدفة أنّك رسّام؟ وكنت تتنصّل وتدّعي أنّك مجرّد هاو ٍ؟! - والواقع أنّك كنت رسّاما بارعًا، وموهوبًا في ما ترسم - حينها كنت أقتبس صورك، وآخذها عن صفحتك لأضعها على صفحتي، وأفتخر بها وبك ..كنت أفتخر وأقول: هذه رسوماتك الخارقة؛ فلينظر الجميع، ويشاهد روعة الفنّ العراقي.
عمّي الفقيد،
حبّك للحياة، وللفنّ جعلك تستمرّ في العطاء، وتنوّع فيه إلى آخر لحظات عمرك.. كنت طودًا راسخًا، ولم تكن تدرك أنّك تودّع الجميع لتقدّم أروع ما عندك .. عمّي الغالي، لن أوفيك حقّك مهما استمررت في سرد خصالك، ولكن حسبي أن أقول : إن ّ فراقك سبّب لي ألماً عميقاً في قلبي، وشرخًا دفيناً في وجداني، ورجّة عنيفة هزّت كياني، وفجيعة ما بعدها فجيعة....وبعد الحزن والبكاء أدركت أنّك فعلا قد رحلت عن الحياة... قصدي جسدك قد رحل، وطيفك قد سكن الفؤاد وحلّ، وقلمك استحال تحفة ماسيّة أحتفظ بها بين أوراقي، وأستمدّ منها كلّ خصالك ونبيل الصّفات....لن أنساك، ولن تنساك الأوراق، وستبقى كتاباتك، ورسوماتك ذاكرة حيّة لدى الكثيرين ممّن يعشقون الأدب والفنّ الجميل ...رحمك الله برحمته، ورحمني اللّه بصبري على فراقك!.

تعليق عبر الفيس بوك