معادلات جديدة للأزمة السوريَّة

فهمي الكتوت

مثلما كان متوقعا؛ شهدتْ المنطقة حراكا سياسيا ملموسا بعد الاتفاق النووي مع إيران، بل يمكن القول إن الحاجة إلى الحراك الذي بدأت ملامحه بالظهور، سرَّعت من الوصول إلى الاتفاق النووي من قبل الأطراف المعنية كافة. فهناك علاقة متبادلة ومعقدة بين القضيتين. أعتقد أنَّ الأطراف المتصارعة أصبحتْ على ثقة بأن الأزمة تحوَّلت إلى عبء ثقيل عليهم جميعا، كما أصبحت خارج السيطرة إلى حدٍّ ما، بعد توغل الحركات الأكثر تطرفا خاصة "داعش" في الأراضي العراقية والسورية، وأصبح القاسم المشترك بين الجميع البحث عن صيغة لتوحيد الجهود لمواجهة "داعش".

فقد توالتْ المبادرات والاتصالات بين الأطراف المتصارعة على الأرض. وبرزت المبادرة الروسية التي وصفت بأنها تحتاج لمعجزة للقاء سعودي سوري، وتم اللقاء في الرياض الذي جمع رئيس مكتب الامن القومي السوري اللواء على المملوك وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في الرياض. تبعها المبادرة الإيرانية التي تتحدث عن حكومة ائتلاف وطني وانتخابات بإشراف أممي. وجاءت الاتصالات الأمريكية-السورية التي تحمل تطمينات أمريكية عبر القنوات الدبلوماسية، بأن المجموعة التي دربتها وأرسلتها إلى سوريا هي لمقاتلة داعش وليس لمقاتلة الجيش السوري. وأخيرا جاء لقاء وزير الخارجية السوري وليد المعلم مع وزير خارجية سلطنة عُمان يوسف بن علوي، الدولة الخليجية التي لعبت دبلوماسيتها دورا مهمًّا بتأمين قنوات اتصال لعدد من القضايا المعقدة.

إذن، ما هي التطورات التي أدَّت لبروز معادلات جديدة؟

دعونا نعترف أولا بأن التحالف الإمبريالي الرجعي حقق جزءا مهمًّا من خطته، والتي تتمثل بتدمير البنية الأساسية وتهشيم اهم دولتين في الوطن العربي سوريا والعراق بعد إخراج مصر من الصراع العربي الصهيوني. فقد نجحت الإمبريالية الأمريكية بعد احتلال العراق في فرض دستور طائفي ومذهبي، وإشعال حروب المفخخات الطائفية والمذهبية، واستنزاف طاقات البلاد، تمهيدا لتقسيم الدولة العراقية إلى ثلاثة أجزاء مستخدمة الحركات الإرهابية المتطرفة للابتزاز وفرض سياسة الأمر الواقع.

كما قام التحالف الإمبريالي الرجعي بتمويل وتدريب وتقديم الدعم المادي واللوجستي للحركات الإرهابية على مختلف مسمياتها، في كلٍّ من سوريا والعراق ولبنان وليبيا واليمن. وتسهيل مهمة اجتياز الحدود السورية والعراقية. وتصاعد الهجمات التكفيرية الظلامية على الأراضي السورية من الشمال والجنوب، لتحقيق اختراقات تمهد لإقامة مناطق عازلة ومحاولة تقسيم سوريا. وقد نجح المسلحون من مختلف التيارات باحتلال أجزاء واسعة من الأراضي السورية، وقد عبَّر الرئيس السوري عن ذلك صراحة بأن "الجيش السوري يواجه نقصا في الموارد الشرية".

وبالمقابل، فشلتْ "المعارضة المعتدلة" برعاية أمريكية في تشكيل حالة سياسية وعسكرية فاعلة وبديلة عن "داعش" و"النصرة"، والنظام السوري على حدٍّ سواء، وقد باءت محاولات غرفة الموك في إقامة منطقة عازلة في جنوب سوريا بالفشل. بعدما منيت بهزائم متلاحقة من جراء ضربات الجيش السوري، وكذلك المحاولات الأمريكية بإدخال عناصر مسلحة في الشمال والتي قضت عليها كمائن النصرة.

خلَّفتْ هذه التطورات ارتدادات سياسية وأمنية تركت آثارها السيئة على التحالف الأمريكي الرجعي في المنطقة؛ منها: فقدان حزب العدالة والتنمية في تركيا أغلبيته النيابية في الانتخابات التي جرتْ في يوليو الماضي؛ بسبب تورُّط تركيا في الأزمة السورية، وتوفير الدعم اللوجستي للحركات الإرهابية ضد الدولة السورية؛ فمن تداعيات التدخل التركي في الأزمة السورية، هروب رؤوس الأموال الأجنبية من تركيا بحثا عن مناطق أكثر استقرارا؛ مما أدى لتراجع الاقتصاد التركي وتراجع سعر صرف الليرة التركية امام العملات الاجنبية.

إضافة إلى بروز مخاوف تركية من انتعاش الشعور القومي الكردي في المنطقة عامة، بعد تمكن القوات الشعبية الكردية في سوريا من حمل السلاح والسيطرة على مساحات شاسعة، في كوباني والقامشلي...وغيرها؛ فقد أصبح الأكراد يشكلون دورا محوريا في المنطقة، بعد بروز الحركات الأكثر تطرفا -خاصة "داعش"- كما تمكَّن أكراد العراق من دخول كركوك في ظل تقاعس الحكومة العراقية؛ لذلك تعتبر الحكومة التركية الأكراد أكثر خطرا من "داعش"، بدليل أنها حاولت الاستفادة من "داعش" في اختراق الجبهة السورية، لكنَّ النتائج جاءت عكس ما أرادت.

وتُحاول حكومة العدالة والتنمية في تركيا خلط الأوراق باستغلال التحركات الأمنية ضد حزب العمال الكردستاني، للإطاحة بحزب الشعوب الديمقراطي الذي يحظى بتأييد الأكراد في تركيا، في الانتخابات النيابية المتوقعة في حال عدم تمكن حزب العدالة من تشكيل حكومة ائتلافية؛ فقد حصل حزب الشعوب في الانتخابات الأخيرة على 11.8%. ويسعى حزب العدالة إلى تخفيض نسبة المؤيدين لهذا الحزب إلى أقل من 10% لحرمانه من الوصول إلى عتبة الحسم، بدعوى أنه يُؤيِّد المسلحين الأكراد؛ ليتمتع حزب العدالة بنصيب الأسد في الانتخابات القادمة، التي تمكنه من التفرد بتشكيل الحكومة الجديدة.

إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الأسباب آنفة الذكر مجتمعة، وأضفنا إليها اتساع نشاط الحركات الإرهابية واستهدافها لمواقع في السعودية والكويت ورعايا دول التحالف، فيُمكن القول بأن المبادرة الروسية وما تبعها من مبادرات وتحركات إقليمية ودولية نحو حل سياسي للازمة تعتبر من أهم معالم المرحلة المقبلة.

تعليق عبر الفيس بوك