مفاهيم القوَّة الناعمة وتطبيقاتها في الحالة العُمانيَّة

 

ناصر أبوعون

انطلاقاً من تحليل وضع السلطنة في قلب "المعادلة الدولية" بعد تولي حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس مقاليد الحكم في البلاد مع بداية السبعينيات من القرن العشرين، وتأسيسه لدولة عصرية ناهضة تأخذ بأسباب التقدم، وتنطلق من فلسفة تعتمد رؤية "دولة مؤسسات" نموذجًا في صُنع القرار، ومُستندة إلى تحوُّل تدريجي في تجربة الشورى، و"البناء الديمقراطي" مما جعلها خصيصة عُمانية بامتياز، ومعتمدة على "قوة ناعمة" يُمكن للباحثين رَصْد سماتها ومحاولة المقاربة بينها وبين مكونات ذلك المفهوم والبحث في العناصر التي تقع في حيز مؤشراتها القياسية. مع الوضع في الاعتبار أنَّ مفهومَ القوة الناعمة ليس مفهوما ثابتا، بل تتغيَّر القوة الناعمة بتغيُّر وسائط وأدوات التأثير الثقافي وتحولاتها النوعية في ظلِّ تحولات مفهوم المكان والجغرافيا -وفق تعبير هبة رؤوف عزت- كما قد تُزيد وتنقص حسب رصيد رأس المال الأخلاقي للدولة التي تُريد أن تلعب دور النموذج المحتذى، وكذا رأس المال الحقيقي الذي تستثمره الدولة في هذا المجال من مخصصات وموازنات فيمكِّنها من ممارسة النفوذ والتأثير، أو تبخل به لأسباب توازنات إقليمية أو تحالفات اقتصادية، أو تهدره بالكلية فتفقد أدوات هامة في تحقيق مصالحها في الممارسة السياسية الإقليمية والدولية.

وقياسًا على مفهوم الأمريكي ستيفن لوكس في كتابه "القوة: رؤية راديكالية" بأنَّ القوة مرتبطة بتحديد الأجندة، للتأثير في سلوك الدول؛ وبالتالي لا تعني القوة بالضرورة الإكراه. يمكن الجزم بأنَّ عُمان تتحرك وفق "أجندة سياسية خارجية معلنة" تستهدف التأثير في المجتمع الدولي.

وفي تحليل لتصريحات الدبلوماسيين الأجانب قبل العرب في الصحافة العالمية، نجد شبهَ إجماع على أنَّ السلطان قابوس أسَّس مدرسة جديدة في العلاقات الدولية المعاصرة، مبنيَّة على مبدأ يرى "أن العالم يسير نحو التعاون متعدد الأطراف، وأنَّ الحواجز الجغرافية والسياسية سوف تزول قريبا". وهو ما أكده في حواره مع مجلة "ميديل إست بولسي" في نوفمبر 1995؛ حيث قال ما نصُّه: "إنَّ العالم يتضاءل وينكمش، وأنا واثق تماما أن جميع البلدان يجب أن تسير وفق هذه القاعدة، وتحاول أن تفهم بعضها البعض، وتتعاون فيما بينها، وتعمل جنبا إلى جنب لخير البشرية جمعاء". وقد لوحظت في السنوات الأخيرة بوادر واعدة تدل على أن النزاعات بين الدول صارت تعتبر من الحماقات المطبقة، وأنَّ الخلافات بين البلدان يجب أن تُحل بالمفاوضات وليس على سبيل الحرب".

وبمطالعة سائر القضايا الدولية بوجه عام، وقضايا منطقة الشرق الأوسط، نجد سلطنة عمان تلتزم سياسة الحياد الإيجابي، فتقبل دور "الوسيط النزيه" للمشاركة في حلحلة الأزمة دون أن تتدخل في النزاعات بين جيرانها، أو النزاعات الخارجية الدولية، عملاً بقاعدة "لا ضرر ولا ضِرار"، وتطبيق لمقولة السلطان قابوس الشهيرة: "لا نتدخل في شؤون الآخرين ولا نقبل التدخل في شؤوننا"، وتحتفظ بعلاقات صداقة مع جميع شركاء الأسرة الدولية.

وللسلطنة مواقف قوية في مجلس التعاون الخليجي، وخط سياسي خاص ينبع مما تمليه مصالح السلطنة، وردًّا على من يرى أن "السلطنة تعيش شبه عزلة سياسية"، فإننا نرى أنَّ هذا أحد إستراتيجيات سياسة التوازن والحياد الإيجابي النابعة من إيمان السلطان قابوس وقناعاته السياسية التي أكدها بقوله: "إنَّ من يتدخل -على المستوى الدولي- في شأنٍ ليس من شأنه كأنما ينعق في واد غير واديه"، لكن هذا لم يمنع السلطان قابوس من رعاية اتفاقات الهدنة بين شطري اليمن المتحاربين في 1994، كما لم يمنع السلطنة من توقيع عدد كبير من الاتفاقيات السياسية، والعسكرية، والاقتصادية مع جيرانها وغيرهم، وتشارك في إنهاء الحرب العراقية-الإيرانية، وتطرح رؤى لحل الأزمة اليمنية.

ومن مفهوم الأمريكي ستيفن لوكس للقوى الناعمة ومطابقته للحالة العمانية، ننتقل إلى مفهوم آخر عند "كينيث والتز" الذي اشتغل على توسيع "مفهوم القوة" ليشمل عناصر غير عسكرية، وحاول "الربط بين قوة الدولة، وامتلاك عناصر"؛ مثل: المساحة، والموقع الجغرافي، والموارد المادية، والطبيعية، والسكان، ودرجة النمو الاقتصادي، والتطور العسكري، والاستقرار السياسي والكفاءة. واستقراء لهذا التعريف، فإنه يمكن تطبيقه على النحو التالي: "تقع سلطنة عمان في أقصى الجنوب الشرقي لشبه الجزيرة العربية وتمتد بين خطي عرض 40 , 16 و20 , 26 درجة شمالا وبين خطي طول 50 , 51 و40 , 59 درجة شرقا، وتطل على ساحل يمتد أكثر من 3165 كيلومتر يبدأ من أقصى الجنوب الشرقي حيث بحر العرب ومدخل المحيط الهندي، ممتدا إلى بحر عمان حتى ينتهي عند مسندم شمالا، ليطل على مضيق هرمز الإستراتيجي؛ حيث مدخل الخليج العربي. وترتبط حدود عمان مع الجمهورية اليمنية من الجنوب الغربي ومع المملكة العربية السعودية غربا، ودولة الإمارات العربية المتحدة شمالا. ويتبعها عدد من الجزر الصغيرة في بحر عمان ومضيق هرمز مثل سلامة وبناتها، وفي بحر العرب مثل جزيرة مصيرة ومجموعة جزر الحلانيات.

ومن هذا الموقع تسيطر سلطنة عمان على أقدم وأهم الطرق التجارية البحرية في العالم وهو الطريق البحري بين الخليج العربي والمحيط الهندي. ومن هذا الموقع أيضا، اتصلت طرق القوافل عبر شبه الجزيرة العربية لتربط ما بين غربها وشرقها وشمالها وجنوبها. وتبلغ مساحة عمان حوالي 309.500 كيلومتر مربع.

كما استطاعتْ السلطنة أنْ تُرسي وتشيد ركائز راسخة للاقتصاد العماني الحديث القادر على التطور الذاتي والمتنوع؛ حيث تشهد المرحلة الحالية نقلة نوعية في حجم وطبيعة المشاريع الاقتصادية والصناعية منها والسياحية، هدفها إيجاد أكبر قدر ممكن من التنوع في الاقتصاد العماني غير المعتمد على النفط كمصدر أساسي.

وساعد اهتمام الحكومة العمانية -بتوفير البنية الأساسية كميناء صحار الصناعي والمناطق الصناعية وإنشاء المناطق الحرة ومشاريع البنية الأساسية لقطاع السياحة...وغيرها- على اجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية للبلاد. كما أن انضمام السلطنة إلى عدد من المنظمات الدولية وإلى منظمة التجارة العالمية ساعد على تهيئة الظروف أمام القطاع الخاص ليكون قادرا على التعامل مع متطلبات التحرير الكامل للأسواق وحرية انتقال السلع والخدمات ورؤوس الأموال وفى نفس الوقت إعادة النظر في العديد من القوانين والتشريعات لتتماشى مع متطلبات العولمة والاندماج في الاقتصاد العالمي.

وسعتْ السلطنة في إطار التنويع الاقتصادي المرتكز على الصادرات إلى العمل على استغلال وتصنيع مواردها الطبيعية لا سيما الغاز الطبيعي والى زيادة القيمة المضافة لتلك الموارد حيث كثفت الحكومة جهودها للترويج لذلك وأثمرت تلك الجهود إلى توقيع اتفاقيات لإنشاء بعض المشاريع الصناعية الكبرى في ولاية صحار كمشروع مصفاة صحار ومشروع البولي بروبلين ومشروع ليوريا والامونيا ومشروع الميثانول ومصهر الألمنيوم ومشروع الصلب والحديد وغيرها من المشاريع بالإضافة إلى مشروع الأسمدة في ولاية صور ومشروع شركة قلهات للغاز الطبيعي المسال.

وفي الجانب السياحي، حظي قطاع السياحة والثروة السمكية في السلطنة باهتمام كبير؛ نظرا لما يمكن أن يقدمه من ‏إسهامات في إطار سياسة تنويع الاقتصاد العماني؛ حيث يجري العمل لبلورة إستراتيجية ‏وطنية لتطوير السياحة، كما يتم العمل في عدد من المشروعات السياحية كمشاريع الطرق إلى المناطق السياحية وإقامة الفنادق بالمحافظات وولايات السلطنة ومشاريع تأهيل المسارات الجبلية...وغيرها من مشاريع البنية الأساسية، خاصة بعد أن ‏أصبح مهرجان مسقط ومهرجان صلالة من أهم المهرجانات على مستوى المنطقة.

وتعريجًا على مفهوم القوى الناعمة عند "جوزيف ناي" الذي يعنى بعناصر "القوة غير المادية" مثل: "الثقافة والقيم"، وعرفها بأنها "قدرة الدولة علي الحصول على ما تريده بالاعتماد على الجاذبية، بدلا من الإكراه"؛ حيث تتمكَّن الدولة من الحصول علي النتائج التي تريدها؛ لأنَّ الدول الأخرى مُعجبة بنموذجها، وتحاول أن تتبعه، وليس لأنه يتم إكراهها علي ذلك. وإضافة إلى القوة الناعمة (للإبداع، ونشر الإبداع)، فإنه مع ثورة المعلومات، أُضيف عنصر جديد لقوة الدولة، حيث أصبح من عناصر قوة الدولة وهو (امتلاك التكنولوجيا والمعلومات)، و(القدرة على إنتاج التكنولوجيا المتطورة) عن طريق الاختراع. يمكننا القول بأن سلطنة عُمان ماضية في هذا التوجه ضمن خطة خمسية اتخذت من إرساء مبادئ الحكومة الإلكترونية منهاجًا للعمل، والتقارب الثقافي بين الشعوب منصةً للتواصل، والانفتاح الاقتصادي رؤيةً للتنمية وجذب الاستثمارات.

Nasser_oon@yahoo.com

تعليق عبر الفيس بوك