الحب (1)

أمل السعيديَّة

قبل سنتيْن، ذهبتُ لحضور فعالية في قسم الأدب الإنجليزي في الجامعة، كان قد مَضَى على انطلاقها عَشْر سنوات. وفي حفل الافتتاح ذاك، تقدَّمت أستاذة من القسم لإعلان انطلاق الدورة الجديدة، لكنها آثرت قبل ذلك أن تشير إلى زوجها الذي يجلس في الصف الأول، وتقول: "هذا الإنسان الذي وقف معي منذ عشر سنوات إلى الآن، وعلى الرغم من عمله في مجال آخر إلا أنه يُصبح متورطا معي في الإعداد لهذه المناسبة. أنا أحبك ولولاك لما تمكنت من الاستمرار. أنا قوية بك". أدركتُ حينها أنَّ النموذج الذي نتحدَّث عنه عندما نشير للزواج بوصفه علاقة بين شخصين مستقلين يتشاركان الحياة ليس مثاليًّا كما يدَّعي كثيرون. فعندما يُدرك الطرفان أنهما على نفس المستوى، يُصبح الحوار بينهما مباشراً كما هي الحياة بكل ما تعطيها من محن ومصاعب تحتاج لمن يُواجهها بخلاف العلاقة التي تنطلق من مكانة "فوق" وثمة طرف فيها يصبح في "الأسفل".. يتلقَّى الأوامر وفقط. يُصبح دَوْره لاغياً عدا ما يُتيحه له الطرف الأول، ويخسر مع هذا الإلغاء خصائص تميِّزه. ومع هذه الخسارة، فإنَّه يستحيل لآخر غير هذا الذي دخل في هذه العلاقة في البداية؛ لذلك تشعُر الكثيرُ من النساء بالتغيير فيما يتعلق باهتماماتهن التي كانتْ سبباً للمتعة وتحقيق الذات. واليوم، ومع خروج المرأة للعمل واعتمادها على نفسها، أصبح من الصعب بمكان أن تتقمَّص هذا الدور الذي يتطلب منها أن تكون الثانية، الثانية في كلِّ شيء؛ فالرجل يأتي أولاً لأنه رجل، لا عن جدارة استحقاق هذا الدور. هذه الحياة القائمة على تقبُّل الآخر وفهمه ومشاركته في اهتماماته وفي التعبير عنها، تحمل قدراً كبيراً من الحب، وتضمن استمراريته وبقاء شغف الزوجين ببعضهما في كثير من الأحيان.

ثمَّة نساء تشيليات قضَيْن أكثر من 28 عاماً في صحراء كالاما المتوحشة وبصفة يومية للبحث عن جثث مفقودة. حيث قُتل الكثير على يد نظام ديكتاتوري ودُفنوا في مقبرة جماعية. بل إنَّ بعَضْهَن بحثن عن فك، أو عظام تعود لأزواجهن، وتقول امرأة في السبعين من عمرها: "كان لابد أن نتابع البحث، سأتابع أنا بدوري، حتى لو كانت لديَّ شكوك عديدة، حتى لو كنت أسأل نفسي أسئلة لا يمكنني الإجابة عنها، يقولون إنهم قد أخرجوهم من باطن الأرض ووضعوهم في أكياس، ثم قاموا برميها في البحر. هل حقًّا قاموا برميها في البحر، ليس بوسعي الإجابة عن هذا السؤال: ماذا لو أنهم قاموا برمي الجثث في مكان قريب من هنا، في مكان ما في الجبال؟ كنا نمنع أنفسنا من اليأس؛ حيث كنا نستفيق لنبدأ ثانية في اليوم التالي ونحن أكثر تفاؤلاً مع نفاد صبرنا لإيجادهم، بعض الناس لابد أنْ يتساءلوا: لماذا نريد أن نحصل على العظام؟ أنا أريدها بشدة، وأنا لست الوحيدة في ذلك، عندما وجدوا إحدى عظام فك (ماريو) قلت لهم: "إنني لا أريدها"، قلت للدكتورة باتريسا: "أريد جثمانه كله، لقد أخذوه كاملاً، وأنا لا أريد بدوري أن أستعيد جزءًا منه فقط، وإن وجدته اليوم وكنت سأموت في الغد، فإنني سأموت سعيدة، لا أريد أن اموت قبل أن أجده". وقد نتساءل عن الأسباب التي تدفع مجموعة النساء هذه لتكبُّد هذا العناء، لنا أن نتخيَّل الحياة التي عِشْنَها مع أزواجهن، لابد أنها كانت غنية ومتوقدة.

والأدبُ العالميُّ عَرِف قصص حُبٍّ كبيرة، لا في القصص التي كُتبت فحسب، بل فيمن كتبها. بيسوا الشاعر البرتغالي المعروف كتب رسائل إلى حبيبته، نكاد لا نقرأ فيها شخصية بيسوا التي خاضتْ في الألم وعبَّرت عنه كما لم يفعل أحد. أعني أن له صوته، صوته الذي لا يمكن ألا نُميِّزه، فهذا الذي كتب "اللاطمأنينة"، نراه مُطمئنا، عطوفاً، ملحًّا، مسترسلاً في الإشارة إلى تفاصيل حياته الصغيرة في رسائل يومية حميمية وعذبة يكتبها للفتاة التي أحبها. كيف لا وهو الحب؟ بلول آيلورا الشاعر الفرنسي الذي كَتَب قصائدَ حب ورسائل إلى غالا. أحب آيلورا غالا، وكتب لها عن أحلامه التي باتت تدور حولها هي وحدها؛ ففي مرة من المرات رأى نفسه محاصراً في حصن والجنود يقيدونه وغالا معه، أخذ بندقيته، وحاول إخراجها، تمكَّن من الحصول على كلمة السر، ركضتْ غالا إلى البعيد، ساعدها هو على ذلك، لكنه بقي مسجوناً في الحصن، عزاؤه الوحيد أنه أخذها إلى حريتها. لذلك استيقظ متفائلاً.

تعليق عبر الفيس بوك