سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟(4)

د. صالح الفهدي

تطبيق القيم

أخبرني الصَّديق الأستاذ حاتم الطائي رئيس تحرير جريدة "الرؤية" أنَّه زار اليابان مُؤخراً؛ للمشاركة في الذكرى السبعين على النكبة الذريَّة، ضِمْن الآلاف من مُحبِّي السَّلام في العالم، يقول: إنَّ حقيبة سفره تأخَّرت في مطار دولةٍ خليجية فاستعادها بعد يومين، وفي رحلة المغادرة قدم من أوساكا إلى طوكيو، فإذا بمدير المطار وقد نزلَ من مكتبهِ واتجه نحوه مقدِّماً اعتذاره لما حصلَ من موقف تأخرّ الحقيبة، مع أنَّ سبب التأخير يعودُ للناقل الجوي، ولادخل لهم به! ولم يكتفِ بالاعتذار الشفهي، وإنّما تقدَّمت موظّفة لتسلّمه تعويضاً ماليًّا عن كلّ يومٍ تأخّرت فيه حقيبته! أيسأل سائلٌ بعد ذلككيفَ تقدَّمت اليابان؟! الجوابُ هو تحديدُ القيم التي لا غنى لليابان من النهوضِ على أركانها، والإيمان بها إيماناً عميقاً، وتحويلها إلى منهج عملي تطبيقي لا يشذّ عنه أحد. ومن أهم تلك القيم ما تعلّق بالإدارة اليابانية بُعيد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية؛ وهي: إدارة الجودة الكاملة، والعمل ضمن الفريق الواحد، وإتقان العمل الإداري وتحويله إلى قيمة ثمينة. هذه القيم أنتجت شخصية يابانية تقدّس الانضباط، وتحترم الوقت، وتلتزمُ بالنظام، وتعي قيمة الفريق الواحد، وتؤمن بإيجابيات آداب التعامل، وتقدّر أهمية الصدق والأمانة في المعاملات التجارية.

لقد حدث لي موقفٌ شبيهٌ في المملكة المتحدة حين تأخّر عليَّ وأُسرتي القطار في محطة (kings cross) بلندنلساعة واحدة فقط، فما كان من شركة القطارات البريطانية إلاّ أن تعوّضني بما يساوي قيمة تذاكر الإياب رغم أننا عُدنا في القطار اللاحق..!! هل يحدثُ هذا عندنا..؟! سواء تأخّرت في المطارِ، أو فقدتَ حقائبكَ، أو تعطّلت مصالحك فلن تجدَ التعويض.. بل ولن تجدَ حتى كلمة المواساة!

أولئكَ آمنوا بقيمٍ معيّنة، وأحلّوها محلّ التطبيقِ العملي، لا محلّ التباهي والتفاخر اللّفظي..!

ولنقف عند درسٍ يابانيٍّ عميقٍ آخر هنا، وهو أنَّ اليابان التي أُلقيت عليها قاذفة أمريكية من طراز بي-29 في السادس من أغسطس عام 1945م قنبلة يورانيوم تعادل قوتها التدميرية 16طنًا من مادة الـ"تي.إن.تي"، دمَّرت مساحة شاسعةً من مدينة هيروشيما، وخلَّفت مقتلَ نحو 140 ألف ياباني، وعاودت قاذفةٌ أُخرى بعد ثلاثة أيامٍ إلقاء قنبلة نووية أُخرى على مدينة ناجازاكي فقتلت 74 ألفاً؛ مما دفع اليابان إلى إعلان الاستسلام في 15 أغسطس 1945م لتنتهي الحرب العالمية الثانية.. هذه اليابان هي البلد الوحيدفي العالم الذي تعرّض للهجوم النووي، لكن: هل أقعدها ذلك الهجوم المدمّر، وأبادها كـ"روح وطنية"، وأنهاها كحضارةِ أمّة، وأعاق إنسانها عن النهوض، وقيّدتها الذكرى المؤلمة؟! بالطبع لم يحدث ذلك، فاليابان نهضت كما ينهضُ الأقوياء فأصبحت اليوم ثالث أعظم اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة الأمريكية والصين. لقد حدّدت لنفسها قيماً وطنية اعتبرتها هي أُسس النهضة اليابانية التي لا يمكن لها بأي حالٍ من الأحوال أن تتخلى عنها، هذه القيم هي:التعاون، وروح الفريق الواحد، والحرية، والعدالة، وتكافؤ الفرص، والشفافية، والمرونة، والطموح، والتزام سلوك الفرد بالمصلحة الوطنية، ودعم القيادات الصالحة في المجتمع والوقوف وراءها.

نعم.. تُحْيِي اليابان ذكرى النكبة النووية، لكن هل تحييها بروحِ الكراهية الممزوجةِ بعبارات الثأرِ، والممجوجة بصرخات الانتقام، والمدفوعة بمشاعر العداء والحقد للعدوّ المتسبب في تلك النكبة؟! كلاّ؛ فاليابان لم تكن لتصل إلى هذه المكانة الحضارية المرموقة لو قيّدتها هذه المشاعر، وثبّطتها تلك الأثقال..! إنّها تحييها لأن لديها "مسؤولية السعي إلى عالم بلا سلاح نووي ويقع على عاتقنا كشف وحشيّة الأسلحة النوويّة عبر الأجيال والحدود"كما يقول رئيس وزرائها شينزو آبي، بمعنى أنها تحييها من أجل بثِّ السلامِ في الأرض، ولكي تقول للعالم انظروا حالنا قبل 70 عاماً، وقارنوه بحالنا اليوم وتعلّموا كيف أن الحضارات العظيمة يمكنُ أن تقوم في ظلِّ فقدان المواردِ الطبيعية، والنفظ، والغاز، والمعادن...وغيرها من المقوّمات، لكنّها تقومُ على عاملٍ واحدٍ هو: الإنسان.

انظروا لحكمة اليابان في إحياءِ الذكرى، وانظروا لبعض الدول التي تعرّضت لغزوٍ أو لنكبةٍ؛ فهي قابعةٌ في لا تستطيع أن تتجاوز سوداوية تلك المأساة التي مرّت عليها، ولا تتخطّى تلك الكارثة التي عبرت بها، وإنّما تستعيدها بكل تفاصيلها لتحمّلها أثقالاً من الحقدِ والكراهية والبغضاء في نفوس الأجيال المتلاحقة التي يفترض أن تتخفف منها لتنظر إلى المستقبل، ولتخلق فرصاً من النَّماء والازدهار لبلدانها. ذات مرّة عارضتُ -في لجنةٍ من اللجان- اقتراح أحد الأعضاء لتسمية جسرٍ من الجسور يريدُ تسميته بـ"جسرِ الشهداء" مبرِّراً بقربه من مقبرة شهداءِ حربٍ سابقة فقلت في اعتراضي: لقد ضربت بلادنا عن تلك الذكرى صفحاً، وطويت عنها بالسلامِ ذكراً، وإن تسمية جسرٍ أو شارعٍ إنّما يناقضُ ذلك ويشكّل عبئاً على الأجيالِ القادمة.

... إنَّالروحَ اليابانية الخلاّقة، العتيّة على الانهزام، ليست وليدة الظرفِ وإنّما متجذرة في العمق الثقافي الياباني، فانظر إلى فقرةٍ من أهم فقرات ما سمّي بـ"العهد الميجي" ويعني العهد المستنير، عهد الإمبراطور "موتسو هيتو" الذي حكم اليابان في 3/11/1852م، إذ كان شاباً حكيماً، متفتح العقل، يُنسبُ إليه الفضل في إرساء قواعد نهضة اليابان الحديثة، تنص الفقرة الخامسة من العهدعلى الآتي:"سوف يجري العمل على جمع المعارف من شتى أنحاء العالم أجمع، وعلى هذا النحو سوف ترسخ الإمبراطورية على أسس متينة" هذه القاعدة وغيرها هي التي مكّنت اليابانيين من تجاوز النكبة القاسية بعد أقل من مائة عام!

نلخِّصُ القول هنا بأنَّ القيمَ ليست مجرّد كلام مسطورٍ في الكتبِ يلقّن للأسماعِ، وتردّده الألسن، وإنّما منهج عملي تطبيق قائم على الإيمان، والقدوة، والمتابعة، والمحاسبة، والتعديل، والتعزيز. وبهذا؛ فإنَّ الدول أو الأفراد ترى ثمار جهودها في منجزاتٍ ماثلةٍ على الأرضِ، وأنظمةٍ متحققةٍ في الواقع، لا في محاضراتٍ مجرّدةٍ تُلقى، وخطبٍ رنّانةٍ تُلفظ، وعباراتٍ طنّانةٍ تزخرف..!

تعليق عبر الفيس بوك