إنسانيّة القائد والقيادة الإنسانيّة

سلمى اللواتية

s.allawati@hotmail.com

عندما صدح محمد - صلى الله عليه وآله وسلم- بندائه الخالد في جوابه لعمّه أبي طالب قائلا:" والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يظهره الله أوأهلك دونه". لما قال الرسول الأكرم هذه العبارة حين عرضت عليه قريش زعامتها وريادتها وأموالها لم يكن قاصر النظر في رفضه، وأظن أنّ قريشًا لم تكن تفهم معنى اتساع آفاق الشمس والقمر التي كان يقصدهاالنبي الأكرم (صلى الله عليه وسلم)، وهي التي لم تعرف سوى جوارها الجغرافي المتواضع من فرس وروم وأحباش، وبعض أساطير من هنا وهناك، بينما كان هو يرى ما وراء نهايات القطبين وأبعد من مساحات فاسكو دي جاما والأمريكتين وأطراف أرجنتينا وسهول الهملايا والتبت، حين قالها كان يرى شعاع رسالته يصل إلى أبعد منهناك، وكان يرى الإنسان - المخلوق المعجز - قادر على أن يوصل السعادة التي أتى بها والعبق الذي حمله من السماء إلى أقاصي الأرض، السعادة التي تصنع الإنسان ليصنع إنساناً آخر في تمازج دورات حضارية متكاملة تنتقل من محطة إلى أخرى؛ يخلق فيها الإنسان القيادي (الرسالي) الملتزم أبعادًا أعمق للتسامي الروحي، والاستقرار الاجتماعي، والتطور المادي في تراتيبية وانسجام فريدين لا يفهمهما سوى ذات القائد الرسالي الذي تكاملت شخصيّته الدعوية التي وُجدت لتحمل رسالة السعادة السماوية لبني الإنسان. في رأي العقلاء لايصح أن يترك القائد خلفه فراغًا يضيّع من بعده جهوده التي بذلها لأجل إقامة الأمْت والعِوج في المجتمع الذي كان فيه، وخاتم الرسل كان يدرك أنّ في منهاج رسالته الخاتمة ما يُكمل السبل بعد رحيله ولا يكمل السبيل كالشخصيّة الرساليّة الواعية بأدوارها الاجتماعية التي ترتفع بالدين من النظرية الجامدة إلى الحياة الفاعلة في تطبيقات المجتمع. قال تعالى:" وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون "لست أود هنا الخوض في تفسير الآية الكريمة، ولكني أفهم فيها ضرورة وجود قادة رساليين مصلحين في كل مناحي الحياة يوجهون القوم نحو الأصوب والقرار الأسلم، في قبالة ذلك تحضرني آية أخرى في قوله تعالى:" وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين "الأنعام 33.

بين التكليف السماوي والواقع المثالي الذي يتمناه القادة الرساليون لأقوامهم وأممهم ومحيطهم الاجتماعي تبرز تحديات الواقع الاجتماعي الأليم في حسّ الإكبار الذي يتعرض له القادة المصلحون، والذي تأتي منه الصفات النفسية والسلوك الاجتماعي الجارح الذي يتعرّض إليه هؤلاء الذين ينشدون العودة إلى أصل الفطرة البشرية؛ ليهذّب القرآن أبناءه بوضعهم على أرضية الحقيقة الاجتماعية التي ستعترض طريقهم وهو الذي ينتشلهم من فخ اليأس والإحباط الذي لو وقعوا فيه تبعثرت طاقاتهم وتَشتتَ من بعدهم متبعوهم ومريدوهموهو ما نبهت إليه الآية الكريمة من سورة الأنعام. مر عليّ خلال تصفحي لبعض المواقع عبارة لا أذكر قائلها، ولكنني أذكرها وهي :( لا يجوز للمثقف أن يتشاءم) نعم فلو كان المثقف رساليا ويحمل هما اجتماعيا وجب عليه الارتفاع عن التشاؤم الذي يضعف الهمم ويثبط العزائم، وفي ذات السياق يأتي الدعاء كمنهج تربوي رسمه الإسلام ليرتفع الرسالي بآلامه من سطح الأرض إلى عنان السماء حيث التنفيس لمن لايسيء الفهم ولا يختلق الظنون وربما مرورٌعلى دعاء مكارم الأخلاق للإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)يلقي الضوء على المنهج التربوي الذي يحتاجه المتصدِّر للمجتمع، من ميزات هذا الدعاء أنّه يتدرّج في بناء الشخصيّة الإيمانيّة القيادية في المجتمع بالبناء الداخلي أولا بإصلاح النيّة في قوله:" .... وانته بنيتي إلى أفضل النيات وبعملي إلى أحسن الأعمال، اللهم وفر بلطفك نيتي وصحح بما عندك يقيني...." إلى أن يصل إلى مكامن القوة في القيادة الاجتماعية في قوله:" واجعل لي يدا على من ظلمني، ولسانا على من خاصمني... وسلامة ممن توعدني.." فالقائد بلاشك بحاجة إلىمساحة ترد كيد المخربين للحق الظالمين له، كي يحجّم من انطلاقتهم المفسدة لتصل الفقرات إلى قوله:" وسددني لأن أعارض من غشني بالنصيحة، وأجزي من هجرني بالبِر وأثيب من حرمني بالبذل... وأخالف من اغتابني بحسن الذكر" وفي فقرة لاحقة:" وألبسني زينة المتقين في بسط العدل وكظم الغيظ وإطفاء الثائرة وضم أهل الفرقة، وإصلاح ذات البين وإفشاء العارفة، وستر العائبة ولين العريكة وخفض الجناح وحسن السيرة... والسبق إلى الفضيلة... ولزوم الجماعة ورفض أهل البدع..." في نظري أن الدعاء يقدم أنموذجًا كاملاً للقائد المؤمن الرسالي الذي يخوض المجتمع عارفًا بلهواته وتحدياته في تهيئة نفسية رائعة وبيان واضح لما قد يجده خلال خوضه ذاك العُباب، وهو العامل الوقائي الذي يقي من الصدمات المحبطة، في ذات الوقت فإنّ المتأمل للدعاء يجد في طيّاته علاجات اجتماعيّة لمشاكل الإكبار والتصدي من قبل الجُهّال كما أنّ الدعاء بين طيّاته يخضع النفس ويوجهها نحو التعبّد الخالص لله - جل وعلا- ويحمل بين ثناياه ما يقي الداعية من الغرور والكِبَرِ والعُجْب الذي لا تقل عواقبه الوخيمة خطرًا عن عواقب اليأس والتشاؤم، ليكون مدرسة متكاملة في بناء الشخصيّة الإيمانيّة التي تستطيع الارتفاع إلى السمو الرسالي الذي كان يرى آفاقه الرسول الخاتم (صلى الله عليه وسلم) حينها كان يعلم - صلى الله عليه وآله وسلم - أنّ الشمس والقمر سيأتيانه طوعا عندما يتخرّج قادة مؤمنون أفذاذ من مدرسة الإيمان الخالدة التي كتبت على نفسها تحقيق السعادة لهذه البشرية، إنّها السعادة التي ترفض أن تظل طقسًا روحيًا واهمًا في دور العبادة، بل تسعى لأن تكون حركة فاعلة بداخل المجتمع ترسم له معالم السلام والانشراح الأبديين.

s.allawati@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك